الشارع المغاربي-كوثر زنطور: تنتهي اليوم تجربة صحيفة “الشارع المغاربي” بعد 9 سنوات من العمل الشاقّ والدؤوب، حصيلتُه نجاح في رهان المهنيّة والمصداقيّة والاستقلاليّة،وبسقف عالٍ من حريّة التعبير مع صرامة في احترام أخلاقيات المهنة.تمكّنت”الشارع المغاربي” من التموقع بسرعة في المشهد الإعلامي التونسي، سواء بمحملها الإلكتروني أو بنسختها الورقيّة (قبل حجبها جرّاء أزمة فيروس كوفيد الخانقة واتخاذ قرار بتعويضها بنسخة رقميّة) لتصبح واحدة من أهمّ المؤسّسات الإعلاميّة على مستوى صحافة الجودة والالتزام بضوابط المهنة وأخلاقيّاتها.
مقابل هذا النجاح المهني، اصطدمت الصحيفة بصعوبة متناهية لتحقيق رهان الاستمراريّة بسبب عدم توفّر شروطها الموضوعيّة،وأهمّها السند الإشهاري الذي حُرمت منه الصحيفة باستثناء تعاملها على امتداد رحلتها مع مؤسّستيْن فقط. مردّ ذلك توجّس أصحاب المؤسّسات الكبرى من الزجّ بمصالحهم في صحيفة توسَمُ بـ”المعارضة”، وتُعرف بأنّها مغايرة للسائد في كافّة أقسامها السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وبذلك استحال تأمين الاستقرار المادي للفريق العامل من صحفيين وتقنيين ومتعاونين خارجيين. هؤلاء هم أبطال هذه التجربة الفريدة ورفاق مسيرة نضال حقيقية وصمود مهني وشخصي في مواجهة صعوبات شتّى. كان سلاحهم حبّ المهنة وإيمانهم بأنه لا بديل عن صحافة الجودة.
ليس من السهل إذن إعلان نهاية هذه التجربة بكلّ ما ستخلّف في وجداني من أثر منهك، سيكون من الصعب تخطّيه بعد سنوات طويلة من البذل والجهد،بما يفوق طاقة التحمّل على المستوى الذهني والأدبي والمادي. ومن المهمّ التذكير بأنّ”الشارع المغاربي” حافظت على امتداد تسع سنوات على تأمين أجور كلّ العاملين بها. فقد فرضت الصعوبات الجمّة التي مرّت بها المؤسّسة توجيه الأولويّة المطلقة إلى سداد الأجور في مواعيدها، إلى حين بلوغ المؤسّسة مرحلة الانهيار والعجز عن الإيفاء بالتزاماتها الماديّة.
كانت الأشهر الأخيرة صعبة على الفريق وقاسية اجتماعيّا ومدمّرة نفسيّا.فرغم الانقطاع الكلّي للدعم، حاولنا في مرحلة أولى تأمين رواتب كاملة، ثمّ اضطررنا لتقديمها على شكل أقساط لا تكاد تفي بالحدّ الأدنى لمتطلّبات أصحابها، ومن ثمّ سعينا ولو بشكل متقطّع إلى تقديم بعض الجرعات. وعلى الرغم من هذه الأوضاع حافظ كلّ العاملين في الصحيفة، تقريبا، على مستوى عال من المهنيّة والمثابرة والصبر والانضباط والاحترام والتفهّم. ولا يسعني في هذا السياق إلا أن أشكر زملائي على جهودهم الجبّارة وعلى تفانيهم البطولي. كما اعتذر لهم من القلب، من باب المسؤولية والزمالة والصداقة، عن كلّ ما كابدوه من متاعب ماديّة ونفسيّة.
ومن المهم توضيح بعض النقاط:
- حقوق الصحفيّين لن تكون محلّ توظيف أو مزايدات من أيّ جهة كانت.
- هناك اتفاق مبدئي مع السيد المنصف السلامي الشريك في المؤسّسة والمساهم الرئيسي في تأمين استقرار “الشارع المغاربي” خلال أشدّ أزماتها، دون تدخّل في خطّها التحريري منذ تأسيسها حتى اليوم، على إيجاد تسوية وحلّ نهائي للإشكاليّات العالقة.
- علينا، من باب النزاهة هنا، التنويه بدور السيد المنصف السلامي فيما منحه من دعم لامشروط للصحيفة إلى غاية سنة 2023 حين قرّر لأسباب شخصيّة إيقاف الدعم في عدّة مجالات إعلامية ورياضية وسياسية سبق أن استفادت من دعمه كوطني مشهود له بسخائه وعطائه.
