الشارع المغاربي: الجميع يبكي عما آلت اليه الثورة وعلى اتخاذها سبلا زاغت بها عن تحقيق أهدافها، والكل يساهم من موقعه وبكل طاقاته التي كانت مكبوتة قبل الثورة، وتحررت من كل القيود التي تمنعها من أن تفعل بالآخر المختلف ما كان يفعل به المستبد بالسلطة الذي احتكر لعقود، بل لقرون، الركح والمنبر وكل وسائل التعبير. على أنقاض الحزب الواحد الذي بدأ التحول الديمقراطي بمنعه قضائيّا، دون المساس بمقوماته، قامت عشرات الأحزاب وكلها يتصرف وكأنه حزب واحد أحد، وتكالب على عرش المستبد المئات، بل الآلاف، ممن يعتبرون أنفسهم الأحق بالاستبداد بالسلطة، فتحقق ما كان يخشى غسان سلامة :”ديمقراطية بلا ديمقراطيين” (عنوان كتاب صدر له بالفرنسية عن دار فايار بباريس سنة 1994). فما أن تم اقتلاع الصنم الجاثم على الجميع حتى هبت عشرات “الصوينمات” المتدافعة للفوز بسلطة الصنم الأكبر، الآمر لبقية الصوينمات لسوق الجميع “إلى قفص المخافة كالدجاج”، كما يقول مريد البرغوثي في قصائده الرائعة حول “الصنم” (مريد البرغوثي، “قصائد الصنم” الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1997).الجميع يريد أن يغني ولا يغني إلا “أغلظ ركبة”، المستبد بالركح والمصدح . وهكذا تدمقرطت ثقافة الاستبداد وإرادة منع الرأي المخالف و احتكار الحق في استعمال العنف الذي كان الجميع ضحية له، فأصبح حقا لكل من يستطيع ممارسته على غيره ممن يخالفونه الرأي والتوجه والمشروع … ويقاسمونه ثقافة الاستبداد الموروث عن جلادهم المشترك الذي ثاروا عليه وتأثروا به إلى حد التماهي معه في كل شيء: يتكلمون لغته الخشبية، ويبيحون لأنفسهم كل الوسائل التي يحرمونها على غيرهم لفرض رأيهم، ويتصرفون مثله بعقلية الحزب الواحد والزعيم الأوحد، ويعتبرون مخالفيهم أعداء لا حق لهم سوى الخضوع لمشيئتهم. فعلى غرار كل الثورات التي تؤول لمن يرى في السلطة غنيمة يستأثر بها، لم تكن الثورة على المستبد ثورة على الاستبداد وعلى ثقافته القائمة على مفاهيم”الشوكة” و”الغلبة” و”العصبية” الضرورية لفرض “الولاء” لمن “اشتدت وطأته” و”وجبت طاعته”، “والتبرؤ” من دعاة “الفتنة”، سواء عن اقتناع وإيمان بعقيدته (“الناس على دين ملوكهم”) واستجابة “لدعوته” باعتباره “ظل الله في الأرض”، “يزرع بسلطانه ما لا يزرع بقرآنه”، أو خوفا من بطشه، وتقية حتى تزول الغمة و”يدول الأمر إلى غيره” ، إلى غير ذلك مما تطفح به كتب “الآداب السلطانية” (الماوردي) و”السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية” (ابن تيمية) و”التبر المسبوك في نصيحة الملوك” (أبو حامد الغزالي) و”غياث الأمم في التياث الظلم” (إمام الحرمين أبو المعالي الجويني)، و”معالم الإنافة في مآثر الخلافة” (القلقشندي)، وغيرها من المصنفات التي تروج لثقافة الاستبداد والمغالبة والتدافع، أو، في أحسن الأحوال، لتصورات تقوم على مفهوم للعدل يعتبره منة من السلطان لا علاقة له بمبادئ المساواة والحرية وعلى حق الجميع في مخالفة السلطة والاختلاف عن الجماعة.وعوض الانطلاق من مطالب الثورة والعمل على تحقيقها، عمد المتدافعون من أجل الفوز بخلافة المستبد المخلوع إلى نفض الغبار عن هذه المفاهيم والتصورات، سواء بمسميات جديدة تخاتل بادّعاء الديمقراطية والحرية والثورة، أو بنفس المسميات المستمدة من تراث الاستبداد ومن معاجم التيارات السلفية التي جرّت الجميع إلى مربع المزايدات باسم الأصالة والهوية الإسلامية المتربص بها من طرف الامبريالية والصهيونية والماسونية وأتباع الإيديولوجيات المعادية للإسلام. وظل الجميع يتهم خصومه بالركوب على الثورة أو بمناهضتها، أو يحملها مسؤولية ما آلت اليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، للانتقاص منها وللانقضاض عليها.
