الشارع المغاربي: ”لست في حاجة الى حرق الكتب كي تدمّر حضارة، فقط اجعل الناس تكف عن قراءتها) ” راي برادبري)
تخيل)ي( أنك قضيت مثلي أكثر من ثلاثين سنة في التدريس وحضرت كمّا هائلا من الندوات العلمية والبيداغوجية وقرأت الكثير عن التجارب الاخرى وحاولت دائما ان تجدد ادواتك ومهاراتك التعليمية رغم ضيق هامشك ثم فاجأتك الأسئلة العائمة التالية: كيف ترى اصلاح التعليم؟ وكيف يجب ان تتواتر مواد الدراسة؟ وما هو الزمن المدرسي المناسب للتلميذ أو الطالب؟ لا ادري كيف ستكون اجابتك انت، لكن اجابتي انا ستكون دون تواضع زائف انه رغم ادراكي عديد مواطن الخلل في نظامنا التعليمي فإنني أرى انه يجب استشارة المختصين في الشأن التربوي وعلماء الاجتماع والنفس وهياكل التعليم المباشرة والمتفقدين والمجتمع المدني وغيرهم. اما رأيي انا فلا يتجاوز ملاحظات عامة لمدرّس سابق ومتابع للشأن التعليمي والتربوي عموما حول ما يمكن رصده من مخاطر مثل اهمال القراءة لدى جيل اليوم وخواء البرامج التعليمية التي تنشر قيم المواطنة والتعايش وتهميش التعليم العمومي ماديا ومعنويا وثقافيا وانهاك المدرسة العمومية التي افتخر بأنها كانت مصعدي الاجتماعي على محدودية الدرجات التي تسلقتها… وهي ملاحظات عامة وان كنت قادرا على تشخيصها فلا اجزم باني مدرك لدقائق حلولها لكن يظهر أن زمن الاستئناس بالمعرفة والخبرة والاختصاص قد ولّى فالكل اليوم يعتقد انه قادر على الافتاء في كل شيء…
معنى ان تكون من الشعب اليوم
لعلّ أهم مخاطر الشعبوية اليوم انها تعيد رسم الديمقراطية عبر تسطيح مفهومها وتشكيلها بما يتناسب وفكر الزعيم القائد الذي يختزل في شخصه إرادة الشعب الحقيقي فيتحوّل المواطن الفاعل سياسيا في مجتمع ديمقراطي تعددي بتعدد الأفكار والآراء والأحزاب والاختصاصات الى مواطن في مجتمع اخر منقسم ومتضاد بين صنفين لا ثالث لهما: الخيّرون والفاسدون ولك ان تختار الموضع الذي تريد ان تكون فيه أي ان تكون ضمن الانقياء والمتعالين أو ان تكون ضمن النخب الناقدة والفاسدة والمعقدة والمناوئة للقائد وشعبه الخيّر. وان كنت ضمن الشعب فانك محظوظ فسيتكلمون باسمك دائما ويسمعون صوتك وسيستفتونك في ما تعرف وتجهل حتى وان كان رأيك لا يغيّر الكثير ولا يهم مجال اختصاصك ولا مدى درايتك بالموضوع، فالمهم ان تستجيب للنداء. اما اذا قدّر لك ان تكون ضمن النخبة السياسية او العلمية او الثقافية فانت موصوم مسبقا والأفضل ان تحتفظ برأيك…
من هنا جاءت الاستشارة الوطنية للتعليم التمثل السياسي الجديد لتحقيق إرادة الشعب لتعيد تقسيم الأدوار وتحصر دور ومكانة النخب بكل اختصاصاتها فما معنى ان يفتي كل الشعب في اصلاح التعليم؟ وان كان “الكل معنيا بالشأن التربوي” فهل معنى ذلك ان كل الشعب مدرك للحلول؟ وماذا لو لم تعكس أجوبة الاستشارة ما يتطلب تعليمنا المريض من إصلاحات عاجلة؟ وحتى طبيعة الأسئلة والمحاور هل تعكس حقا أولويات الإصلاح؟ لا اذكر من القائل إذا اردت ان تقبر عملا فكوّن له لجنة… أعتقد بالقياس انه إذا أردت ان تقبر الديمقراطية بمفهومنا المتعارف عليه وتعويضها بديمقراطية أخرى “قاعدية” تنطلق من التحت لتعكس في الأخير رأي القاعدة العارفة بهمومها وطموحها وامالها فكثّف من الاستشارات والاستفتاءات “الشعبية”… .
