الشارع المغاربي – الحبيب القيزاني : وسط المنعرج الدامي الذي انزلقت اليه الاوضاع بليبيا اثر اعلان قائد الجيش الليبي الحرب على حكومة الوفاق الوطني وهجوم قواته على العاصمة طرابلس اكتفت الديبلوماسية التونسية بموقف لم يزد عن دعوة محتشمة لضبط النفس والالتزام بالشرعية الدولية. موقف ضبابي زاده خبر نزول طائرة عسكرية اماراتية بمطار جربة قيل إنها تحمل شحنة أسلحة موجهة لقوات فايز السراج وكذبته السلطات التونسية غموضا لا يقل عن غموض مواقف عواصم الدول الكبرى المعنية بالصراع الليبي-الليبي بفعل التناقض بين تصريحات قادتها وتصرفاتها على ميدان المعركة الدائرة من اجل السيطرة على طرابلس. فماذا وراء تذبذب الموقف التونسي؟ وأين تقف الديبلوماسية التونسية في خضمّ التطورات بالجارة الجنوبية؟
في أكتوبر 1985 واثر الغارة الاسرائيلية على مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بحمام الشط استدعى الزعيم الحبيب بورقيبة سفير الولايات المتحدة آنذاك بتونس وأفهمه بلغة حازمة أنه اذا رفعت بلاده الفيتو في وجه قرار أممي بادانة اسرائيل فإن تونس ستقطع علاقاتها الديبلوماسية معها ملوّحا بالانضمام الى المعسكر السوفياتي ان لزم الأمر.
أيامها كانت الديبلوماسية التونسية بفضل حكمة بورقيبة وصرامته محل احترام وتقدير.
بعد بورقيبة لم تخرج الديبلوماسية التونسية عن طاحونة الشيء المعتاد : مواقف “بايخة” بل وأحيانا مائعة لا تزيد عن الخضوع لقرارات عواصم الدول الكبرى تحت لافتة ما يسمى “الشرعية الدولية” حتى لو تعلق الأمر بقضية فلسطين!
الإطار الجغراسياسي
اليوم ورغم قرارات الشرعية الدولية التي تعترف بحكومة الوفاق الوطني في ليبيا انطلق قائد الجيش الليبي خليفة حفتر في مغامرة عسكرية جديدة لمحاولة لاستكمال بسط نفوذه على بقية التراب الليبي عنوانها السيطرة على العاصمة طرابلس مع ما يعني ذلك من انقلاب على الشرعية الدولية.
ولا يخفى أن حفتر وقد قرر الاحتكام الى السلاح لم يكن ليقدم على ذلك لو لم يحصل على ضوء أخضر من قوى دولية وعربية تتنازع الهيمنة على “الكعكة” الليبية وربّما التمهيد لترتيبات تسمح لها بتنفيذ أجندات خفية في اطار رسم خريطة جديدة للتحالفات في المنطقة مع ما تحمل هذه التحالفات من مصالح اقتصادية واستراتيجية بدرجة أولى.
يخوض حفتر مغامرته بدعم من جوقة عربية تضم كلا من السعودية والامارات ومصر وقوى غربية لم يمنعها نفاقها الديبلوماسي من مساندته عسكريا مباشرة او بالوكالة. ويضم هذا الطابور اساسا فرنسا والولايات المتحدة.
أما الحلف العربي فيدعم حفتر لاسباب عديدة: يرى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن حفتر أقرب الحلفاء السياسيين له في ليبيا. وقد اتضح ذلك من خلال بلاغ الرئاسة المصرية اثر استقبال السيسي حفتر مؤخرا في القاهرة والتأكيد على «دعم مصر جهود مكافحة الارهاب والميليشيات المتطرفة لتحقيق الأمن والاستقرار في ليبيا… بما يسمح بارساء قواعد الدولة المدنية المستقرة ذات السيادة والبدء في اعمار ليبيا والنهوض بها في مختلف المجالات تلبية لطموحات الشعب الليبي». وقد سبق للسيسي أن دعم عام 2014 قوات حفتر في “معركة الكرامة” ضدّ بنغازي.
