الشارع المغاربي: بحلول موسم الصيف يتطلع التونسيون كبارا وصغارا ٍالى قضاء عطلة واعدة بالراحة والترفيه يروحون خلالها عن أنفسهم بعد عام طويل من الٍارهاق والضغوطات النفسية سواء في العمل أو في المدارس والجامعات. لذا باتت عدة أسر تفكّر في كيفية قضاء العطلة الصيفية التي أصبحت ضرورة لتجديد الطاقة والنشاط استعدادا لعام جديد من العطاء لكن هل مازال التونسي في الفترة الراهنة ومع غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار قادرا على الخلاعة والِاستمتاع بالصيف ؟
لا شك أن نسق الحياة والأحداث المتواترة على الصعيدين الٍاجتماعي والسياسي وتأثيرها على ميزانية العائلة مع مصاريف شهر رمضان والأعياد تحوّل برمجة التونسي وعائلته لقضاء العطلة الصيفية و”الخلاعة ” من فرصة للراحة والإستجمام الى عبء إجتماعي ومادي ثقيل على الأسرة .
فالصيف أقبل وأقبلت معه المشاريع. فهو يحمل معه مناسبات الفرح كالنجاح الدراسي )الباكالوريا ( والزواج ومواعيد الرحلات والسفر وغيرها الكثير من مناسبات ٍاجتماعية تزداد وتيرتها في الصيف دون غيره من الفصول . وبالتالي يجد السواد الأعظم من التونسيين أنفسهم مُقبلين على مناسبات إنفاقية متعدّدة ومتتالية . فهل يمكن للأسرة التونسية التحكم في ميزانيتها خلال هذا الفصل حيث الموارد محدودة والٍاحتياجات لا تكاد تنتهي؟
لا غرو في أن المصاريف والنفقات همّ يشغل بال الكثير من الأسر ويزداد هذا الهم في العطلة الصيفية وما تستلزم من إنفاق على نشاطات الترفيه. والثابت أن الصيف هو فصل الخرق المتواصل للميزانية التي تربكها الحاجة إلى التنزه والتنقل إلى الشاطئ والأكل الخفيف المتنوع وطلبات الترفيه الأخرى لاسيما أن الطريق محفوف بالمغريات مما يدفع أحيانا التونسي للإنفاق بلا شعور ولا حسابات. ويعود ذلك إلى طبع التونسي الذي يحب الصيف ولا يحرم نفسه من “الخلاعة” مهما كانت إمكاناته المادية باعتبار أن الترفيه حق لكل المواطنين وليس حكرا على الفئات الميسورة. فالخلاعة بالنسبة للعائلات التونسية ليست من الكماليات وإنما ضرورة رغم أن أغلبها لا يخطط ولا يبرمج مسبقا للاصطياف ويقبل على البحر والشواطئ التي تعتبر من الأماكن المحبذة رغم معاناة التنقل بالنسبة للفئات الشعبية إذ لا تسمح ظروف أغلبها بالكراء والبقاء لفترة طويلة للاستمتاع بالبحر ولذلك تفضّل استغلال كل الفرص المتاحة لها وخاصة عطلة آخر الأسبوع للتحول بكبيرها وصغيرها وأحيانا حتى برضيعها ومريضها منذ الصباح الباكر لحجز مكان على حافة البحر مصحوبة ببعض المأكولات والمشروبات والمظلات توقيا من أشعة الشمس. كل شيء يهون من أجل قضاء يوم كامل والاستمتاع بالبحر بأقل التكاليف.
الكثير من العائلات التونسية تستمتع بعطل صيفية على الشاطئ بعد تخصيص مقدار من المال وحرمان نفسها من عديد كماليات الحياة واللجوء إلى الاقتراض تحت ضغط الأبناء.