اهمال القراءة والكتابة
مقابل الأسئلة الدقيقة التي لا يمكن ان يجيب عنها الا المختص في التربية والتعليم والعلوم بمختلف أنواعها هناك ملاحظات عامة يمكن لأي متابع او ولي ان يرصدها مثلا تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال والمراهقين ومدى قدرتهم اليوم على الكتابة والقراءة بشكل يتجاوز تحريك الفيديو والصور ويتخطى اللغة الهجينة المستعملة كل يوم.
سنة 1953 كتب الروائي الأمريكي راي برادباري Ray Bradbury روايته الشهيرة “فهرنهايت 451” حذّر فيها من نظام شمولي سيغزو العالم ويحرق كل الكتب ولا يترك الا شاشات التلفزيون التي سيستعملها دعاية لتوجهاته السياسية. والسؤال المخيف الذي طرحه برادباري هو ماذا سيحدث لمجتمع فقد قيمة الكتب ولذة القراءة وشغف المعرفة؟
ان أراد برادباري ان يفتح اعين المجتمع الأمريكي عما تفعل الرقابة خاصة وهو عاش فترة المكارتية التي منعت كتبا سياسية مثل “1984” لجورج اورويل فأجيالنا الحالية تعيش سطوة التكنولوجيا التي ساهمت في ترذيل الكتابة والقراءة…
”جيل الشاشات”
مع بداية شهر سبتمبر الذي يصادف افتتاح السنة الدراسية في فرنسا طالعتنا جريدة “لوموند” وكذلك عديد وسائل الاعلام الفرنسية ببيان مهم موجه الى وزير التربية الفرنسي وهو اقرب الى صيحة فزع حول مستوى التلاميذ اليوم في بلاد موليير وروسو وزولا… البيان الذي امضته شخصيات معروفة في مختلف الميادين الثقافية على غرار ادغار موران والطاهر بن جلون والممثلة ايزابيل كاريي والكوميدي جمال دبّوز يلفت انتباه وزير التربية الفرنسي الى ثلاث مشاكل رئيسية : تدهور مستوى القراءة والكتابة لدى التلاميذ وسيطرة مختلف أجهزة الشاشات على عقول التلاميذ والمراهقين والتوسع السريع الذي يعرفه الذكاء الاصطناعي الذي سيحد في حالة إساءة استعماله من قدرات التفكير لدى مواطني الغد. كما دافعت النخبة الممضية عن المعلمين الذين اعتبرتهم ضحايا برامج مسقطة ومثقلة حتى ان هامش اضافتهم تبدو ضئيلة .
وفي اعتقادي ان اهم ما في الرسالة هو ذاك الذي شرحه الفيلسوف الكبير ادغار موران في العديد من كتاباته أي ذاك الربط المنطقي بين ثنائية القراءة والكتابة من ناحية والكتابة والتفكير من ناحية أخرى وبالنتيجة فان من لا يمتلك القدرة على القراءة والكتابة لن يكون قادرا على التواصل والتحاور…طبعا لم تطرح هذه النخبة حلولا جاهزة ولا اراء ملزمة ولا طالبت عموم الشعب الفرنسي بالإدلاء بدلوه رغم قناعة ممثليها بالديمقراطية واحترامهم الإرادة الشعبية، هم فقط اثاروا موضوعا حارقا وعلى السلطات الفرنسية ان تأخذه على محمل الجد.
من هنا نرى اذن ان هناك مشاكل في التعليم تواجه كل الدول النامية منها والمتقدمة وهي مشاكل ان تراكمت تعيق دور الوظائف التي تقوم عليها المدرسة وتشكل خطرا على الأجيال القادمة وقدرتها على التفكير. لذلك اعتقد اننا في حاجة الى الاستئناس بالتجارب الأخرى حاجتنا الى الاطلاع على التطور العلمي والتقني والاستفادة منه.
لكننا قبل ذلك في حاجة الى احترام المعرفة وتقدير الاختصاص وترسيخ مفهوم الديمقراطية الحقيقية وقيم المواطنة التي تعني الوعي بالحقوق والواجبات ولكن أيضا العيش المشترك وقيم التسامح وهذا لا يتطلب استشارة موسعة بل إرادة ومعرفة دقيقة بالوسائل التي يجب استعمالها للوصول الى تلك المقاصد.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 3 اكتوبر 2023