الشارع المغاربي: الفكرة في تونس اليوم مع الاحداث الاخيرة بما فيها من ايقافات وتهديد ووعيد العادة من رئيس الجمهورية قيس سعيد ان الاوان حان لفتح ملف رجال الاعمال وخاصة منهم المشمولين بمرسوم الصلح الجزائي الذي يمثّل حجر الاساس في المشروع السياسي لسعيد.
خلال زيارته مؤخرا الى مقر لجنة الصلح الجزائي كشف قيس سعيد بوضوح عن منهجية عمل هذه اللجنة لبقية عهدتها )تنتهي في غضون شهر) . منهجية ستكون على قاعدة الخلاص للخلاص أي تسديد المبلغ الذي تحدده اللجنة كاملا أو التتبع . من المؤكد ان ما طرحه سعيد يصب في جوهر قانون الصلح الجزائي لكنه يتناقض في المقابل مع فلسفة هذا المرسوم الذي قُدم كمسار مصالحة شاملة وعادلة تقطع مع سياسات الافلات او الابتزاز والمقايضات او التسويات او “زواج المال والسياسة” التي سادت خلال السنوات العشر السابقة.
يذهب البعض الى التأكيد على ان زيارة سعيد الى لجنة الصلح هي اعلان فشل هذا المسار الذي كان يطمح الرئيس في ان يمكن من تعبئة 13 مليار دينار مما يسميه ” اموال منهوبة” ستوجه 20 في المئة منها لتمويل الشركات الاهلية . وقال الرئيس خلال لقائه باعضاء اللجنة ان امامهم )المعنيون بالمرسوم) اياما قليلة لتسوية وضعياتهم. لاءات سعيد ثلاث في هذا الاتجاه ” لا نقاشات” و”لا تعديل في قيمة المبالغ المحددة سنة 2011” و”لا مهلة زمنية جديدة إما الدفع أو التتبع”.
ما خفي
لا تزال المعلومات شحيحة عن خفايا تصريحات قيس سعيد الاخيرة حول المعنيين بالصلح الجزائي. فخلال لقائه بأعضاء اللجنة تطرق بالتلميح الى عدد من الملفات أثقلها قال انها تتعلق بشخص معني بدفع 3000 مليون دينار وملف اخر تم ايقاف الاجراءات بخصوصه بسبب المبلغ المطروح. المتأمل في بعض التفاصيل التي قدمها سعيد ورباعي اللجنة ان الاشكاليات المطروحة خلال ذلك الاجتماع او المعطلة لمسار الصلح الجزائي تتعلق بقوانينه وان الرئيس يضع اليوم استنادا الى تصريحاته تجاوز مقتضيات المرسوم من تحريات ومفاوضات واختبارات .
لذلك وضع اجتماع سعيد مع اللجنة وما تضمن من صريحات غير مسبوقة، طبيعة الخطوات اللاحقة او الأهداف اللاحقة للرئيس مثلما يقال اليوم في الكواليس. صواريخ سعيد يبدو انها ستتجه نحو أصحاب رؤوس الاموال الذين انطلقوا منذ فترة في نقاشات داخلية و” طلبات توضيحات” وتحديدا ان كانوا محل استهداف من السلطة السياسية ضمن ما يسمى بالمحاسبة. الواضح ان للمعنيين الاجابات الكافية عما طلبو من توضيحات . فشهادات بعض من قدموا طلبات صلح جزائي اكدت ان ” ملفاتهم معطلة منذ شهر مارس المنقضي” وان اخرين استخلصوا ان ” الوقائع الجديدة تشير الى ان الصلح سيكون بالطريقة التي ستحددها السلطات حتى وان كانت غير واقعية”.
تُذكّر الحركية في صفوف رجال الاعمال بحدث لا يقل اهمية يعود الى حكومة الياس الفخفاخ. الامر يتعلق باقتراح العودة الى المصادرة كـ ”مقاربة رئاسية حكومية لمواجهة الازمة المالية التي تعيشها البلاد والتي تعمقت مع جائحة كوفيد” . اقتراح كان محل نقاشات حادة في عدة مجالس وزارية فيما كشف رجال اعمال انذاك عن لقاءات جمعتهم بمسؤولين بارزين في الحكومة على رأسهم وزير المالية نزار يعيش طرح خلالها تقدي ” مساهمات” مُوجبة بعنوان “التضامن الوطني” . كان خيار تلك الحكومة التقليص أقصى ما يمكن من الاقتراض الخارجي والبحث عن حلول من الداخل على غرار ما قامت به المملكة المغربية التي نجحت في تعبئة مليار دولار 10) مليارات درهم( متأتية أساسا من تبرعات رجال اعمال ومجمعات كبرى.
