الشارع المغاربي-حاوره: محمد الجلالي:اكد كمال سحنون عميد المهندسين التونسيين ان تأجير المهندسين شهد تراجعا لافتا خلال العشرية الاخيرة على خلاف عديد الاسلاك الاخرى مشيرا الى ان ذلك يعود أساسا الى عقلية المهندس المنصرف للعمل والبناء بدل الاحتجاج والاضراب والى تواطؤ خفي بين الادارة العميقة وطرف اجتماعي صلب الادارة.
العميد شدد على أن المهندسين لن ينخرطوا في ملف اصلاح المؤسسات العمومية اذا تفطنوا الى ان ذلك مجرد تمثيلية لإلهاء الرأي العام الداخلي او لايهام الخارج أو تعلة لبيع المؤسسات داعيا في حواره مع أسبوعية “الشارع المغربي” الى ضرورة العمل اكثر على تغيير عقلية الموظف من عقلية قائمة على التواكل والبيروقراطية الى عقلية تنافسية وخلّاقة.
في البداية كيف هي أوضاع المهندسين المادية في ظل تأزم الاقتصاد؟
سنة 2016 أنجزت عمادة المهندسين دراسة عن واقع المهندس التونسي مقارنة بنظرائه في بلدان شبيهة بنا فخلصت الى ان راتب المهندس التونسي يقل باربع مرات عن راتب المهندس المغربي وبمرتين عن نظيره الاردني. وضعية المهندس التونسي تراجعت أيضا مقارنة ببقية الأسلاك التي تعادله في عدد سنوات الدراسة على غرار الأساتذة الجامعيين او القضاة او حتى اساتذة التعليم الثانوي. وبعد ان كنا خلال سبعينات القرن الماضي نحصل على راتب اعلى منهم انقلب الامر ليصبح راتب المهندس اقل بكثير من العاملين في كل هذه القطاعات.
وما أسباب تراجع قيمة تأجير المهندسين؟
يعود ذلك الى عدة أسباب من بينها عقلية المهندس الذي عادة ما يكون من خيرة خريجي الجامعات وينصرف للعمل والبناء ولا يلجأ للاحتجاج والاضراب وتعطيل نشاط المؤسسات. فقد استفاد الجميع من تزايد المطلبية الاجتماعية محققا ترفيعا واضحا في الرواتب بلغ حد مضاعفتها ما عدا المهندس الذي لم يحصل على أية زيادة خصوصية. وكانت النتيجة ان تدهورت قدرتنا الشرائية. والغريب ان الحكومات المتعاقبة ماطلت في التنفيذ الكلي والشامل لاتفاقيات الزيادة التي تم توقيعها منذ سنة 2018. بل لمسنا حصول مهندسي الوظيفة العمومية والبلديات على الزيادات المتفق عليها واستثناء مهندسي المنشآت العمومية كالصوناد والستاغ.. وفي 16 فيفري 2021 وقّعنا اتفاقية جديدة مع حكومة هشام المشيشي لتعميم الزيادات في المنحة الخصوصية على مهندسي القطاع العمومي لكننا لاحظنا استماتة طرفين نافذين في الادارة في رفض تمكين المهندسين من حقوقهم المشروعة مع العلم ان الطرفين يشرفان عمليا على تسيير الادارة العمومية رغم افتقارهما أية كفاءة أو جدارة.