أضف الى ذلك ترى القاهرة في ليبيا التي تجمعها بها حدود يفوق طولها الألف كلم عمقا للأمن القومي المصري ويدفعها هاجس تحول ليبيا الى معسكر للتنظيمات الارهابية والجهادية الاسلامية الى التحالف مع حفتر لقطع دابرها ومنع اية عدوى مع التنظيمات الارهابية والاسلامية المتواجدة بمصر والتي أعلن عليها السيسي منذ سنة 2013 حربا لا هوادة فيها. أما على الصعيد الاقتصادي فيرى النظام المصري ان ليبيا يمكن ان تمثل حلاّ لمشكلة تزوّدها بالنفط والغاز وفتح ابواب تشغيل الملايين من اليد العاملة المصرية فضلا عن اقامة شراكة استثمارية وتصدير الادمغة المصرية لاعادة اعمار ليبيا.
من جانبها تدعم الامارات حفتر بالمال والسلاح منذ ماي 2014. ولم تكتف بصرف الاموال الليبية المجمدة في بنوكها لمساندة “المشير” وانما خرقت القرار الاممي بتجميد الاموال الليبية في دول العالم، وقرار الامم المتحدة بحظر ارسال الاسلحة الى ليبيا وكشفت لجنة محققين تابعة للامم المتحدة ان الامارات زودت قوات حفتر بالسلاح وانها باتت تملك قاعدتين عسكريتين بليبيا احداهما في منطقة “الخادم” والأخرى في منطقة “الخروبة”.
أما السعودية فقد شكل استقبال الملك سلمان حفتر قبل القمة العربية الاخيرة الملتئمة بتونس دليلا كافيا على دعمها اياه. وحسب صحيفة “وول ستريت” الامريكية فقد “وعد المسؤولون في المملكة بتقديم عشرات المليارات من الدولارات لتمويل حملة حفتر العسكرية على العاصمة الليبية على أن تستعمل الاموال في شراء ولاء زعماء القبائل في ليبيا وتجنيد المقاتلين ودفع اجورهم وغيرها من النفقات العسكرية”. كذلك تضيف الصحيفة “حصل حفتر خلال الزيارة على مباركة سعودية لقراره بالتحرك العسكري نحو طرابلس… كما حصل حفتر على أن تستخدم الرياض نفوذها لإلزام بعض الدول العربية بالصمت وتهدئة مخاوفها من تداعيات تحرك حفتر العسكري”. وعن سبب دعم الرياض حفتر تقول صحيفة “ساسة بوست” من جهتها أن ذلك “ناجم عن حرص السعودية على استعادة قيادة العالم العربي عبر بسط النفوذ في ليبيا أسوة بما حدث في مصر”.
أما فرنسا فتكشف الأزمة الديبلوماسية القائمة بينها وبين ايطاليا انها تريد افتكاك مكانة هذه الاخيرة في ليبيا أو على الاقل ضمان حصة لها من النفط الليبي تؤمن دورة اقتصادها لسنوات اضافة الى ان باريس منزعجة من التنسيق القائم بين الميليشيات الاسلامية في ليبيا ونظيراتها في منطقة الساحل والتي تهدد مصالحها ونفوذها في دول افريقية تدور في فلكها وخاصة مالي والنيجر والتشاد اين تهاجم قوات التدخل السريع الفرنسية مواقع هذه التنظيمات ردا على عمليات عسكرية تقوم بها هذه الاخيرة ضد الوجود والمصالح الفرنسية بالمنطقة.
وفيما تدعم روسيا حفتر وفاء لسياسة التصدّي والقضاء على التنظيمات الارهابية أينما وجدت كشف موقف الرئيس الامريكي دونالد ترامب عن تذبذب وتناقض سياسة بلاده من الوضع بليبيا اذ أكد في محادثة هاتفية مع حفتر “دعمه لمحاربة الارهاب” وهو موقف مناقض لالتزام الخارجية ووزارة الدفاع الامريكيتين بالشرعية الدولية التي تعترف بحكومة فؤاد السراج وربما جاء بتأثير وايعاز من صهره جاريد كوشنير الذي تصنّفه صحف أمريكية بأنه “وزير الخارجية الحقيقي في البيت الابيض” والذي يعمل على بناء تحالفات خفية كانت أو مكشوفة بين العديد من الانظمة العربية واسرائيل تمهيدا لـ “صفقة القرن”.
