الشارع المغاربي – د. فوزي البدوي: تونس ستعرف عدم استقرار لعشر سنوات أخرى على الأقل بسبب عدم حلّ المشكلة الدينية بطريقة راديكالية

د. فوزي البدوي: تونس ستعرف عدم استقرار لعشر سنوات أخرى على الأقل بسبب عدم حلّ المشكلة الدينية بطريقة راديكالية

قسم الأخبار

22 يناير، 2022

الشارع المغاربي-حاورته عواطف البلدي: عندما تجلس للدكتور فوزي البدوي تكتشف أنك أمام مفكّر يحمل هما معرفيا. سيد رصين يجول بك في رحاب الفكر والأديان والسياسة بسلاسة ووضوح كبيرين مفكّر يقتفي أثر الأديان في حالتها الأولى والبدائية. مختص في الدراسات اليهودية والأديان المقارنة بجامعة منوبة.. وصاحب أطروحة دكتورا دولة عن “الجدل الاسلامي اليهودي باللغتين العربية والعبرية إلى حدود القرن 10 هـ -16 م” تصدر في جزئين هذه السنة ببيروت.

“الشارع المغاربي” يستضيف هذا الأسبوع د. البدوي.. في حوار حول اشكالات وقضايا تشغل ضمير المسلم المعاصر وحول جذور المدارس الاستشراقية وتأثيراتها ورؤاها الجذرية والراديكالية حول الاسلام. حوار تطرق أيضا الى اشكالات الاسلام واليهودية وعوائق تدريس الاديان المقارنة واليات الاصلاح الديني والجامعي والعلمي وقضايا أخرى نرى ضرورة أن يصل صداها إلى القارئ التونسي والعربي..

كيف كانت البدايات مع الدين والدراسات اليهودية تحديدا؟

اكتشفت ولَعي بالدين والتدين منذ نهاية المرحلة الابتدائية ودخولي المعهد العلوي إلى حدود الباكالوريا… في نهاية السبعينات… كانت هذا السنوات سنوات تكوين أساسية التهمت فيها كل ما يقع بين يدي من كتب عن الدين والماركسية والالحاد ومشاهير الإسلام. وفي هذه الفترة التهمت أيضا كل الكلاسيكيات المتوفرة في مجال الرواية والسياسة والتاريخ والدين بما يقتضي عمري وشجع انغماسي في القراءات الدينية ما صادفت في تلك السنوات من انتشار الفكر الإخواني وسيطرة الاتجاه الإسلامي على المساجد وكان بعض أساتذة التربية الإسلامية الشبان غالبا أو المتأدلجين غفر الله لهم يحثوننا على ارتياد المساجد الموجودة داخل المعاهد ثم ينتقلون بنا إلى مساجد خارجها لاستكمال التكوين حيث يتم إدخال جرعات من الحاكمية والتوحيد والهمز في الحكام وقول كلمة حق ضد سلطان جائر الخ…. وربما انتقل الأمر بعد ذلك إلى الاستقطاب… لمن يلتمس فيه اندفاعا زائدا.. كانت أغلب المساجد في تلك السنوات مكتبات ملتصقة بها تبيع كتبا زهيدة الثمن وكاسيتات لكبار الخطباء التحريضيين من أمثال كشك وغيره وكتبا تتحدث عن الشبهات وعن حوار مع صديقي الملحد ومعجزات زينب الغزالي في سجون عبد الناصر وكتابات سيد قطب والهضيبي وغيرهما …. كانت الدولة غائبة… والإسلام الإخواني يتوسع ويتمدد ويأكل عقول الشباب….

ما منعني من الغرق في هذا المستنقع هو والدي الزيتوني رحمه الله وطيب ثراه الذي كنت استفتيه كلما غمض علي أمر وقد نجح في أن يخلق بيني وبينه علاقة صداقة وصحبة وثقة وكنت أثق في علمه وكان ينفر من هؤلاء أيما نفور وهو الذي حبب إليّ جريدة “الصباح” التي كانت لا تفارقه ومنه اكتسبت هذه العادة وكان يشاركني الرأي فيما كان يكتب فيها ويعاملني كصديق ناضج يؤخذ برأيه.. وعلى يديه تعلمت الكثير بل اكثر بكثير مما تعلمت في المدارس والجامعة في الفقه والتفسير والحديث  مما أنا مدين له به إلى آخر  العمر وكان مغرما جدا بعبد الناصر والقومية العربية كأغلب أبناء جيله  محبا لبورقيبة مثل قلة من الزواتنة ولم يكن يثق  في صالح بن يوسف ..المهم انه كان شغوفا بالسياسية ولعله اورثني شيئا من  ذلك ولكنه منذ حرب العراق لم يعد يعبأ مطلقا بالسياسة ويتضايق من أخبار العرب إذا نقلتها اليه .وكان في أغلب الوقت يومئ بإشارة من يده تفيد بما تفيد …..”لا تحدثني مرة أخرى عن العرب فقد نفضت يدي منهم  منذ زمن مرددا “لقد ولى زمنى وزمن الذين يعاش في أكنافهم”.

ثم كانت دروس الفلسفة في الباكالوريا على يد الأستاذ الحبيب بن حميدة في المعهد العلوي ترياقا ضد شكل من أشكال الدين الذي كان يعصف بالناشئة آنذاك وفي الباكالوريا انفتحت قراءاتي على المنشورات الماركسية التي كانت تتدفق علينا من موسكو وتيرانا وفرنسا والمشرق العربي ويساره النشط في تلك الأيام وكنت أغرف منها ما استطعت في مكتبة الدبوسي الشهيرة وفي هذه الفترة بدأت أقرأ منشورات الجبهة الشعبية وجريدة “الهدف” سرا والتقيت بالعفيف الأخضر وكتاباته وصادق جلال العظم وغير هؤلاء كثيرون..