ومن مهازل الدهر ان كاتب عام احدى الحكومات لم يكتف بحرمان المهندسين من التمتع بالزيادة المستحقة بل حرّض 5 قطاعات على اصدار بيانات كانت تصب كلها في رفض تمكيننا من حقوقنا والتهديد بايقاف العمل ايقافا كليا في صورة تنفيذ اتفاقيات ممضاة من قبل رئيس الحكومة. باختصار كنا ضحية تواطؤ خفي بين الادارة العميقة واحد الاطراف الاجتماعية لحرمان ثلثي مهندسي المنشآت العمومية من الزيادات الخصوصية وهو أمر يندى له الجبين. وكنتيجة لذلك تعفن المناخ صلب الادارة العمومية وساءت العلاقة كثيرا بين موظفي المؤسسات وتراجعت مردوديتها. فلا غرابة اذن ان تتفاقم هجرة المهندسين لتبلغ سنويا 6500 مهندسا. رقم رسمي سبق لرئيسة الحكومة نجلاء بودن ان استشهدت به حين تحدثت مؤخرا عن هجرة ثلث المهندسين. وهو أيضا رقم بات يقضّ مضجع الحكومة دون ان نرى منها اي تفاعل للحد منه او تحسين اوضاع المهندسين. وهو كذلك امر قد نجد له تفسيرا بالنظر للأسباب التي سبق لي ذكرها بالإضافة الى الظروف العامة التي تمر بها البلاد.
ألهذا رفعتم شعار “لا لإصلاح المؤسسات العمومية دون تشريك المهندسين”؟
اعتقد انه لا يمكن الحديث عن اي اصلاح للمؤسسات العمومية او عن تحقيق اية مردودية اذا لم يتم تمكين المهندسين من حقوقهم كاملة لأن المهندس هو الذي يخلق الثروة ويحقق التنمية. اذا كان موضوع اصلاح المؤسسات مجرد تمثيلية لإلهاء الرأي العام الداخلي او لايهام الرأي العام الخارجي أو تعلة لبيع المؤسسات والتفريط فيها فلا يمكن لنا ان نكون طرفا في ذلك ولا يمكن لنا توريط العمادة في هذا الملف. واذا كان هدفهم تحسين نجاعة المؤسسة والترفيع في مردوديتها فلا مفر من تشريك المهندسين لانهم الاكثر اطلاعا على واقع المؤسسة والانجع في انقاذها والذهاب بها بعيدا على طريق الاقلاع الاقتصادي. اما اذا كان الملف مُسيّسا فالعمادة ليست مستعدة للمشاركة فيه. نحن اليوم مضطرون لإصلاح المؤسسات العمومية التي باتت في امس الحاجة للإنقاذ. وفي هذا الاطار تتهيّأ العمادة في قادم الايام للإفصاح عن رؤيتها الاصلاحية انطلاقا من ندوة عامة سيتم تقديم مخرجاتها الى رئاستي الجمهورية والحكومة.
هل سيتم الانطلاق من ورقة بيضاء ام انكم تملكون تصورا أوليا للإصلاح؟
نحن ندرك ما يجب القيام به لإصلاح المؤسسات العمومية على مستوى التسيير والمردودية والانتاج مع الانطلاق مما تم انجازه من دراسات سابقة حول هذه المؤسسات. علينا العمل اكثر على تغيير عقلية الموظف من التواكل والبيروقراطية الى عقلية تنافسية وخلّاقة في بيئة مشجّعة على الانتاج.
وكيف يمكن الحد من هجرة المهندسين؟
لو تمعّنا في تاريخ البلدان التي استطاعت في ظرف وجيز المرور من دول متخلفة الى دول متطورة لاكتشفنا انها عوّلت أساسا على اقتصاد المعرفة. وقد احدثت العمادة في 2019 مجلس علوم الهندسة حتى يكون قوة اقتراح للدولة وهو بصدد الاشتغال على منوال تنموي قائم على اقتصاد المعرفة. ولنا في بلدان مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة وتركيا افضل مثال على ذلك.
الى أي مدى يساهم مناخ الاعمال والقوانين والادارة في تشجيع المهندسين على بعث المشاريع؟
سوف اجيبك على لسان اكثر من مهندس خاض غمار الاستثمار الخاص فواجه صعوبات جمة بسبب بيروقراطية الادارة. اذكر ان شابا برع في تصنيع طائرات “الدرون” فوجد نفسه ملاحقا أمنيا حتى توطدت علاقته بأعوان الامن ولكنه لم يُفلح في انجاح مشروعه بتونس ثم هاجر الى العربية السعودية اين استقر وبعث مشروعه وحقق نجاحا باهرا. مثال آخر كان حديث اغلب وسائل الاعلام هو قصة نجاح باعثي شركة INSTADEEP المتخصصة في الذكاء الاصطناعي اللذين واجها صعوبات كثيرة في تونس لتركيز مؤسستهما قبل ان يسافرا الى بريطانيا ويعقدان صفقة بـ 410 ملايين أورو مع شركة ألمانية. ما يحز في النفس أن البيروقراطية الادارية وتعفن مناخ الاستثمار ما فتئا يحرمان البلاد من عائدات بملايين الدنانير من العملة الاجنبية وآلاف مواطن الشغل.
