الشارع المغاربي-معز زيود: شهدت تونس، خلال السنوات الأخيرة، كوارث عديدة غير مسبوقة، غير أنّ غرق سفينة محمّلة بمئات الأطنان من المحروقات على بعد بضعة كيلومترات من شاطئ مدينة قابس كشف أنّ البلاد مُقبلة على أخطار رهيبة قد تأتي على الأخضر واليابس.
بعد الاغتيالات السياسيّة والعمليّات الإرهابيّة المتكرّرة والوفاة المسترابة للرضع وتوريد النفايات الخطرة وتناسل الأزمات الواحدة من رحم الأخرى وتحوّل المشهد السياسي إلى ما هو أشبه بسيرك للاستهتار والتلاعب بالمصالح العليا للبلاد بشتّى الأشكال، ها هم التونسيّون يستفيقون اليوم على كارثة بيئيّة وطنيّة وشيكة قد تكون أكبر من سابقاتها. فخطر تسرّب مئات أطنان القازوال من جوف تلك السفينة الغارقة قِبلة شاطئ قابس لا يُهدّد فقط بتدمير الوسط البحري في المنطقة وإفناء ما تبقى فيها من تنوّع بيولوجي بل من شأنه أن يقضي كذلك على مورد رزق الآلاف من صغار الصيّادين وسائر المنتفعين من الموارد البحريّة. كما قد يُشكّل وبالا على القطب السياحي بجزيرة جربة وما جاورها لسنوات طويلة جرّاء احتمال تلوّث شواطئها بشكل غير مسبوق. وهو ما سيرتدّ على البلاد برمّتها، وتبعاته لن تقف عند الجوانب البيئيّة والاقتصاديّة، بل ستحدث شرخا على سائر الأصعدة الأخرى الاجتماعيّة والسياسيّة وغيرها…
صورة قاتمة
لا نُبالغ هنا في رسم لوحة متناهية القتامة بقدر ما نستبق احتمال حصول بأسٍ شديد ومكروه مفجع، ومن أشدّ الضرورة بذل كلّ الجهود الممكنة لتجنّبه وتلافي تداعياته التي لا يصعب أن تحمّلها البلاد. ومن المؤسف طبعا أنّ اهتمامات التونسيّين في هذه الفترة منصبّة بالأساس، في ظلّ ارتفاع الأسعار، على تدبير شؤونهم الحياتيّة الصعبة لتأثيث موائدهم الرمضانيّة ومتابعة المسلسلات الدراميّة الجديدة وما إلى ذلك من شؤون ظرفيّة. وحتّى النخب السياسيّة باختلافها، من مساندي رئيس الجمهوريّة وخصومه، لم تجعل هذا الخطر الداهم نصب عينيها ولم توحّد اهتماماتها، باستثناء صيحات الفزع التي أطلقها بعض الخبراء وتداولتها وسائل الإعلام من باب الواجب والتوعية…
ومثال هذه الذهنيّة السياسيّة المتهافتة أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد استمرّ في خطابه الأخير في تكرار مفردات الطهوريّة والحشد والوعيد. ومقابل ذلك لم يتخلّ خصومه عن تهويماتهم وهروبهم إلى الأمام، ولم نر في خطابهم أدنى وعي بحجم الكارثة الوشيكة. وفي هذا الصدد مثلا راوغتنا إذاعة “موزاييك” يوم الأحد بعنوان لتصريحات أدلى بها أحمد نجيب الشابي، بقوله: “أدعو جميع المكوّنات السياسيّة إلى تأجيل خلافاتها.. السفينة تغرق”. ففي لحظة عابرة توهّمت أنّ الشابي حفر عميقا في “رجل الدولة” الكامن في أعماقه، غير أنّ الحقيقة كانت مغايرة تمامًا، وعبارة “السفينة تغرق” و”تأجيل الخلافات” قصد بها إطلاق ما يُسمّيه “جبهة وطنيّة للإنقاذ” وشروعه في عقد سلسلة من اللقاءات مع الأحزاب المقاومة لـ”الانقلاب” ودعوة الاتّحاد العام التونسي للشغل إلى إطلاق حوار وطني “لا يتوقّف على رئيس الدولة” من أجل “العودة إلى الديمقراطيّة”. إنّها مجدّدا خيبة المسعى في هذه النخبة التي ما فتئت تُثبت عبقريتها في اللعب على التماس وخارج الميدان تماما!. فقد كان يُفترض أن تكون مثل هذه الكارثة الوشيكة هي التي توحّد التونسيّين ونخلهم.