دار المعلمين العليا والتحول الفكري؟

وكانت مؤسسة دار المعلمين العليا هي المؤسسة التي اخترتها بعد الباكالوريا  لمواصلة دراستي الجامعية في اللغة والآداب العربية بعد نجاحي الأول في المعهد العلوى في شعبة الآداب وكنت أود دراسة الفلسفة ولكن غيابها عن برامج الدار في تلك الفترة ورغبتي في ضمان الوظيفة والسكن الجامعي وضيق ذات يد والدي ورغبته في أن انتمى إلى هذه المؤسسة التي كان ينظر اليها بعين الاكبار دفعتني إلى هذا الاختيار في النهاية وكانت مرحلة ثرية جدا لم أندم عليها مطلقا وشكلت مسار حياتي إلى حد كبير  وخصوصا  في التوجه نحو الدراسات الدينية .

في دار المعلمين العليا بسوسة وسنواتها الأربع  التقيت بأفضل ما أنجبت مدرسة النظام الجمهوري من أبناء في الاختصاصات الأدبية وبعضهم اليوم هم من يشاركون في الحياة الجامعية والسياسية للبلاد بمختلف توجهاتهم  وكانت مزية الدار على صغرها أن سمحت لنا بهدم جدران الاختصاص الضيق فكنا نحضر دروس الفرنسية والإنقليزية والتاريخ  وكانت فرصة العيش المشترك والنقاشات التي كانت تحدث بيننا في المطعم والمبيت مناسبة  لإثراء شخصياتنا وإثرائها وفي هذه الدار كنت قد اكتسبت شيئا فشيئا حصانة ضد شكل من الإسلام المتفشي تلك الأيام  فقد صرت قادرا على أن أشق الطريق بنفسي… دون وصاية أي من الشيوخ  الذين كانوا غذاء لغيري وقيض الله لنا أساتذة كانوا في بداية حياتهم الجامعية مندفعين لم يبخلوا علينا بجهد وقد يستغرب بعض أبناء جيلي من أنني لا أزال أتذكر  من دار المعلمين العليا كلمة كان لها وقع في نفسي  قالها لنا الاستاذ المرحوم الطيب العشاش عرضا  في ساحة الكلية …. “إذا دخلتم هذه الدار وخرجتم منها كما جئتم من الثانوي فمعنى هذا أن الجامعة فاشلة ودار المعلمين فاشلة ….هذه السنوات الأربع التي ستقضونها هي سنوات فوضى الفكر والحواس فلا تضيعوها  ……واذكروا وصيتي إليكم ….قللوا من القراءة بالعربية وأكثروا  من القراءة باللغات الأجنبية… فكتابات العرب بالعربية قليلا ما تضيف إلى تكوينكم..”.

وكيف بدأ الاهتمام باليهودية تحديدا؟

الاهتمام  باليهودية  كان قديما  واذكر أنه  بدأ منذ بداية المرحلة الثانوية المبكرة.  فقد ولدت في مدينة أريانة  القديمة  وهي احدى الضواحي التي عرفت وجودا يهوديا مهما  وكنت من خلال احاديث والدتي وجدتي وكذلك جدي اصغي باهتمام  إلى ما يتحدثون به عنهم  في المأكل والملبس والعادات وكان حديثا في اغلبه ممزوجا بالاحترام  والفضول وكانوا يثنون على تمكنهم من الطب والتجارة وحسن المعاشرة وكانت نقاشاتي مع والدي حول القضية الفلسطينية  وقضايا الشرق الأوسط  في سن المراهقة  وهو الناصري الهوى مما كان له  اكبر الوقع في نشأة هذا الغرام  ثم شيئا فشيئا  بدأ يحدث ميل إلى الاهتمام العلمي فبدأت قراءاتي الأولى عنهم بما كان متوفرا في الأسواق وقتها وهو في أغلبه كتابات ضعيفة  المستوى وخطيرة أحيانا وهذا أمر أدركته لاحقا ولكنى كنت قد قررت  التخصص في  هذه الثقافة   وهذه اللغة المرتبطة بها  وبالخصوص في المجال الديني الذي اعتبره جوهر هذه الثقافة  وسر بقائها ولم يكن من الممكن تحقيق ذلك في تلك الفترة فالنظام التعليمي والجامعي في تونس ضيق الأفق  فأرجأت ذلك إلى ما بعد الانتهاء من التعليم  الجامعي الرسمي لأنتقل بعدها إلى تحقيق هذا الحلم في فرنسا وتكونت لي القدرة على سدّ ثغرات التكوين بمفردي وهو أمر استنفذ منى سنوات طويلة من العمر.

دار المعلمين العليا والتحوّل الحقيقي…؟

بعد اجتيازي التبريز وانتقالي لباريس لمواصلة دراسة اللغة العبرية واعداد أطروحتي عن “الجدل الإسلامي اليهودي باللغتين العربية والعبرية في القرون الوسطى” انفتحت أمامي آفاق جديدة وبدأت أدرك أن الأمر يتجاوز مجرد الحصول على شهادة إلى ضرورة  العمل من بلدي على إرساء تعليم ديني جديد وبمناهج جديدة  وكنت أعتقد صادقا أن العمل الحقيقي هو في تكوين أجيال جديدة من أبنائنا وفي جامعتنا  قادرة على أن تحمل المشعل وعلى أن ترتقي بالتعليم الجامعي والبحث إلى أعلى المستويات العالمية في استمرار لما تم ارساؤه من تقاليد من قبل  البعض من الجيل الذي درسنا هذه المسائل ولكن لم تكن الأمور مثلما تصورتها  لأني  لم أدرك إلا متأخرا أن دولتنا لم تعد  تحمل مشروعا كبيرا ولم تعد  تغذيها أحلام كبيرة كما كانت في   الفترة  الأولى للاستقلال …

وقد فكرت إثر عودتي في تأسيس مركز للدراسات اليهودية أطلقت عليه اسم “مركز الدراسات السامية” تجنبا لكل تأويل فاسد لأن مناخ الريبة من كل ما هو يهودي قد يعصف بالمشروع  وهو ما وقع فعلا ثم بدأت بإجراء اتصالاتي لإنشائه مع بعض كبار الشخصيات ذات الثقل العلمي والديبلوماسي والسياسي وعلى رأسهم المرحوم الرشيد ادريس  لمساعدتي على بعث المؤسسة والحيلولة دون قراءتها سياسيا فغاية المركز الأولى كانت تأسيس مكتبة مختصة في الدراسات اليهودية  أدبا ولغة ودينا  والشروع بالتوازي في تكوين أبنائنا تمهيدا لعمل في مجال ترجمة النصوص الأساسية في اليهودية لاطلاع القراء العرب وتكوين وعي علمي باليهودية قديما وبإسرائيل حديثا رعاية لحقوق المعرفة ولكن التشكيك والتخوين والتلكؤ دفعتني إلى تمزيق كل الملف ولم أعد اليه ثانية بعد ذلك وقررت الانصراف فقط إلى التدريس الجامعي  في محاولة تكوين نخبة قادرة على حمل المشعل بعد تقاعدي لأني صرت مقتنعا بأن الأمور لن تتغير اثناء حياتي  الأكاديمية على الأقل في ظل دولة “بوهيمية”  تعيش ليومها ولا تحركها أحلام كبيرة .

