الشارع المغاربي: حين اطلعت لأول مرة على عنوان كتاب الشاعر والكاتب بحري العرفاوي قبل قراءته ” تونس محنة الاسلام السياسي أو هل كانت عشرية حمراء ؟ ” الصادر في طبعته الاولى هذه السنة عن دار المنارة للنشر والتوزيع والطباعة بتونس، خلت ان خطأ مطبعيا تسرّب لعنوان الكتاب وانه كان يقصد ” منحة الاسلام السياسي” لا محنة الاسلام السياسي”. لكن بعد الاستماع الى الكاتب متحدثا عن كتابه في أحد البرامج التلفزية وبعد الانتهاء من قراءة الكتاب – الذي اهدى لي الكاتب نسخة منه مشكورا صحبة مجموعة من دواوينه الشعرية التي سبق لي قراءتها – تأكدت انه فعلا يقصد “محنة الاسلام السياسي” وأنه لم يتسرب بالتالي للعنوان أي خطأ مطبعي .فهل تعرض فعلا الاسلام السياسي في تونس لمحنة ام لمنحة؟
بداية لا بد من ابداء بعض الملاحظات المنهجية قبل تناول نص بحري العرفاوي اولها محاولتي الفصل بين النص وصاحب النص أو بين النص والانتماء الفكري والسياسي لصاحب النص ولن يكون هناك أي تأثير لذلك وسأتعامل معه تعاملا أكاديميا موضوعيا محضا. ومرد هذا الالتباس هو أن صاحب النص في سياق حديثه عن تجربة الاسلاميين في الحكم والعلاقة بين الديني والدنيوي يستعمل صيغة ” نحن ” بالصفحة 136 وفي مواضع أخرى من الكتاب، فهل كتب نصه عن مشروع الاسلام السياسي / حركة النهضة بحيادية كاملة بصفته كاتبا مستقلا؟ – وهذا الأغلب – باستعماله الدائم صيغة “هم” متخذا ازاء مشروع الاسلام السياسي/ حركة النهضة مسافة الباحث الموضوعي والناقد المحايد حتى وان لم ينتم تنظيميا يوما لحركة النهضة .
الملاحظة المنهجية الثانية تتعلق بعنوان نص الكاتب اذ استعمل لفظة ” الاسلام السياسي” بصيغة عامة واذا كانت العبارة مطلقة جرت على اطلاقها اذ تحتوي منظومة الاسلام السياسي في تونس على العديد من المدارس الفكرية والسياسية والاحزاب والتنظيمات والحركات منها المدنية السلمية ومنها التكفيرية المسلحة (حركة النهضة، حزب التحرير، حزب الوحدة، تنظيم انصار الشريعة المحظور، جند الخلافة، تنظيم القاعدة، تنظيم داعش…) ومنها الاسلام السياسي السني والاسلام السياسي الشيعي ( تطرق الكاتب للاسلام السياسي الشيعي من زواية أخرى بالصفحة 176 ) لكنه بنص الكتاب اختزل تجربة الاسلام السياسي في تونس في حركة النهضة دون سواها من بقية الاحزاب والحركات والتنظيمات ولا أظن ان هذا من قبيل الخطأ المطبعي كذلك .
الملاحظة المنهجية الثالثة في علاقة أيضا بنص الكتاب المحتوي على 246 صفحة اذ لم يكن نصا واحدا موحدا بقدر ما كان مجموعة من النصوص، النص الأكبر والاهم للكاتب الرئيسي من الصفحة السابعة الى الصفحة 212 وبقية الصفحات خصصت لنصوص عبد السلام الككلي، عجمي الوريمي، الازهر العكرمي وراشد الغنوشي، تصب كلها لصالح مقاربة نص الكاتب الرئيسي تؤيدها ولا تعارضها وهذا لعمري أمر طبيعي ومحمود في مثل هكذا نصوص فقط كان عليه تنبيه القارئ لذلك والتنصيص على غلاف الكتاب بأنه مؤلف جماعي مع ذكر اسماء أصحاب النصوص الاربع الاخرى .
والملاحظة المنهجية الأخيرة اني عاصرت أغلب الأحداث السياسية التي تناولها الكاتب في نصه وكنت شاهدا على العصر في اغلبها مما سيسهل قراءتي للنص من داخله كفاعل في بعض احداثه ومن خارجه كقارئ.