أي دور لتونس؟
وسط هذا المدّ والجزر من المواقف الاقليمية والدولية أين تتموقع تونس والحال أن ما يجري بليبيا يعنيها مباشرة ولا يمكن الاّ أن تكون له تداعيات على أمنها القومي واقتصادها؟
ليس من باب التجنّي اذا قلنا إن الديبلوماسية التونسية اكتفت بدور المتفرج والناصح لا غير اذ انه بعد بيان الخارجية التونسية المتمسك بالشرعية الدولية والداعي الى ضبط النفس وضرورة حل الخلافات بالحوار اكد وزير الشؤون الخارجية خميس الجهيناوي في بلاغ اعلامي انه يجري العمل حاليا على عقد اجتماع لوزراء خارجية تونس والجزائر ومصر “لتنسيق جهود الدول الثلاث بهدف انهاء حالة التوتر في ليبيا واستئناف المباحثات السياسية”. موقف تجاوزته الاحداث الدائرة بليبيا تماما مثلما يوحي بذلك تصريحه يوم امس عقب لقاء المبعوث الأممي الى ليبيا غسان سلامة بأنه لا وزن للديبلوماسية التونسية وأنها لا تملك وسائل اسماع صوتها وسط تجاذبات اقليمية ودولية تتجاوز طاقاتها.
في الاثناء تسرّب خبر هبوط طائرة عسكرية قطرية بجربة قيل إنها محملة بعتاد عسكري موجه الى قوات فايز السراج قبل أن تكذبه وزارتا الدفاع والداخلية لتؤكد بعدهما الديوانة أن الطائرة حطت بجربة نتيجة خلل فني وانها توجهت بعد ذلك الى نيجيريا،. لكن موقع “العين الاخباري” اشار الى “وجود ضغوطات تمارسها تركيا وقطر على تونس للسماح لهما بتمرير السلاح عبر مجاليها الجوي والبرّي الى الحدود الليبية ومنها الى القوات المساندة لحكومة الوفاق الوطني بطرابلس”. وأضاف الموقع أن تونس ترفض القبول بهذه الضغوطات التزاما منها بمخرجات القمة العربية الاخيرة حول ضرورة البحث عن حل سلمي بعيدا عن منطق الاصطفاف وراء طرف ضد آخر”.
وبقطع النظر عن صحة ما أورد الموقع المذكور من عدمها تفرض ملاحظتان نفسيهما: الاولى أن المتابع لصفحات مواقع السلطات الليبية من الجانبين يكتشف غيابا تاما للديبلوماسية التونسية بما يعني أنهما لا يعيرانها أي اهتمام. والثانية أن الديبلوماسية التونسية وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه مع ما تمثل التطورات في ليبيا من احراج لها : فهي والتزاما منها بالشرعية الدولية مجبرة على مساندة حكومة الوفاق الوطني مسايرة لارادة المجتمع الدولي ولكنها من جهة اخرى وامام انقلاب حفتر وداعميه على الشرعية الدولية قد تجد نفسها خاصة مع وجود النهضة في السلطة مجبرة بطريقة أو بأخرى ولسبب أو لآخر على التغاضي عن مرور السلاح سرّا الى أعداء حفتر بصفته منقلبا على الشرعية الدولية خاصة انه ليس لكلا الطرفين المتنازعين في ليبيا موقف ايجابي من تونس اذ ان لكل منها لوما على عدم مساندته 100 ٪.
وقد يكون حرج الديبلوماسية التونسية مفهوما ايضا بالنظر الى انعكاسات التطورات في ليبيا على الجزائر التي تتفق مع تونس على ان امنها من امن بلادنا.
صدر باسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الأخير