وفي هذه المرحلة عملت جاهدا داخل كلية الآداب على السير في اتجاهين أولهما مزيد ترسيخ دراسة الدين وفق أسس مناهج تاريخ الأديان وتدريس بعض أساسيات الديانة اليهودية وفق افق مقارني في صلتها بالإسلام وبديانات الشرق الأوسط القديم في قسم العربية أولا ثم لدى طلبة ماجستير الأديان المقارنة والدكتورا بعد ذلك.

هل يمكن أن تحدثنا عما تقصد بدراسة الدين وفق منهج تاريخ الأديان؟

الدّين هو بعد من أبعاد المجتمع يغذي نظاما من التصورات والتمثلات التي تنظم العالم بشكل ما وهو الأمر الذي تحدث عنه الإغريق في ثلاثيتهم الفلسفية المعروفة الكسمولوجيا والانطولوجيا والتيولوجيا أو لنقل بشكل أبسط الكون والإنسان والله . والإنسان  المعاصر لا يزال يحتاج إلى الدّين  يبحث فيه عن معاني الموت والحياة والوجود ويتعهده دوما بالتأويل والتجديد ومن هنا جاءت قيمته لأن وضع النظام في هذا العالم شرط ضروري لتواصل حياة الافراد والجماعات خصوصا. فالدين يمكن الجماعة من القدرة على السيطرة على نظام العالم في بعدي الزمان والمكان والأمر لا يتعلق بتجارب فردية بل في كثير من الأحيان  بما تسنّ الجماعة فالديّن بما هو فردي إنمّا يشكل مادّة الأخلاق فحسب ولكنه بما هو تنظيم للعلاقات الجماعية يتحوّل إلى سياسة ومن هنا كان له هذا البعد الاجتماعي الأساسي الذي يجعله دوما محطّ الرّهانات السياسية وموضعا أساسيا للصراعات البشرية ومن رحم هذا الصراع خرجت الدولة الحديثة  والعلم الحديث والنظر الوضعي إلى الظاهرة الدينية .

تقصد أن تاريخ الأديان مرهون بالفصل بين “الدين” والتديّن”؟               

طبعا. إن أفضل مكتسبات هذا المخاض الكبير الذي مرت به البشرية في النظر إلى الدّين منذ عصر النهضة والإصلاح اللوثري ورسخه النظر الوضعي وتاريخ الاديان منذ القرن التاسع عشر هو التفريق بين أمرين وهما:  التديّن  Religiosité بما هو ظاهرة التزام فردي والدّين  Religion  بما هو ظاهرة قابلة للتّحليل والوصف والنظر العلمي وتتساوى في ذلك كلّ الأديان إذ الغاية من ذلك إدراك الإنسان الديني Homo-religiosus في  تعقّده وتجاوزه للتاريخ. ولا شكّ أن هذه التحوّلات قد تمت وفق إصلاح داخلي هو شأن علماء الدّين والمهتمين به من غير المتدينّين ولكنّه تم أيضا وفق إصلاح خارجي دفعت إليه علاقة الدّين بالدولة والأنظمة السياسية  وتونس لن تكون  استثناء  ولهذا دعوت منذ منتصف التسعينات في مقال مهم نشرته آنذاك اطلع عليه المسؤولون فيما بلغني ولكنهم صموا آذانهم لاعتقادهم واهمين أن موضوع الدين صار ثانويا بعد الانتهاء من ملف الإسلام السياسي وتحدثت عما سميته بضرورة تأسيس الجمهورية لمؤسساتها الدينية  واخترت عمدا شعار: البوليتكنيك للدراسات الدينية”  ولتحقيق هذا الهدف دعوت  الجمهورية الى اعادة هيكلة نظام التدريس أولا ونمط المدرسين ثانيا وفصلت ذلك في دراستي المذكورة ودعوت النظام الجمهوري  إلى أن يهتم  تكوينا وتدريسا ونشرا بفئة أخرى غير الجامعة الزيتونية  التي كتبت في شأنها وشأن إصلاحها مطولا ودعوت النظام الجمهوري إلى أن  يعتبر الدّين ظاهرة جديرة بالدراسة حقّاً وفق مبدأ الرعاية لحقوق المعرفة أوّلا وآخرا واعتبرت أن هذا هو الجيل الجديد الذي يجب على الجمهورية ايجاده والانفاق على تكوينه وأن لم يلتزم بعض أفراده أحيانا عقائديا وفكريا بأي دين إلاّ أنهم يلتزمون علميا بالظاهرة الدّينية ولهؤلاء الحق في أن يكتبوا ويعيشوا ويفكروا وينشروا حتى وإن كان الإسلام هو دين الجمهوريّة ولهؤلاء يجب أن تخلق الجمهوريّة المؤسسات التي تسمح لهم بالتأليف والتفكير والنشر وهذا هو سر دعوتي المتكررة منذ التسعينات  إلى إنشاء مركز للدراسات الدّينية خارج اطار الجامعة التونسيّة  مثلا  أو تأسيس كليّة خاصة داخل الجامعة التونسية باسم كليّة  الأديان  تكون مجمعا لتعدد الاختصاص في مقاربة الأديان وينتسب إليها أساتذة من القانونيين واللغويين وعلماء الاجتماع والفلسفة ويتّم فيها دمج بعض أساتذة الحضارة الإسلاميّة  المنتسبين إلى قسم اللغة العربية  الذين تحمّلوا تاريخيا عبء  دراسة الدّين الإسلامي بعد أن تخلّت أقسام أخرى مثل أقسام الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع في مرحلة ما عن القيام بهذه المهمة فلم تعرف كليّات الآداب تاريخا للدّين ولا فلسفة للدّين طوال نصف قرن تقريبا وكان المطلوب في نظري أن تُنشئ  الدولة مراكز أو معاهد أو كليّات شبيهة بـ”معهد فرنسا” College de France او الشعبة الخامسة للدراسات التطبيقية العليا EPHE مع كلّ ما فصّلت من شروط الاختيار الدقيق والاصطفاء والابتعاث إلى الخارج حتى يتحول هذا المشروع إلى ما يشبه ” البوليتكنيك” ولكن للدراسات الدّينية لأن من شأن قيام هذا المعلم  أن يساعد على خلق الشروط الاجتماعيّة والفكرية  لمناخ من لائكية العقول والمجتمع. فما زال للدّين عندنا سطوة  وهيبة في النفوس تقعد بنا عن النظر إليه بعين النقد العلمي  والبحث الموضوعي والدراسة الوصفية  الخالية من آليتي الجدل Polémique  والانتصار Apologie ولعل هذا  النّمط  من الدراسة يساعد أيضا على ولادة  الحسّ التاريخيّ بان يحررنا من  أسر نظام المعرفة الوسيط  المتحجّر  في بعض لحظاته  ويفتح أمام علمائنا ومجتمعنا زمنا جديدا  زمن تعلم أشياء  جديدة  وقيام فضول  جديد مع تنظيم مغاير  لمعارفنا ونمط توزيعها وانتاجها.  كان حلمى ببساطة هو أن تظهر “كليّة” للدراسات الدّينية  لائكية الروح Faculté laïcisée  تتبني شروط التعليم العالي المعاصر وتفسح المجال للنقد التاريخيّ  والنصيّ وهذه  الكلية او  المركز وإن كان مُعلمناً في روحه وتوجهاته فإنه يجب أن يكون موضعا للقاء بين العلماء  الذين تجمعهم كفاءاتهم لا عقائدهم وبالتّالي فانه لا مجال لأي شرط من شروط اللائكية أو التديّن لتحمل المسؤوليات العلمية فيه.