والغريب أنّ بعض الجهات الأجنبيّة بدت أكثر وعيا بحكم الكارثة المحتملة من هذه النخبة المتمارضة بحساباتها السياسيّة. وعلى سبيل الذكر، نبّهت منظمة “غرينبيس” الدوليّة في بيان فوري وجود “خطر كبير لوقوع كارثة إنسانية وبيئية في أي لحظة إذا لم يتم نقل حمولة السفينة بأسرع وقت ممكن”. واعتبرت أنّ “تسرّب هذه المادة السامة، في البحر قد يشكل خطرا على التنوع البيولوجي التي تنفرد به المنطقة، إذ تعتبر بيئة قابس بشكل عام مهمّة لمشاتل الأسماك وإنْ تضررت فسوف تمسّ بشكل مباشر مورد رزق أهالي المنطقة التي تعتمد على الصيد البحري”، مشدّدة على أنّه “من المحزن جداً كيف أنّه في كل حادث مماثل تكون الفئات الأكثر ضعفاً هي الأكثر تضررًا”.
والمؤسف أنّ هذا الوعي المتأرج بحجم الكارثة المحتملة ينطبق أيضا على مؤسّسات الدولة التي ما انفكّت تُردّد أنّ الوضع تحت السيطرة، باعتبار أنّ كلّ الاستنتاجات والتصريحات الرسميّة تؤكّد أنّ بقع القازوال الطافية على السطح متأتّية من زيوت محرّكات سفينة الشحن الغارقة وليس من خزّاناتها العملاقة الملأى بمئات الأطنان من المحروقات التي لحسن الحظّ لم تنثقب إلى حدّ الآن. يعني ذلك ببساطة أنّ حصول الكارثة أو تجنّبها متروك حاليّا لصناعة القدر ولمشيئة العوامل الطبيعيّة والضغط ما تحت الماء والرياح التي نخشى أن تجري بما لا نرغب ولا تشتهي السفينة الغارقة في خليج قابس المكلوم أصلا وفصلا بنصل التلوّث منذ عقود…
ليس الوضع إذن تحت السيطرة مثلما يُصرّح المسؤولون الرسميّون من باب ترديد العبارات البيروقراطيّة المستهلكة المعتادة. فجلّ ما جرى إنجازه، بعد ما يزيد عن ثلاثة أيّام من غرق السفينة، يكمن في معاينة غوّاصي جيش البرّ لهيكل السفينة “الراسية” في قاع البحر، فضلا عن تطويق المكان بحواجز عائمة لمنع انسياب بقع الزيت المنسكبة. وعلى أهميّة تلك الخطوات في ظلّ محدوديّة الإمكانيات المتوفّرة، فإنّ الكارثة الوشيكة ليست بسهولة عمليّة تسليك حبل مختبل علِق بمروحة زورق أو سفينة صيد صغيرة.
ومن دلائل هيمنة التصوّر البيروقراطي لخطورة الكارثة الوشيكة تأكيد وزيرة البيئة على أنّ عمليّة شفط مادة القازوال التي تحملها سفينة “كسيلو” XELO في جوفها كان رهينًا بتحسّن تحسن العوامل الجوية. وها هو الطقس يتحسّن ويجتهد غوّاصو الجيش الوطني في معاينة هيكل السفينة، دون أن تنطلق بعد عمليّة تفريغ شحنة المحروقات بالنظر إلى الإمكانيات المحدودة جدّا والخبرة المنقوصة في هذا المضمار.
