الشارع المغاربي: تتسابق الأحداث وتتلاحق في النيجر، البلد الهادئ والصديق، وذلك منذ الانقلاب المسلح الذي أطاح بالرئيس محمد بازوم منذ أسبوعين. وقد أدى هذا الانقلاب إلى غليان دبلوماسي واصطفاف حاد في مواقف دول الجوار والقوى المهيمنة ، وذلك عكس ما حدث في بلدان الساحل التي شهدت هي الأخرى انقلابات عسكرية .
فالتطورات في مواقف أهم العواصم الدبلوماسية سلطت الضوء على منطقة الساحل الإفريقي التي كانت ملعبا خاصا باللاعب الفرنسي دون سواه .
منطقة الساحل والصحراء هي الجارة الجنوبية لمنطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا وهي بالتالي في قلب العمق الاستراتيجي لأمن المنطقة المغاربية بأسرها وتبعا لذلك هي عنصر هام يحدّد أمن الحوض الغربي للمتوسط.
الموضوعية تقتضي منا أن نحسب ما حدث في النيجر انقلابا على الهيمنة الفرنسية في هذا البلد الإفريقي. فبعد أن خسرت باريس مواقعها في مالي وفي بوركينا فاسو خسرت موقعا تقليديا لها في إفريقيا ربما يكون الأهم وهو النيجر. فخسارة نيامي هي عسكرية ولكنها بالأساس اقتصادية لأن يورانيوم النيجر هو أهم مصدر للكهرباء الفرنسية. ومن هنا نفهم التحريض الذي تمارسه باريس على بلدان إيكواس وهي المجموعة الاقتصادية لبلدان غرب إفريقيا من أجل التدخل العسكري في النيجر لإعادة الشرعية وعودة حليفها الرئيس بازوم. غير أن هذا الخيار العسكري على جديته ومخاطره الحقيقية يصطدم بمقاومة شعبية في هذه البلدان ويتباين مع ما يبدي الموقف الأمريكي من ضبابية أو ما يشبهها… لكن هذا الخيار العسكري هو بلا شك خيار فرنسي تريد باريس تنفيذه ببنادق إفريقية لخلق واقع جديد تستثمره لاسترجاع ما خسرت في منطقة الساحل… في حين أن هذا الملف يحمل أخطارا ومهالك تهمّ بشكل أول ومباشر النيجر ثم بلدان الساحل ثم منطقة شمال إفريقيا. تهمّها بدخول منطقتها في صراع القوى الدولية الكبرى في سباقها نحو الهيمنة والتحكم في المقدرات الطبيعية والأسواق الواعدة. وتهمّها كذلك لأنها أولى ضحايا تصدير الفوضى إلى جميع دول الجوار. فدخول النيجر في الفوضى يهدّد استقرار الجزائر ويزيد من المخاطر في ليبيا ويصب الزيت على نار السودان المشتعلة ويهدّد موريتانيا ويرسل شظاياه إلى تونس الغارقة في مشاكلها بل سيغرق البحر بمراكب المهاجرين ومراكز إيواء لمبيدوزا بلاجئين جدد..
إن التداعيات الدولية لانقلاب النيجر ستزيد من دفع أعداد كبيرة من المهاجرين والمهربين والإرهابيين نحو الشمال وربما ستتحمل ليبيا النصيب الأخطر من نشاط الجماعات الإرهابية ومن توافد المقاتلين الأجانب عليها وقدوم المهاجرين إلى حدودها.
وربما ستكون الجزائر منشغلة أكثر بتداعيات الفوضى في النيجر نظرا لامتداد الحدود المشتركة بين البلدين وما يربطهما من اتفاقيات اقتصادية وأمنية في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير النظامية. كما تمثّل النيجر ممرا هاما للجزائر نحو قلب إفريقيا وخصوصا مشروع الطريق العابر للصحراء وأنبوب نقل الغاز النيجيري عبر النيجر والجزائر نحو أوروبا.. وستقبل الجزائر أعدادا كبيرة من المهاجرين القادمين من النيجر مما سيتسبب في أزمة إنسانية لكمّ هائل من اللاجئين الذين سوف يلتحقون أيضا بدول الجوار الجزائري. كما يشكّل انتشار الفوضى في النيجر تهديدا جديا للنظام الجزائري خاصة في ما يتعلّق بالحركات العرقية والانفصالية والإرهابية وانتشار الجريمة المنظمة خاصة في الجنوب.
في ليبيا سيشكّل تزايد الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر عبئا اجتماعيا ومسؤولية على البلاد خاصة بعد ازدياد غرق المهاجرين في عرض البحر ومن بينهم نيجريين ناهيك عن وضعهم المتردّي في مراكز الإيواء. وسيسهل كذلك على أطراف الصراع في ليبيا تجنيد المرتزقة من النيجر للقتال في صفوفهم. لكن الأخطر هو عودة عناصر تنظيم “داعش” الإرهابي للنشاط في ليبيا بعد تدمير إمارتهم في سرت وفرارهم إلى دول الساحل وحوض بحيرة التشاد. فالنيجر تشكّل نقطة عبور رئيسية لهذه العناصر المتطرفة بين معاقلها الجديدة في الساحل ومعاقلها القديمة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط أو لعلها تجد من جديد من يحرّكها لتأبيد الفوضى بهدف استثمارها..
أما في السودان حيث يشتعل قتال مدمّر بين الجيش وقوات التدخل السريع، فإن الفوضى في النيجر سوف تغذي الحرب الجارية هناك وذلك جراء التداخل القبلي والمذهبي بين البلدين الذي ستستفيد منه قوات التدخل السريع.
وتخيّم على موريتانيا أجواء من القلق لأن ديمقراطيتها الناشئة باتت على مرمى حجر من الفوضى التي تعيشها بلدان الساحل الذي تنتمي اليه.
إن هذا الوضع الجديد في منطقة الساحل والصحراء يشكل تهديدا جديا لبلدان المنطقة وكذلك لكل منطقة المتوسط. فالدفع نحو التدخل العسكري هو بمثابة فتح أبواب الفوضى على مصراعيها وهو لا يعدو أن يكون سوى إشعال للمنطقة بأكملها بشعار عليّ وعلى أعدائي. وسيكتوي الجميع بهذه النار والجميع تعني هنا الشعوب والأنظمة وكذلك مآسي الهجرة غير النظامية وتبعاتها وأعداد أكثر من الغارقين في المتوسّط وازدهار شبكات الاتجار بالبشر العابرة للبحر.. كل هذا يجعل المنطقة بأسرها أمام خيارين: خيار التدخل العسكري الذي سيولّد لا محالة الفوضى الهدامة باسم الدفاع عن الشرعية أو خيار الحل السلمي الذي يحترم سيادة الشعوب ومصالحها العليا وحقها في العيش بكرامة على أراضيها والتحكم في مقدرات بلدانها من أجل تنمية شاملة بعيدا عن الوصاية وعن كل آليات الاستعمار الجديد باختلاف لونه أو لغته.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 أوت 2023