وليس خافيا على أحد أن المواطن متوسط الدخل أو حتى الفقير يضطر أحيانا دون رغبة منه لمجاراة ميسوري الحال وتراه يذهب بدوره للسياحة ويسافر رغم أن وضعه المادي لا يسمح له بذلك. فالتونسيون يصرّون على الإستمتاع بصيفهم رغم كل شيء والأمر بالنسبة لهم لا يقبل المساومة.. الكثير منهم يختارون الهرب من ضجيج المدينة إلى الشواطئ الممتدة من طبرقة شمالا إلى جرجيس جنوبا . لا وجهة في تونس خلال الصيف إلا البحر… تقليد يصر الكثيرون على الحفاظ عليه ويقصدون مدن طبرقة وبنزرت والحمامات وسوسة والمنستير وجربة وغيرها التي تعج بالسياح الأجانب ويستأجرون منازل مطلة على الشاطئ . لكن إرتفاع كلفة الإيجار تدفع البعض إلى البحث عن خيارات أخرى.
كما أن هناك شريحة عريضة من المواطنين والأسر التونسية لم تجد في قاموسها معنى للإجازة الصيفية فقد حرمت تماما من برامج السياحة وأنشطتها الترفيهية وأبعدت عن الصيف ومزاده فهي لا تعرف عنه سوى إنقطاع أبنائها عن الدراسة والإرتفاع المحسوس في درجة الحرارة . وبسبب ظروفهم المعيشية الصعبة هي غير قادرة على زيارة البحر ليوم في الأسبوع ولا حتى شراء مثلجات قد تخفف من حدة الحرارة ويقضي عديدون عطلهم في البيت أو في المزارع خاصة في المناطق الداخلية وخصوصا في الأرياف حيث الإنشغال بجمع المحاصيل الزراعية فيما ينكب الأطفال في تلك المناطق النائية على مساعدة عوائلهم وبالتالي فهم يجهلون طعم الإستمتاع بالعطلة . فأبناء الفقراء لا قدرة لديهم للتخييم ولا للإستجمام لإعتبارات الوضع المادي والإجتماعي فالراحة لا مكان لها عند هؤلاء فأوقات العطلة فرصة لتوفير مصاريف دراستهم للعام المقبل كما أنه وعكس الفرص المتاحة لأبناء الميسورين فإن الإشتغال وفي أعمال شاقة أحيانا يكون مصيرا محتوما لأبناء الفقراء فنجد هذه الفئة المسحوقة من يتجه لبيع الأكياس البلاستيكية في الأسواق أو بيع الورود والغلال أو الفواكه على قارعة الطريق ومنهم من يتجه إلى بيع الأكلات الجاهزة ومنهم من يتجه إلى أوراش البناء في ظل شروط صحية وأمنية خطيرة . ويظل الهم الوحيد هو توفير المقدور عليه من المال لإقتناء مستلزمات الدراسة من كتب وأقلام ودفاتر وبالتالي لا معنى لهؤلاء لشيء إسمه عطلة صيفية .
رغم أن الحق بالعطلة وبالراحة يجب أن يتمتع به كل إنسان إلا أن التونسي في الفترة الراهنة بات غير قادر على أخذ قسط من الراحة ومن العطلة التي تحق له بسبب غلاء المعيشة وتدهور المقدرة الشرائية فهذه الرغبة تصطدم مع واقع مرير بين رغبة الإستمتاع بالخلاعة وبين تدهور إمكانياته المادية في تحقيق ذلك . ما الذي يمكن أن توفره اليوم دولتنا وحكومتنا لكي تضمن على الأقل لذوي الدخل المحدود الإستمتاع بالعطلة ؟ ماذا أعدت أو تعد له لهؤلاء الأشخاص ولاسيما الأطفال والشباب في المناطق الداخلية والنائية ؟ أليس موضوع العطلة الصيفية وتمضية أوقات الفراغ هي مسؤولية ليس فقط الدولة والمؤسسات الحكومية ولكن أيضا البلديات والجمعيات ؟ هل أصبحت الخلاعة في الفترة الراهنة حلما صعب المنال لدى الأسر التونسية؟
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 25 جويلية 2023