في المقابل رأينا مؤخرا احتفاء رسميا من حكومة بودن بباعثي الشركة الناشئة.
هو احتفاء لا يعود على البلاد والعباد بأي نفع في ظل عدم عمل الحكومة على تذليل الصعوبات امام اي باعث شاب.
الى اي مدى تعتبرون قانون المالية 2023 مشجعا للمهندسين على الاستثمار؟
هذا القانون لم يكن قانون مالية وانما قانون جباية.. لم نجد فيه اية سياسة استثمارية ولم نعثر فيه على أية سياسة للإنفاق ولخلاص اجور الموظفين العموميين.. وأكبر دليل على ذلك انه قانون منجز من قبل وزارة المالية لا من طرف وزارة الاقتصاد والتخطيط. لقد تم انجازه لسد ثغرة كبيرة في السيولة ونقص لافت في الموارد.. صحيح ان الظروف الدولية الحالية صعبة جدا بالنظر للحرب الدائرة في أوكرانيا والازمة الاقتصادية التي تلت أزمة كوفيد 19 ولكن اشراف ادارة الجباية على رسم ملامح قانون المالية ادى الى غياب اي نفس استثماري فيه. فالترفيع في نسبة الجباية بالنسبة لأصحاب المهن الحرة (من بينها مهنة المهندس) من 13% الى 19% سيفتح الباب أمام الاقتصاد الموازي ويؤثر على مداخيل مكاتب الدراسات وعلى عديد الشركات الناشطة في عديد القطاعات.
هل مازالت عمادتكم مصرة على مراقبة المدارس الخاصة لتكوين المهندسين وأين دور وزارة التعليم العالي الرقابي؟
قبل كل شيء غايتنا الاولى والاخيرة من مراقبة ظروف تكوين المهندسين هو ضمان جودة وقيمة شهائد الهندسة في الجامعات الخاصة. وقد عملنا كعمادة منذ أربع سنوات في اطار لجان تعود بالنظر الى وزارة التعليم العالي من اجل مزيد تجويد ظروف تدريس المهندسين بالقطاع الخاص ورسمنا مخططا لمراقبة مدارس التكوين. وقد ساهم عدم توفر استقرار حكومي وسرعة وتيرة تغيير الوزراء ونقص الموارد البشرية بإدارة مراقبة التعليم العالي الخاص في ترك هذه المؤسسات خارج اطار الرقابة العمومية بعد تمكينها من تراخيص النشاط. وهذا ليس بالامر الجديد بل يعود الى تاريخ تأسيس مؤسسات التعليم الجامعي الخاص أي الى عشرين سنة بما دفعنا كعمادة الى اجراء عمليات مراقبة ميدانية لجل المؤسسات. نفّذنا رقابة أولى سنة 2018 ادت الى انتداب 100 دكتور بالقطاع الخاص لتحسين جودة التكوين وساهمنا في فرض اجراء الاعتماد الدولي للشهائد الخاصة. وفي 2022 انجزنا مهمات رقابية ثانية فاكتشفنا ان 4 مؤسسات خاصة توقفت عن تدريس شهادة الهندسة وان اثنين كانتا لا تستجيبان لكراس شروط الوزارة واثنين رفضتا الخضوع لرقابة العمادة ويبدو انهما ترفضان اطلاعنا على ظروف التكوين والا ماذا يمنعهما من فتح ابوابهما امام مراقبينا؟
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 14 فيفري 2023