انهى سقوط تلك الحكومة مخاوف رجال اعمال ” تكتلوا” لمواجهة اية اجراءات تستهدفهم ويتداول انه جرى بينهم اتفاق يقضي بعدم القبول بدفع أي مليم دون سند قانوني وتحت أي ضغط سياسي كان. تنصّلت مختلف مكونات حكومة الفخفاخ من تلك العملية وكانت لرجال الاعمال ضمانات تلقوها من رئيس منظمة الاعراف سمير ماجول الذي كان حتى وقت قريب من اكثر ضيوف الرئيس بألّا تكون هناك قرارات مصادرة جديدة ولا أي شكل من اشكال الضغوطات السياسية عليهم وبأن تشمل الاجراءات فقط المعنيين بنهب المال العام ليطرحها بعد ذلك بسنة ونصف مشروع الصلح الجزائي ثم صدور في مرسوم خلال شهر مارس 2022 .
ورغم الجدل حول المرسوم والانتقادات الموجهة لفصوله غير القابلة للتطبيق وفق خبراء فقد كانت هناك استجابة من جزء ليس بالهيّن من المعنيين به ممن اعتبروا انه حلّ لطي صفحة الابتزاز وغلق ملفاتهم بالكامل وايقاف التتبعات التي طالتهم طيلة اكثر من عشر سنوات . تلك الاستجابة كانت بمثابة خطوة في ” اتجاه التطبيع” مع السلطة السياسية وحسب قراءات اخرى لتجنب الاسوإ واستسهالا للتوصل الى حل نهائي بلا كلفة مالية كبيرة . الا ان انتظارات الجهات المعنية بالصلح لا تتقاطع مع انتظارات قيس سعيد لا من حيث مقتضيات المرسوم واجراءاته ولا من حيث القيمة المالية المحددة.
حرب ؟
لم يصدر عن أية جهة كانت أي تفاعل او رد حول تصريحات قيس سعيد بخصوص الخطوات اللاحقة في مسار الصلح الجزائي التي لا تبعد عن النطق بأحكام لمن قدموا طلبات للجنة دون التوصل الى اتفاق . اهم جهة هي منظمة الاعراف التي تقول الكواليس انها قرّرت عدم الخوض في هذا المسار اعلاميا وانتظار التطورات التي قد تبوح بها الايام القادمة. تطورات لن تكون خارج ما قدّم سعيّد: الدفع ولا شيءغير الدفع او التتبع الذي لا يعني سوى السجن . وللتذكير شهدت الايام الفارطة ايقافات نوعية على علاقة برجال اعمال واصحاب مجمعات هامة على غرار حسين الدغري الذي تم التمديد في الاحتفاظ به لمدة 5 ايام اخرى .
الاشكال الحقيقي الذي قد يعرقل التوصل لاية تسويات ، وفق المعطيات المتوفرة ، هو المبالغ الخيالية التي سيكون على المعنيين بالصلح الجزائي دفعها. قيس سعيد تحدث عن “خلاص بالشيك” لغلق الملف دون المرور لا باختبارات ولا بخبراء ولا بمفاوضات بما يعني منطقيا وببساطة نهاية مرسوم الصلح والمرور لتنفيذ تعليمات رئاسية واضحة بيّنت سيرورة الاحداث خلال السنتين المنقضيتين انه لا تراجع عنها اذ ان قطار سعيد لا يتوقف متى انطلق مثلما يقول انصاره. قد يكون لسعيد ما يبرر لهجة الغضب التي تحدث بها من مقر لجنة تشارف مهامها على الانتهاء دون تحقيق أي شيء يذكر .
هذا الفشل الذريع لا تتحمل مسؤوليته اللجنة ولا حتى المرسوم اذ ان منطلق مشروع الصلح الجزائي بسقف طموحاته الكبيرة كان معلومتين غير مؤكدتين الاولى تتعلق بالمبلغ الجملي للاموال المنهوبة المقدّرة بـ 13.5 مليار دينار. هنا يؤكّد سعيد ان المصدر الذي اعلمه بقيمة هذا المبلغ هو مسؤول سابق )وزير في حكومة الترويكا الاولى وفق ما يفهم من تصريحاته السابقة) . اما المعلومة الثانية فتتعلق بعدد المعنيين بنهب هذا المبلغ. وفق سعيد العدد يبلغ 460 رجل اعمال. وبالعودة الى التقرير المرجعي لاشغال اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد المعروف بتقرير لجنة الراحل عبد الفتاح عمر وهو التقرير المرجعي لمشروع الصلح يتبين ان هذا الرقم غير موجود في التقرير ولا في أية وثيقة او تقرير رسمي وأنه لم يذكر الا في نقاشات غير رسمية مع انطلاق اشغال المجلس التأسيسي .
ستكشف الايام القادمة مدى جدية المنحى الذي اتخذه مسار الصلح الجزائي ان كان سيتحول الى حرب على رجال الاعمال المعنيين بهذا المرسوم مما قد يشير الى حملات ايقافات واجراءات منع من السفر التي طالت الى حدّ الساعة عدد لا يستهان به من رجال أعمال بعضهم من أصحاب النفوذ الكبير.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 3 اكتوبر 2023