لا شك أن استمرار هذه الثقافة ليس غريبا عن تجاهل أهداف الثورة المتعلقة بالحرية والشغل والكرامة وعن تناسي تطلعاتها الديمقراطية والاجتماعيّة، فلم يتحقق منها سوى ما أمكن افتكاكه من حريات قبل أن يستولي على مقاليد السلطة من ليست لهم مصلحة ولا رغبة في تغيير البنى الأساسية للاستبداد، ولا في تقويض البنى الثقافية التي تساهم في استمراره. وقد ساعدت الحريات التي تم افتكاكها في بداية الثورة على تحقيق ما يمكن أن يكون منطلقا لثورة ثقافية تقطع مع الإرث الثقافي لمنظومة الاستبداد. ومن المكتسبات التي يجب البناء عليها وتطويرها في هذا الاتجاه، قبل أن يتم الالتفاف عليها وتطويقها أو التراجع عنها،ما عرفته البلاد خلال هذه الفترة من تنوع في وسائل الإعلام ودور النشر والتوزيع المنفتحة على مختلف ميادين الإبداع الحر في مجالات الفنون والأدب والفكر والعلوم بكل أنواعها، وهو ما ساهم في نشر ثقافة تغذي صمود المجتمع المدني ومقاومته أشكال الاستبداد القديمة والجديدة. ويكفي إلقاء نظرة على ما نشر وينشر وما تم إنتاجه في العشرية الأخيرة في مختلف المجالات الثقافية، ومقارنة ذلك بما أنجز من قبل، لإدراك أهمية ما تم تحقيقه بفضل الثورة، رغم ما سبقت الإشارة إليه من علامات استمرار ثقافة الاستبداد وتناميها في بعض القطاعات بسبب تراجع التعليم العمومي وما عرف من تدهور استغلته مدارس وجامعات القطاع الخاص، فضلا عن الجوامع والجمعيات والمدارس القرآنيّة الواقعة تحت سيطرة الجماعات الظلامية. ولا سبيل إلى القطع مع ثقافة الاستبداد، والتصدي لمحاولات استغلال تراجع مؤسسات الدولة لفرض عودتها، إلا بإنجاز ثورة ثقافية تساعد على تحقيق أهداف الثورة التي تم تجاهلها إلى حد الآن. وليس بالإمكان هنا تقديم تصور متكامل لما يجب أن تكون عليه هذه الثورة، وأقصى ما يمكن التذكير به هو بعض الأهداف الأساسية التي يمكن إجمالها في بعض النقاط.
إن الهدف الأساسي الأول لمثل هذه الثورة هو العمل على تطوير ثقافة ترسّخ قيم ومفاهيم الحرية والمساواة والتعدد وحق الفرد في الاختلاف في آرائه وتوجهاته وسلوكه عما تريد فرضه السلطة وجماعات الانتماء العائلية والاجتماعية والدينية، على أساس تصورات جامدة ومنغلقة للهوية ليس على الفرد إلا الانصهار فيها والخضوع لها.وهذه القيم والمفاهيم التي يجب العمل على ترسيخها هي ما يحتاجه المجتمع، كل مجتمع، للقطع مع ثقافة الاستبداد ونشر ثقافة المواطنة والديمقراطية.
إلى جانب هذا الهدف، وفي ارتباط به،لا بد من تسخير كل الوسائل والقنوات لنشر الثقافة العلمية الضرورية لتحرير العقول من الفكر الخرافي ولتنمية الفكر العلمي النقدي كأساس للعلاقات بين الأفراد، في الأسرة وفي الشارع وفي مؤسسات التربية والعمل، وفي كل الفضاءات العامة والخاصة، حتى تقوم هذه العلاقات على ما يسميه هابرماس “العقل التحاوري” بين ذوات حرة ومواطنين/ات أحرار ومتساوين دون أي نوع من أنواع التمييز.
ولبلوغ هذه الأهداف لابد من برامج تعليمية وتثقيفية في المؤسسات التربوية، من رياض الأطفال إلى الجامعات، وفي كل فضاءات التواصل العمومية والخاصة، كما في الجمعيات وفي منظمات المجتمع المدني،بهدف ترسيخ هذه المفاهيم والقيم حتى تصبح من مرتكزات التعامل اليومي. ولتوفير المواد الضرورية لمثل هذه البرامج لا بد من تشجيع البحث العلمي والإبداع الحر في كل مجالات الفكر والفنون، مع ضمان الحريات الضرورية للبحث والإبداع، ومع توفير كل إمكانات النشر والتوزيع حتى تصل إلى كل الفئات الاجتماعية وإلى كل الأحياء والجهات. ولا غنى في كل ذلك عما تتيح الرقمنة ووسائل التواصل الاجتماعي التي يجب العمل على جعلها في متناول أوسع الفئات في كل الأحياء والمناطق، بتوفير الخدمات والتجهيزات الضرورية لذلك بصورة تمكن من تحقيق المساواة في هذا المجال، حتى لا يُضاف التفاوت في مجال الرقمنة والتواصل الاجتماعي إلى بقية أنواع التفاوت بين الجهات والطبقات.
ولعلّ في عودة الاحتجاجات عشر سنوات بعد ثورة الحرية والكرامة، بنفس الشعارات والمطالب التي ترفعها نفس الفئات الاجتماعية، وفي نفس المناطق والأحياء، ما يؤكد ضرورة التعجيل بالاستجابة للتطلعات الاجتماعية والديمقراطية التي وقع تجاهلها من طرف الحكومات المتعاقبة منذ سقوط نظام بن علي لأنها ما انفكت تتعامل مع المجتمع بمفاهيم وتصورات منظومة الاستبداد وثقافتها التي لا يمكن القبول بتواصلها دون الدفع بضحاياها إلى حلول اليأس التي لا مفر منها في غياب كل أمل بغد أفضل.