- وضعيّة الصحيفة بكلّ تفاصيلها معلومة لدى كافّة العاملين بها خلال أزماتها الماليّة المتعاقبة. وقد عقدت الكثير من الاجتماعات مع تطوّر الأزمة للكشف بكلّ شفافيّة عمّا تواجهه من عجز مالي يستحيل تخطّيه في ظلّ حرمانها من الإعلانات. ومع ذلك فإنّ ثلاثة صحفيّين فقط ارتؤوا التوجّه إلى القضاء، وذلك من ضمن عشرات الصحفيّين والكتّاب والمتعاونين الذين واصل بعضهم البذل دون تقاضي مليم واحد منذ أشهر بل ومنذ سنوات. وإلى جانب العقلة التحفظيّة على تجهيزات الصحيفة التي فرضها عدد من المتقاضين، تُجابه المؤسّسة أيضا دعوى قضائيّة رفعها صاحب مقرّ الصحيفة لعدم خلاص معلوم الكراء طيلة أشهر، ممّا يستحيل معه الاستمرار.
- يمنعني احترامي لنفسي طبعًا من الخوض في تفاصيلَ تخصّ وضعيّتي الشخصيّة، ولو أنّها قد تكون أخطر من الوضعيّة الصعبة لعدد من الزملاء، لا فقط على مستوى توفير الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش الكريم، وإنّما أيضا بسبب ديوني المتراكمة التي تحوّلت إلى عبء ثقيل جدا، ديون يعود جُلّها إلى تسديد أجور العاملين،مع أنّني لم أتقاض أجرًا من الصحيفة،ولو مرّة واحدة، منذ تأسيسها إلى اليوم.بل واعتدت على تخصيص جلّ مداخيلي الأخرى (من عملي في الإذاعة) لتأمين المصاريف الطارئة للصحيفة.
- جريدة “الشارع المغاربي” لم تحصل مطلقا منذ تأسيسها حتى اليوم على نصيبها من الإشهار العمومي، وهو للتذكير حقّ حُرمت منه دون وجه حقّ لأسباب يبدو أنها تتعلّق بخطّها التحريري المستقل.
- واقع الصحافة المكتوبة في تونس اليوم يبدو للأسف الشديد الأكثر بؤسًا في تاريخ البلاد.وهذا القطاع الذي صُنّف قطاعا منكوبا منذ أزمة انتشار فيروس كوفيد لم يشهد أيّة إصلاحات على خلاف برامج التأهيل والدعم التي شهدتها جلّ دول العالم في هذا النطاق. وحتى مسألة تنظيم توزيع الإشهار العمومي فقد بقيت مجرّد حبر على ورق، فضلا عن الإخلال بالتعهّدات الرسميّة لإيجاد حلول لمعضلة التغطية الاجتماعية التي تمثل تقريبا إشكالا عاما لجلّ المؤسسات الإعلامية،ممّا ألحق أضرارًا عميقة بحقوق العاملين بها.
تتوقّف اليوم إذن النسخة الرقميّة (PDF) لصحيفة “الشارع المغاربي”، مع الإبقاء ربّما إلى حين على الموقع الإلكتروني.هذه الظروف القاهرة التي ما انفكّت تغتال الصحيفة تلو الأخرى تستوجب معالجة شاملة لقطاع الصحافة المكتوبة ولوضع المهنة الصحفيّة المهدّدة بالاندثار. وهو ما يتطلّب حشد كلّ الطاقات لبلورة حلول جماعيّة تكون منطلقا لخوض معركة البقاء. الأمر الذي يستحيل تحقيقه دون تحمّل الدولة لمسؤوليتها في عمليّة إنقاذ هذا القطاع على غرار ما جرى في مختلف الدول الديمقراطيّة التي تربط حيويّة نظامها الديمقراطي بتأمين الديمومة لصحافتها المكتوبة…
قد تكون هذه آخر أسطر نخطّها في “الشارع المغاربي”…لذلك أقول شكرًا من القلب لكلّ من آمنوا بهذا المشروع وبهذه المغامرة التي جمعت جيلا من المخضرمين ومن أهمّ كتاب النخبة ممّن سخّروا طاقاتهم بلا مقابل طيلة سنوات لتقديم إضافات مميّزة،فكانوا خير سند لجيل من الشباب سيمثل بلا شك مستقبل المهنة.
مودّتي لقرّائنا الأوفياء،رغم هذا الظرف الحزين، ولعلّ القادم أفضل…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 اكتوبر 2024