ولعله من المفيد أن أؤكد أنني لا أدعو أبدا إلى أن يشجع النظام الجمهوري على قيام تعليم معاد للدّين. فهذا المركز أو الكلية وإن كان متشبّعا بقيم الجمهوريّة فانه لا تصدر عن تعليمه ومناهجه أي نزعة معادية للدّين بل لعلّ أغلب من قد يشكّلون نواة مدرسيه وطلبته إنما هم ممن يعتقدون في قرارة أنفسهم أن الدّين هو من أعظم ما أنتج الوعي البشري ولكنهم ليسوا مستعدين للتضحية بحقوق المعرفة لرعاية لحقوق الله فقط حسب عبارة الحارث المحاسبي.

أين وصل هذا المشروع أو هذا الحلم… هل تحقق جزء منه؟

مع الأسف لم يتحقق الشيء الكثير وقد هزني الأمل  بعد تغير الأوضاع في البلاد منذ عشر سنوات خلت  إلى إعادة السعي لتحقيق ما يمكن تحقيقه  فتمكنت وبعض الزملاء من تأسيس ماجستير للديانات المقارنة وهناك سعي مستمر لتحقيق امنية تأسيس قسم للأديان المقارنة تم قبره زمن النظام السابق لأسباب تافهة ولم يشتغل قط ولكن الحصيلة ضعيفة لأسباب كثيرة  ولعل أكبر أمر يؤرقني هو انني لم أستطع تأسيس مكتبة مختصة في الأديان لان الميزانيات  ضعيفة  والإرادة  كذلك وأسعار بعض الموسوعات الالكترونية تفوق الخمسين ألف دينار  الخ ….وبحكم اقترابي من سنواتي الأخيرة للتقاعد فقد صرت مقتنعا بأن عدم ادراك الجمهورية مخاطر ترك المسألة الدينية دون حل – وقد كانت في سعة من الوقت عندما لم تتبنّ هذه الاختيارات الاستراتيجية ولم تقف موقفا حكيما ينظّم صلتها بالدّين يحرّكها فقط  مجرد استغلال الدّين- سينتهي الأمر في النهاية إلى وضعها هي نفسها موضع التساؤل . إن مبادرة الجمهوريّة في نظري إلى إصلاح المؤسسة الدّينية وصنع مؤسساتها التي تحمى الدّين وتحميها سيخلق في المجتمع من القوى ما تجده سندا لها زمن الأزمات -وها هي قد وقعت اليوم – وتجعل الناشئة تتشبّع بقيمها في كنف احترام الدّين والجمهورية على حد سواء ولكن قد أسمعت لو ناديت حيا..

عقدان من الزمان أو أكثر لم يغيّرا من قناعتنى  بأن تونس – كغيرها من بعض البلاد العربية – ستعرف أزمات دورية  بسبب عدم الانتباه إلى ضرورة حلّ المشكلة الدينية ” بطريقة راديكالية” وكنت أظن منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي مع أفول الحكم البورقيبى أنه بالإمكان أن نمنع الطوفان الذي كانوا يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً وحين أنظر اليوم إلى ما كان جزءا من تأملاتي في موضوع الدين والنظام الجمهوري أرى أن كل توقعاتي الكارثية حدثت وأن الاتي أعظم ما لم يتهيّأ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رشد بالرغم من أنيّ لم أكن يوما رائيا ولا كاهنا ولا ممن كانوا يعبرون عن الرؤى ولا زلت أعتقد أن الإصلاح الذي لا يأتي في وقته قد لا يأتي أبداً وأنه إن أتى فبكلفة غالية كان من الممكن تجنيب البلاد والعباد أثارها والسبب هو  قصر نظر السياسيين المهتمين بالآني والمباشر يجعلون أصابعهم في أذانهم بدل الاستماع لمن جاؤوا لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. هؤلاء السياسيين الذين إذا نظروا آنذاك إلى جنتهم قالوا ما نظن أن تبيد هذه أبداً وظنوا أنهم قادرون عليها حتى إذا فار التنور صارت حصيدا كأن لم تغن بالأمس.