لقد كانت النصوص الخمس المضمنة بالكتاب وخاصة نص بحري العرفاوي تتبنى نفس المقاربة السياسية لتجربة حركة النهضة – بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للاسلام السياسي في تونس كما حاول ذلك الكاتب في نصه عنوانا ومضمونا لا تصريحا اذ لم يتناول موضوع التمثيلية اطلاقا – في الحكم وخارجه قبل وبعد 14 جانفي 2011 اذ كانت من حيث المبدأ تجربة ناجحة ناصعة البياض رغم الحصار والمطبات والاستهدافات الداخلية والخارجية حسب زعمه مستشهدا لاثبات ذلك باربع نصوص تصب في نفس التوجه، نصين من خارج حركة النهضة (الككلي والعكرمي) ونصين لقياديين من حركة النهضة (الغنوشي والوريمي) ليصل في نهاية نصه لتبني مقولة حركة النهضة / الضحية طبقا لعلم الضحية la victimologie في فقه الاجرام الحديث وهو القدرة على تحويل الفاعل / المجرم الى ضحية ظروف وعوامل داخلية وخارجية احدثتها الضحية نفسها، وان وجدت بعض الاستثناءات هنا وهناك فانها تؤكد المبدأ ولا تنفيه، مبدأ كانت فيه حركة النهضة فعلا ضحية، ضحية جهلها بطبيعة المجتمع التونسي، ضحية عدم قراءتها جيدا للتحولات الاقليمية والدولية وقد اشار الكاتب الى البعض منها في علاقة بالأحداث في سوريا وليبيا ربيع 2011، ضحية تورم الانا داخلها وخطاب الاستعلاء المعتمد منها.. كل ذلك يؤيده ظاهرة الاحتفاء الواسع الذي حظي به الكتاب من حركة النهضة قيادة وقواعد.
لقد بذل صاحب النص الرئيسي مجهودا يذكر فيشكر من اجل كشف الحقيقة وطرح اسئلة حارقة دفعا للتفكير ووضع اصبعه على مواطن الداء منعا للكسل الفكري ودفع الجميع للتفكير وتحكيم العقل بغاية الاجابة على سؤاله / الاشكالي الذي طرحه بالصفحة 200 ؛ لماذا وقعت 25 جويلية 2021؟
لا أريد القول ان صاحب النص الرئيسي كان أسيرا لانتمائه الفكري والسياسي وهذا حقه الطبيعي غير قابل للنقاش يستحق عليه الاحترام بعدم التنازل عنه بقدر القول انه لم يستطع التخلص من هذا الانتماء العقائدي والفكاك منها وهو يكتب نصه وأحيانا التحدث باسم حركة النهضة بوصفها تمثل الاسلام السياسي في تونس والتعاطف معها مدافعا و منافحا عنها الى درجة استفساره القيادة الايرانية بعد 2011 على عدم سماحها لراشد الغنوشي بدخول اراضيها سنة 2007 بطلب من نظام بن علي وتبليغ رد القيادة الايرانية للغنوشي التي تعاملت مع الموضوع بمنطق الدولة وعدم تدخلها في الشأن الداخلي لغيرها من الدول (ص 181).
حاول الكاتب الرئيسي في نصه المتكون من خمسة عشر عنوانا – يحتاج كل عنوان كتابا منفردا للرد عليه- الدفاع عن حركة النهضة في الحكم وخارجه، محللا ومفسرا ومبررا لمواقفها وان اخفاقات الحركة في الحكم مرده عوامل خارجية لا داخلية من تحميل المسؤولية للاتحاد العام التونسي الشغل (ص 14 وما بعدها) أو على قوى الثورة المضادة و “اليسار الاستئصالي”: كما سماه والمعارضة أو للاعلام ( ص 143 وما بعدها) إلى حد تحميل المسؤولية لقواعد حركة النهضة التي لم تع الزمن الثوري ولم تفهم دواليب الدولة وكيفية تحول حركة النهضة من حزب سري معارض الى حزب حاكم ..وانها لم تتقبل سياسة التوافق بين حركة النهضة وحزب نداء تونس التي جنبت البلاد مخاطر الحرب الاهلية حسب زعمه ( ص 71 وما بعدها) وكانت بذلك قيادة حركة النهضة “الحكيمة” ضحية قواعدها الغوغائية و”ثوار 15 جانفي” داخلها التي لم يجدها راشد الغنوشي حين دعاها يوم 26 جويلية 2021 للالتحاق بساحة باردو فكان بذلك مصيبا وموفقا فيما ذهب اليه وهو بذلك لم يخرج عن التفكير والتحليل والتبرير من داخل منظومة الاسلام السياسي عموما وحركة النهضة خصوصاً ..نفس هذه القواعد النهضوية هي التي اختلطت بقواعد التيار السلفي في حملاته الدعوية والتحريضية ضد كل من يعارض الاسلام السياسي/ حركة النهضة والتي كانت سببا في اغتيال الشهيدين اليساري شكري بلعيد والناصري محمد البراهمي، وان تناول الكاتب هذه الحملات التحريضية من التيار السلفي وعدد اعتداءاتها وتجاوزاتها بكامل تراب الجمهورية ففي سياق انها من قبيل التآمر الخارجي على حركة النهضة دون ان يحمل هذه الاخيرة مسؤولية التعاطي المرن مع التيار السلفي في بداية تحركاته وتركه حرية التحرك، ومن ثمة عدم تحميله الاسلام السياسي/ حركة النهضة المسؤولية الاخلاقية والسياسية الكاملة لكل ما حدث وفي مقدمتها الاغتيالات السياسية.