بطء غير مبرّر
لا يخفى إذن أنّ تداعيات هذه الكارثة البحريّة المحتملة تتجاوز قدرات بلادنا، ومن الضرورة الاعتراف بمحدوديّة الإمكانيات والتجربة في هذا المضمار. ولئن كانت تونس هي البلد الأكثر تضرّرا من احتمال تسرّب كبير للقازوال، فإنّ البحر المتوسّط بأسر سيتضرّر، بل وربّما البشريّة جمعاء لأنّ هناك أنواع من الكائنات البحريّة الفريدة من نوعها في منطقة خليج قابس بشهادة المنظمات الدوليّة قد تُباد وتنقرض نهائيّا. ومن هذا المنطلق يبدو من المشروع والضروري إطلاق نداء عاجل لاستقطاب المساعدات الدوليّة، على غرار نداءات السلطات المصرية في حادثة الباخرة المعطبة في قنال السويس، ممّا أدّى إلى تدفّق المساعدات الدوليّة العينيّة والخبراتيّة…
وكانت رئاسة الجمهورية قد أعلنت عن تلقي “اتصالات من عدة دول أعربت عن استعدادها لتقديم يد المساعدة إلى تونس وتوجيه ما تحتاجه من دعم حتى تتجنب أي كارثة بيئيّة”. ورغم تأكيد وزير النقل ربيع المجيدي على أنّ “الإشكال التي تواجهه عملية التدخّل يتمثّل في تحديد مخارج الخزانات لشفط النفط نظرا لانعدام الرؤية تحت الماء”، فقد بدا الحديث الرسمي عن المساعدات الدوليّة محتشما إلى حدّ بعيد، وكأنّ الأمر يتعلّق بمنّة أو أنّه يُشكّل استصغارا لتونس وقدرتها على معالجة هذه الوضعيّة الدقيقة، مقابل إضاعة مزيد من الوقت الثمين والمُضيّ في سياسة انتظار المجهول.
وعلى الصعيد الدولي، كان “الصندوق العالمي للطبيعة” قد دعا تونس إلى تحيين المعطيات بخصوص التسربات الناجمة عن غرق سفينة الشحن التجاريّة “إكسيلو” بصفة فورية وضمان إعلام البحّارة ومستغلي المجال البحري بكلّ المستجدات ذات الصلة.
كما أعلنت إيطاليا، وفق ما ذكرته وكالة الأنباء الإيطالية “أنسا”، عن وضع بارجتين ومروحيّات و”درون” يعمل تحت الماء على ذمّة السلطات التونسية لمعاضدة جهودها بعد غرق السفينة المحمّلة بحوالي 750 طنا من النفط، لاسيما أنّ الباخرتين مجهزتين بحواجز مضادّة للتلوّث، بالإضافة إلى فريق تابع للقوات الخاصة للبحرية الإيطالية. وذكرت مصادر من ميناء قابس التجاري أنّ البارجة الإيطالية يُفترض أن تكون وصلت مساء أمس إلى ميناء قابس التجاري على أن تقوم بداية من اليوم الثلاثاء بمعاينة المكان وتعزيز الجهود المبذولة لاختيار أفضل طريقة لشفط الغازوال دون مخاطر بيئيّة.
أسرار سفينة “مشبوهة”!
كما هو معلوم، تحرّكت القوّات التونسيّة سريعا لإنقاذ طاقم السفينة وإيوائهم بأحد الفنادق في ظروف لائقة، وهو أمر منتظر وطبيعي احتراما لحقوق أفراده. ومن حسن الحظّ أنّ الدولة تحرّكت في الاتّجاه الصحيح، فلم ترتكب خطأ تركهم طلقاء في الطبيعة، وعدم السقوط إلى حدّ الآن في شراك المبرّرات أو التدخلات الداخليّة أو الأجنبيّة. فذلك إن حدث يشكل جمعا بين الغباء والتوطؤ الإجرامي في حق الدولة التونسية وشعبها وحتى في حق أجيالها القادمة. فقد تزايت المعلومات المثيرة لاستفهامات عديدة، إذ أنّ طاقم السفينة هذه التي ترفع علم دولة “غينيا الاستوائية” يضمّ 7 أفراد من بينهم قبطان جورجي وأربعة أتراك واثنين من أذربيجان.