أنت من الذين يدافعون في سياق تخصصك في مجال مقارنة الأديان عن فكرة انفصال الإسلام عما تسميه بالتيار المسيهودي فهل من توضيح أكثر؟

في الحقيقة لست أول من لفت النظر إلى هذا المسار البحثي الذي سبق ظهور المدرسة الانغلوسكسونية علي يد المنظر جون وانزبرو سليل التقاليد الألمانية. فبعض الالمان منذ نهاية القرن 19 وبداية العشرين نبهوا إلى ذلك ولكن هذا المذهب لم يلق الحظوة التي تستحق الا عندما تلقفته الأوساط الانغلوفونية والمدخل إلى هذا هو أن تاريخ الأديان المقارن لا يقبل بفكرة نشوء الأديان مثلما اعتادت على ذلك السرديات الدينية  التقليدية لأنه يبحث عن المعقولية  في نشأة الاديان وتاريخياتها. وما يلاحظه من تشابه بين الديانات في منطقة جغرافية متقاربة وهو ما يجعله يبحث عما يمكن تسميته “بنحو” الديانات. وفي مجال الأديان يجب أن يفهم المتخصصون أو الذين يدرسون هذه المسائل للناشئة، أن الأديان تتناسل بعضها من بعض، وليس هذا عيبًا في الدّيانة، وربما بهذه الكيفية نفهم ما جاء في القرآن “هذا في الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى”

فالديانات الكتابية (الإسلام أو المسيحية أو اليهودية) لا يضيرها أن تكون سليلة هذا الذي أسميه بالرصيد السامي المشترك، فكل هذه الأديان أعادت استثمار هذا الرصيد استثمارا حوّلها من الفرقة إلى الكنيسة، ومن الفرقة إلى المسجد وهذا السؤال أساسي في تاريخ الأديان ومقارنتها إذ ما هي الشروط التي تجعل بعض هذه الفرق الصغيرة تتحول إلى أديان، وبعضها الآخر يبقى في مستوى الفرقة، ولا يتطور إلى مرحلة أعلى، أي مرحلة الديانات؟ وهو مدخل مهم في علم اجتماع الأديان مارسه الألمان بتوفيق كبير منذ القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر بالخصوص، وقد بينت  أهمية أن ينظر تاريخ الأديان إلى هذه الدّيانات من زاوية النظر هذه والاسلام من هذه الناحية في صيغته الحنيفية مثلما يعرفها المسلمون وهناك شواهد ومؤيدات كثيرة تدل على أن الاسلام الناشئ هو امتداد لهذه الجماعات المسيهودية التي لم تعترف بها اليهودية الربانية والمسيحية البولسية ووجدت ملجأها في الجزيرة العربية. والحقيقة أن الكثير من المتابعين العرب لمحاضراتي ولكتابات المدرسة الانغلوسكسونية التي أعادت احياء المباحث الألمانية توقفوا عند الوجه الصادم لهذه الفرضيات ولم يفهموا نقطة اختلافي مع هذه المجموعة لأن هذه المدرسة توجه لنا أسئلة حقيقية بقطع النظر عن التفاصيل وهي: كيف نستطيع أن نتشرب هذا النقد التاريخي، لأنّ الخطر ليس في هذه الفرضية فهذه الأفكار وإن  كانت صادمة فإنها تبقى مسائل ثانوية، ذلك أن  المشكل الأساسي هو كيف نستطيع نحن العرب المسلمين أن نواجه السؤال التاريخي، أو الكتابة التاريخية، بمعنى إذا واصلنا السير في هذا الخط، وهو رفض النقد التاريخي بأشكاله الراديكالية المزعجة للإيمان، فما الذي سيكون عليه مصيرنا؟ إن أخطر ما في هذه المدرسة هو القضايا المنهجية التي تثيرها بطريقة راديكالية. واستتباعاتها النظرية التي تؤدي لا محالة إلى إخراج الإسلام من الحضارة المسيـهودية ومن الفضاء الإغريقي الروماني وهذا أمر خطير، وأزعم أنى بينت في بعض الدراسات أن هذا الإسلام هو الوريث الحقيقي لهذه المسيـهودية التي يحاول هؤلاء إقصاءه منها، وهذا يتطلب جهدًا نظريًّا كبيرًا في الحقيقة.

ما هو الحل للخروج من هذا المأزق النظري حسب رأيك؟

على المسلمين اليوم ألا يخافوا من النقد التاريخي في شكله الراديكالي والجذري الذي قد يكلفهم فعلا ثمنا غاليا ولكنه الوحيد لكي يبقى هذا الإسلام حيًّا من الناحية التاريخية لا يمثل عائقًا أمام بقاء الإسلام، وهناك حل بل حلول كثيرة لكي يتمكن هؤلاء المسلمون من تقبل كل النقد الذي ظهر مع المدرسة الأنغلوسكسونية، والخروج منه بأخف الأضرار، وهذا ممكن، وهذا هو عمل الجامعات.

بعض أعضاء هذه المدرسة هم من اليهود… ألا يشكل هذا مدخلا للتشكيك في ما تكتبه؟

يجب أن يفهم المسلمون أنه لا داعي لهذا الخوف المرضي من اليهود وخصوصا في مجال التخصص. فالعلماء اليهود موجودون في كل العالم وفي جميع التخصصات  وليست مشكلتنا مع اليهود اطلاقا ويكفي أن اذكر أن حركة الاستشراق التي نهل منها المسلمون ويسبها بعضهم ليلا نهارا مدينة إلى ما يعرف بمدرسة علم اليهودية أو ما يعرف بالعبرية “حاخمات يسرائيل” فجزء كبير من المستشرقين الذين عرفهم العرب والمسلمون كانوا من ذوي أصول يهودية بالأساس، وهؤلاء كانوا ينتمون إلى ما يعرف بحركة الأنوار اليهودية أو ال “هاسكالاه” ، وكانوا ينتمون، في ألمانيا وفي الدّول التي تتكلم اللغة الألمانية (مثل النمسا والمجر) إلى مدرسة  “علم اليهودية”. وهي التي أنجبت لنا كل الأسماء التي نعرف من غولد تسيهر وأبراهام جايجر وغيرهما وهؤلاء لهم أياد بيضاء على الدراسات الإسلامية والعربية  وتحقيق النصوص ورغم أن بعض السذج قد شنعوا عليهم طوال عقود بسبب أصولهم اليهودية فإنهم لم يفهموا اطلاقا أن هؤلاء وهم رواد ما يعرف بالاستشراق الكلاسيكي قاسموا المسلمين تقريبا نفس الأطر المعرفية ولم يفعلوا سوى أن دفعوا بمنطق المسلمين الكلاسيكيين إلى أقصاه لان النقلة الحقيقية ستكون على يد المدرسة التصحيحية منتصف سبعينات القرن الماضي.