وبقدر توفيقه في ما ذهب اليه في علاقة قيادة حركة النهضة بقواعدها الملهوفة على غنيمة الحكم فانه لم يكن موفقا في اسلوب التعميم الذي اعتمده دون تنسيب حين يتحدث على موقف الاتحاد العام التونسي للشغل الذي لم يكن في كل مراحله بعد 2011 معاديا لحركة النهضة بل تخللت بعض الفترات الودية بين الطرفين ولا ننسى ان قواعد حركة النهضة هي من بدأت باستهداف اتحاد الشغل في ديسمبر 2012 في ما يعرف بواقعة “الزبلة” وان نفس هذه القواعد هي من اطلقت أسطوانة ” اعلام العار” وهي من نظمت ” ” اعتصام اكبس” امام مقر التلفزة التونسية باشراف أحد قيادييها السابقين في 2012.
كما تغافل صاحب النص الرئيسي عن مشاركة الاحزاب اليسارية والديمقراطية ” العلمانية” في هيئة 18 اكتوبر للحقوق والحريات الى جانب حركة النهضة الممثل الشرعي والوحيد للاسلام السياسي في تونس رغم انه لم يكن ملما جيدا بملف الهيئة المذكورة والتي ذكرها عرضا في مناسبتين فقط في سطر واحد دون تفكيك ولا تحليل وقد اسقط من عضويتها الوحدويين الناصريين وقد كنت ممثلهم فيها، كما تغافل صاحب النص الرئيسي عن دور الحقوقيين ذوي الخلفية اليسارية أو القومية أو المستقلين في الدفاع عن المساجين السياسيين الاسلاميين بداية تسعينات القرن الماضي سواء مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان أو في ما بعد مع المجلس الوطني للحريات والجمعية الدولية للدفاع عن المساجين السياسيين بداية الالفية الحالية وقد كنت أحد مؤسسيها واخر كاتبها العام قبل الثورة ..وقد وجد هذا التغافل صدى له في جحود حركة النهضة وتنكرها لشركائها بعد الثورة خاصة بعد فوزها بانتخابات المجلس الوطني التأسيسي وقد أخذتها العزة بالاثم (سبق ان فصلت كل هذا في مقالي السابق بـ”الشارع المغاربي”، “في الحاجة للمراجعات الصادقة” العدد 409 ).
لقد نجح فعلا صاحب النص الرئيسي في تحويل المنحة التي منحتها الثورة لحركة النهضة كي تحكم الى محنة والى اعادة أنتاج المظلومية النهضوية من جديد في حين لم تكن في مستوى تلك المنحة الربانية والشعبية واساءت إدارة المرحلة وفشلت في تحويل تونس من الثورة الى الدولة طبعا حسب الكاتب كل ذلك كان بسبب عوامل خارجية لا تتحمل فيه حركة النهضة أي مسؤولية فلا حاجة لها بأي مراجعات حتمية ( ص 193) التي اكتفى فيها الكاتب بتعريف ” المراجعات” دون بيان ماهيتها أو مضمونها، وكيف ؟ ومتى تقع ؟.
ومردّ هذا النجاح روح الكاتب الشعرية، اذ انتصر بحري العرفاوي الشاعر على بحري العرفاوي الكاتب / السياسي صاحب التصور العقائدي الاسلامي المستقل تنظيميا بنجاحه في تحويل المنحة الى محنة وهذا حلم كل شاعر تحويل الأحلام الى حقيقة عبر العزف بالحروف والكلمات بتقديم حرف وتأخير حرف فتتحول الكلمة الى ضدها، واتقن فنون تحويل الألوان من الأسود الى الأحمر الى الوردي، والشعر ليس في ان تقول كل شيء بل في ان تحلم النفس بكل شيء.. وهو لم يقل كل شيء في كتابه. وان كان حلم وما زال يحلم بكل شيء .
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 11 جوان 2024