وكانت هذه السفينة قادمة من ميناء دمياط المصري ومتوجهة إلى مالطا، وقد طلبت من السلطات التونسية، مساء الجمعة الماضي، تمكينها من دخول المياه الإقليمية للبلاد. ولم يُعلن إلى حدّ الآن سبب اتّجاهها إلى خليج قابس البعيد جدّا عن الوجهة المعلنة للسفينة. وممّا يُثير التساؤل عن الجوانب التي يُخفيها طاقم السفينة ما كشفه وكيل الجمهورية والناطق الرسمي باسم المحكمة الإبتدائية بقابس محمد الكراي حول وجود “شبهات تهريب النفط وحول إخفاء الوثيقة الخاصّة بمسار السفينة من وجهة الانطلاق إلى وجهة الوصول وكذلك المعدات الموجودة على متنها، مبيّنا أنّ أفراد طاقم السفينة ذكروا خلال سماعهم أنّ الوثيقة المذكورة ضاعت، لكنّه أشار إلى أنّ الوثائق كانت معهم عند إنقاذهم. وفي مرحلة لاحقة صرّحت وزيرة البيئة ليلى الشيخاوي بأنّ طاقم السفينة ذكر أنّ تلك الوثيقة الأساسيّة بقيت على متن السفينة.
اعترافات تبدو متضاربة طبعا، فكيف يتمّ تقديم الوثائق المطلوبة باستثناء أهمّ وثيقة منها لأنّها قد تُلقي الضوء لا فقط على مسارات السفينة بل أيضا على مصدر الكميات النفطية التي تحملها وإن كان قانونيا أو مهرّبا وكذلك الجهات التي تقف وراءها. كما أنّ لا شيء ينفي احتمال ضلوع طاقم السفينة أو الجهة المالكة لها في إغراقها بشكل متعمّد.
ونظرا لدقّة هذه القضيّة ولما يشوبها من أسرار قد تمسّ بالأمن القومي التونسي، فقد صدرت أمس الاثنين إنابة قضائية كتابية لفائدة أعوان الفرقة المركزية الثانية للحرس الوطني بالعوينة وتكليفهم بإجراء الأبحاث اللازمة. وفي كلّ الأحوال لا بدّ أن يعمل التحقيق الجاري على تقديم الأجوبة الواضحة لكل ما من شأنه أن يردّ حقوق الدولة التونسيّة.
ولا يخفى أنّ عددا من الخبراء في الشأن الليبي قد رجّحوا وجود عمليّة إجراميّة وراء غرق هذه السفينة بخليج قابس، فضلا عن تزوير وثائقها لأسباب قد تتعلّق بضلوع أصحابها في العمليات الرائجة المتّصلة بتهريب النفط الليبي في المثلث الرابط بين مالطا وإيطاليا وتركيا. ولا غرابة أيضا أن تدفع هذه الدول في اتّجاه التعتيم على الحقيقة على حساب مصالح تونس العليا. فلا يخفى أنّ لا تترك شاردة أو واردة في ملاحقة قوارب الهجرة السريّة، فما بالك بالأمر حين يتعلّق برصد بواخر وناقلات نفط عملاقة تمرّ من ليبيا نحو موانيها التجاريّة؟!. ومن هنا تتضح دقّة مشاركة الجانب الإيطالي في عمليّة شفط السفينة التي ينبغي أن تكون تحت إشراف الجيش التونسي وفريق التحقيق التابع للحرس الوطني لحظة بلحظة.
ومن هنا تزداد مسؤوليّة السلطات التونسيّة في كشف ملابسات القضيّة وتبديد ألغازها. وبالتوازي مع ذلك يكمن الأهم الآن في ضرورة النجاح في شفط الكميّات الهائلة من القازوال المحمّل في خزانات السفينة المستراب في أمرها من أجل حفظ حقوق الدولة التونسية والدفاع عن مصالح شعبها وأجيالها المقبلة وبيئتها البحريّة المهدّدة.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 19 أفريل 2022