ما هي منزلة الدراسات العربية الإسلامية في الكيان الصهيوني اليوم؟ 

في الحقيقة مثلت سنة 1925 سنة تأسيس الجامعة العبرية في القدس المحتلة التاريخ الحقيقي للانتقال من جيل “علم اليهوديّة” إلى مرحلة الدراسات اليهوديّة كما يطلق عليها اليوم. ومن أعلام هذه المرحلة في ما يتعلق بالدراسات العربيّة والإسلامية ذات الصلة باليهودية نذكر كلاًّ من ساسون سوميخ ودافيد أيالون  ويوسف سادان ويهوشواع بلاو وموشي جيل وسارة شترومسة وأوري روبين ومايكل ليكر والبار أرازي وغيرهم ممن تعجّ بهم الجامعات الإسرائيلية ومراكز الدراسات اليهوديّة العربيّة في الجامعات الأوروبية والأمريكية، علما أنه يوجد اليوم حسب بعض الدراسات ” حوالي 600 مدرسة إسرائيلية تدرّس العربيّة وآدابها بإشراف شلومو ألون ويؤمها حوالي 16000 تلميذ يهوديّ بين سنّ 15 و16 سنة يجتاز حوالي 2000 منهم الباكالوريا مختارين اللغة العربيّة مادة من موادّ الامتحان. هذا بالإضافة إلى أن لكلّ مدرسة لتكوين المعلمين قسما خاصا باللغة العربيّة وآدابها وحضارتها ومن أشهرها مدرسة دافيد يلين – المتخصّص في الشعر العربي القديم- لترشيح المعلمين وكذلك معهد بئر طوبيا ومعاهد بيت بيرل وايفنسكي واورانيم وكاي ببئر السبع ومدرسة الترشيح الراجعة بالنظر إلى حركة الكيبوتزات الإسرائيلية ويشرف على التدريس في هذه المعاهد حوالي 1300 مدرّس أغلبهم من اليهود.

ويتمركز البحث في ما يتصل بالإسلام الوسيط في إسرائيل في “خمس جامعات كبرى هي الجامعة العبريّة بالقدس وجامعة تل أبيب وجامعة حيفا وجامعة بار إيلان وجامعة بن غوريون وتحتوي كلّها على كليات أو أقسام متخصّصة في دراسة اللغة والحضارة الإسلاميّتين في معناها الواسع غير أن البحث في العالم الإسلامي الوسيط لا ينحصر في أقسام اللغة العربيّة فحسب إذ توجد  في الحقيقة أقسام متعدّدة للتاريخ والحضارة العبريّة يدرس فيها مختصون في تاريخ الجماعات اليهوديّة في ديار الإسلام في العصر الوسيط أو تدرّس وثائق الجنيزاه مما يعني وجود عدد من الباحثين يشتغلون حول العالم الإسلامي بطريقة غير مباشرة ” ونظرا لطبيعة المجتمع الإسرائيلي الصهيوني  من حيث هو مجتمع عسكريّ فإنّ كلّ الباحثين تقريبا هم ضبّاط احتياط وذوو رتب عسكرية  ويتعاملون كلّ من موقعه مع المؤسسات الأمنية والاستخباراتية حسب قدرته في مجاله  وإمكانياته والحاجة إليه. وهنا وجب الحذر والانتباه ومعاملة كل باحث حسب ما يكتب ومضمونه ومناهجه فمثلما أنجبت المؤسسة الاكاديمية أمثال المتعصب  موردخاي كيدار فإنها أنجبت أيضا أيلان بابي وشلومو ساند وغيرهما من أعلام ما يعرف بالمؤرخين الجدد المناصرين للسردية الفلسطينية بدرجات متفاوتة.

وإلى جانب  الجامعات توجد في إسرائيل  بعض المراكز أو المؤسسات البحثية  المتخصصة في العالم الإسلامي  والجماعات اليهوديّة التي عاشت فيه ومن بينها مركز “هاري ترومان لأبحاث السلام” ومركز “موشي دايان  لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا” بجامعة تل أبيب  وكذلك مركز “بيغين – السادات” في جامعة بار إيلان والمركز “اليهودي العربي” بجامعة حيفا وكلّها تقدّم مساهمات تختلف جودتها وخلفياتها وتأثيراتها في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي وتاريخ الإسلام والعرب قديما وحديثا بالإضافة إلى مركز يتسحاق بن زفي وهو جزء من الجامعة العبريّة في القدس وهو “متخصص في دراسة حياة يهود المشرق وثقافتهم وتراثهم وجزء كبير من تاريخ يهود تونس ووثائقهم موجود في هذا المعهد في حين لا يوجد في العالم العربي للأسف  إلا ثلاث مؤسسات بحثية خاصة بعدما دمّر شارون مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت بعد اجتياح لبنان في 1982 وسهر على نشأته  المرحوم أنيس صايغ  في حين ينظر العموم إلى أقسام الدراسات اليهودية في مصر  مثلا على أنها طابور خامس بما يعكس الحاجة الى بذل مجهود كبير لتدارك هذا التفاوت الذي خصصت له دراسة مرجعية في الموضوع.

ما رأيك في وضع الجامعة والتعليم عموما والمشاكل التي تعرفها المنظومة التربوية في بلادنا؟

وضع التعليم بمراحله المختلفة ليس على ما يرام  منذ فترة طويلة وهذا ليس سرا وقطاع  التعليم في تونس بمراحله الثلاث يعاني من اخلالات  جسيمة في التصورات والمناهج والانتدابات والأجور وهي اخلالات عميقة تراكمت عبر عشرات السنين وأدت في النهاية إلى كفّ المدرسة التونسية الحالية عن تحقيق النجاحات وهي تسير إن كان فيها بعض التوفيق بقوة الدفع الأولى التي أرساها آباء دولة الاستقلال وهي تتوجه نحو التوقف الكلي  ولا أتوقع من الدولة مهما كان القائم عليها اهتماما بإصلاح التعليم  إصلاحا حقيقيا قبل عشرين سنة قادمة لأن الخراب المعمم في الاقتصاد وأوليات الامن والتشغيل  والاشتباك السياسي ستستهلك  كل موارد واهتمامات المسؤولين في العشريتين القادمين  واعتقد أنه كانت للدولة اليد الطولى في انهيار التعليم للأسباب التالية:

1 – ارتكابها خطأ لا يغتفر مارسته الحكومات المتعاقبة منذ أواخر العهد البورقيبى وأدى إلى حذف مدارس الترشيح وخنق دار المعلمين العليا والحط من شأن مناظرات التبريز. فالتعليم صناعة ككل الصناعات التي تحتاج إلى تكوين متين وليس مصب فضلات تستعمله الدولة لحل مشاكل البطالة وامتصاص الاحتجاجات وترضية الجهات والأحزاب والاصل أن تمنع ممارسة هذه المهنة على غير المتخصصين ولا تكفي مجرد الشهائد ليمارس المرء هذه المهنة العظيمة

2 – عدم أدراك القائمين على التعليم ضرورة مراجعة نظام الضوارب الفاسد بين المواد النبيلة والمواد التي لا تنفع وجهلها لا يضر وهو ما أدى إلى خلق أجيال غير متوازنة ومريضة ودمر الانسان من أجل خلق التقني في هذا النظام وأدى إلى ظهور نظام الدروس الخصوصية فالدولة هي المشجع الأول على الدروس الخصوصية وهي من يستطيع انهاءه في وقت قياسي.

3 – عدم أدراك القائمين على شؤون البرامج ضرورة حذف نصف المقررات والحشو الفارغ الذي تعج به الكتب المدرسية والذي أدى إلى تنفير الشباب من المعرفة فالغاية هي خلق الفضول وليس الحشو ولكن الحشو عندنا مقدم على تربية الفضول.

4 – عدم أدراك القائمين أنه من الضروري اعتماد كتابين او ثلاثة تجمع كل المواد واحد للآداب والفلسفة وواحد للعلوم بأصنافها وواحد للفنون.

5 – عدم أدراك القائمين أن التدريس لا يكون الا صباحا ويخصص المساء لكل الأنشطة الفنية من المسرح والسينما والموسيقي واللغات والرسم والرقص الخ فنحن نحتاج المسرحي الجيد والموسيقار الجيد والشاعر أيضا كحاجتنا للطبيب والمهندس.

6 – حذف نظام التوجيه نهائيا وتترك للتلميذ حرية اختيار مستقبله بعد أن يجتاز في الصائفة اختبارات القبول في الكليات التي يرغب فيها.

7 – لا يجب القيام بأية إصلاحات دون استشارة المتفقدين وإعادة القيمة والاعتبار لهذا السلك الذي تحول أغلب منتسبيه إلى اعوان تنفيذ لسياسات رعوانية.

8 – توفير مرتب لائق للمدرسين يحفظ كرامتهم ويدفع عنهم الحاجة إلى ذل السؤال وتحويل من كادوا أن يكونوا رسلا إلى متسولين على أعتاب البيوت والعائلات.

9 – فتح أبواب المعرفة والارتقاء عن طريق الدراسة بتغيير نظام التدريس في الجامعات حتى تستجيب لتوقيتهم وظروفهم.

10 – على الدولة أن تكف عن سياسة الخور اللغوي وتسارع بتعريب التعليم في الابتدائي والثانوي تعريبا صحيحا ويكفي من سياسة المداورة التي دمرت التعليم والأجيال. أن المطلوب في الابتدائي والثانوي هو نقل المعارف وتبسيطها وليس إنتاجها وهذا لا يكون إلا باللغة الوطنية وهكذا تفعل كل الأمم المحترمة أو على الأقل لتكن هناك الشجاعة السياسية الكافية لاعتماد الفرنسية أو الإنجليزية وكفى الله المؤمنين شر القتال.

11 – إن أكبر فساد اليوم هو فوضى المناهج والمدارس من داخل التعليم العمومي نفسه بين عمومي وخاص ونموذجي معد للتصدير في الأغلب وتعليم تقوده السفارات والبعثات ويضرب في العمق مفهوم المواطنة وهوية النشء الذي حرص آباء الدولة الحديثة على بنائه من خلال توحيد التعليم.

إن المدرسة التونسية اليوم هي مدرسة منفرة يرتادها التلاميذ رغما عنهم يكرهون فيها دروس التاريخ والفلسفة والدين وهذا خطر عظيم لأن هذه المواد هي التي تصنع الانسان السوي. فمدرستنا للأسف تكوّن أجيالا للعيش في الماضي وليس في المستقبل وهي عوض أن تساعدهم على العيش في مستقبل الميتافيرس تعدّهم من حيث لا تدرك للشروح والحواشي وشعارها يكاد يكون شعار “عودوا إلى القدامى ” الذي تحدث عنه سلامة موسى. 

أما في الجامعة فالأمر أخطر وأعقد خصوصا في مجال الانسانيات تكوينا وتصورا ومخرجات وهو ما يحتاج إلى أن تفتح فيه صحيفتكم ملفا لوحده وكنت قد تحدثت في احدى التدوينات التي كتبتها ووجدت صدى كبيرا في الاعلام عن مخاطر التعليم الجامعي خصوصا في مسائل تدريس الدين مجال اهتمامي والتي تهدد توازن المجتمع إن تواصل الأمر على ما هو عليه سواء تعلق الأمر بالتعليم الزيتوني أو بكليات الآداب.

لننتقل إلى الجانب السياسي.. ما هو رأيك من مسألة التطبيع الحالية التي تشهدها بعض الدول العربية مع إسرائيل وأنت المتخصص في الدراسات اليهودية؟؟

موضوع التطبيع شائك جدا ومن الضروري أن يفهم القائمون على شؤون البلدان  العربية أن  المشروع الصهيوني كما بدأه هرتزل ثم عمقه زعيم الصهيونية القومية فلاديمير جابوتنسكي وزاده زخما التقاء الصهيونية باليهودية مع حاييم كوك يشكل خطرا متناهيا على فلسطين وأهلها وعلى الوجود العربي كله لما في هذه الصهيونية من نزعة نحو الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية على الأرض وعلى كل البلاد العربية وهذا يحتاج إيضاحه إلى غير هذا الموضع لان التطبيع في جوهره هو ميكانزيم لجعل المشروع الذي بني على  الاستعمار الاستيطاني  وعلى القوة أمرا مقبولا وتبييضه مثلما يتم تبييض الأموال إن قبلنا بهذا التشبيه .

بناء على ذلك فموقفي المبدئي هو رفض التطبيع المؤسساتي بالكامل ما لم يتم حل الصراع بشكل نهائي من خلال حل يضمن حقوق الشعب الفلسطيني وحل القضايا الأربع الكبرى القدس وحق العودة (اللاجئين) وطبيعة الدولة الفلسطينية وحدودها والاستيطان بعيدا عن أية دواع دينية من الجانبين ولا يجب إعطاء إسرائيل أي تنازل دون مقابل وهذا يستدعي الوقوف في وجه تحول إسرائيل إلى دولة يهودية بكل الوسائل التي من شأنها الدفع بمشروع الترانسفير والتهويد والاستيطان وإعطاء الصراع بعدا دينيا وهو ما يتم اليوم بشكل متسارع و ما تفعله بعض الدول العربية اليوم هو خطأ تاريخي فادح ناتج في بعض منه عن الجهل بطبيعة المشروع الصهيوني  عند النخب القيادية وأسباب أخرى بطبيعة الحال.

ما هو رأيك في الوضع السياسي الحالي بتونس؟

لست رائيا ولا منجما ولكن تأملي في أوضاع بلدنا الحالية يدفعني إلى استنتاج أن تونس ستبقى في وضع عدم استقرار سياسي لعشر سنوات أخرى على الأقل لأسباب سياسية واقتصادية وإقليمية معقدة  واعتقد أن ما نعيشه اليوم هو نتيجة لعمى الدولة التاريخي منذ زمن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ومن جاء بعده والذي لم يفهم طبيعة العلاقة بين الدولة والدين  فبورقيبة  اعتبرها مشكلة منتهية منذ اصلاحاته الاولى في التعليم  وتمكين النظام الجمهوري واعلن انتصاره قبل فوات الاوان والثاني اعتبرها مجرد مشكلة امنية  والواضح أن تونس ستعرف كما عرفت في الماضي أزمات دورية كل عشرين سنة تقريبا تطيح بكل إنجازات المجتمع الاقتصادية سببها المسالة الدينية وما لم يتم اخراج الإسلام السياسي من الحياة السياسية بمنع  تكوين الأحزاب وفق مرجعية دينية او لغوية او عرقية  فإن تونس ستظل في وضع عدم استقرار دوري بسبب هذه التنظيمات السياسية الدينية التي اسميها بالروماتيزم السياسي المزمن  المتمكن من مفاصل الدول العربية منذ حوالى القرن .

لقد ظهر جليا أن حركة  النهضة  – وهي بالمناسبة لا صلة لها بالنهضة  ولا بالإصلاح  ولا بالثورة مثلما عرفها غرامشى – وكذلك مشتقاتها ليست سوى تنظيمات سياسية غايتها الوصول إلى الحكم وهو أمر مشروع شرط التخلي عن أية مرجعية دينية للعمل السياسي والتقدم بوجه مكشوف كأحزاب سياسية ذات برنامج مدنى لا يتدثر بالمقدس وعلى السياسيين الذي يتصدون لهذا المشروع أن يفهموا أن  أزمات دورية أخرى قادمة وقد تختفي النهضة لتظهر مسميات جديدة  والسبب واضح لمن أراد أن يفهم وهو أن الاشكال الحزبية قد تختفي ولكن الأصولية في تونس وفي البلاد العربية  لا تزال سليمة في النفوس والضمائر وتغذيها مدرسة الجمهورية مع الأسف الشديد  ولن تحل مشاكل تونس قبل حل المسألة الدينية بشكل جذري .

ما يعقد الامر أن الاسلام السياسي لا يزال يجد سندا من القوى الكبرى في سياق الصراعات الجغراسياسية المعقدة ورغم إدراك هذه القوى الكبرى أن العنف هو جزء مكون لثقافة هذه التنظيمات بل مكون أساسي لثقافة شعوب لم تعرف في تاريخها مفهوم الفضاء العمومي او الاغورا مثلما يسميها اليونانيون فإنها تواصل استعماله وحمايته ويكفي النظر إلى إنجازاته التي انحصرت في الاجهاز على ما تبقى من الدول الوطنية الذي يصب فبي النهاية في التمكين لإسرائيل في المنطقة لقرن قادم على الأقل لنفهم ثمن عدم ادراك الاهتمام بإيجاد حل جذري لمنزلة الدين في هذه المجتمعات ومنها المجتمع التونسي. وهذه الدول الغربية بالأساس وامريكا على وجه الخصوص تدرك أن ازمة العالم العربي وصراعه مع العالم الحديث وصلت الى ذروتها من خلال تصدير أزمته إلى بقية العالم ومع ذلك تواصل استثماره وتوفير الملاذات الامنة له وتعيق سعي المجتمعات العربية ونخبها الحقيقية للخروج من التيه الذي استمر قرنين حتى الآن وفوت على هذه المجتمعات الثورتين الصناعية والرقمية وسيفوت علبها الثورة الافتراضية في ما يبدو في قادم الأيام.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 18 جانفي 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING