الشارع المغاربي – إصلاح المنظومة التعليميّة في تونس: متى ومن وكيف؟ /بقلم: صلاح الدّين العامري-أستاذ جامعي

إصلاح المنظومة التعليميّة في تونس: متى ومن وكيف؟ /بقلم: صلاح الدّين العامري-أستاذ جامعي

قسم الأخبار

9 سبتمبر، 2023

الشارع المغاربي: لم نطرح السؤال لماذا نحتاج إلى إصلاح المنظومة التعليميّة؟ في العنوان لأنّ التونسيين جميعا على وعي بأنّ وضع المنظومة التعليمية يترنّح ولم يعد يستجيب لطموحات التلميذ والأسرة، ولا يحقق الأهداف المرجوّة للمجتمع، وأنّ آليات المنظومة الحاليّة صارت تشتغل عكسيّا بعد أن اعتلاها الوهن وفقدت صلوحيتها بسبب المتغيّرات السريعة في العالم وركودها في زمن التجدّد المستمرّ، فبدل البحث عن تنوير العقول والارتقاء بالسلوك والمعارف وإنتاج الكفاءات والنهوض بمجالات الحياة، صرنا نتحدّث – في علاقة بمدارسنا- عن الجريمة والانتحار والمخدرات وسوء السلوك والعنف والانقطاع المبكّر عن التعليم والرغبة الجماعيّة في الهجرة والاعتداء على المؤسسات التعليميّة وترذيل صورة المدرس وتجريمه وجرّه إلى الأخطاء بعد أن كان مثالا ونموذجا.

ويمكن أن نرصد ملامح هذه الأزمة في تقارير بعض المؤسسات الدوليّة المختصّة مثل تقرير “مُنظمّة التّعاون والنموّ الاقتصادي OCDE ” لسنة 2012. واحتلّت فيه المنظومة التربوية التونسية المرتبة الـ60 من مجموع 65 منظومة تعليميّة شملتها الدّراسة المتعلقة بـ”البرنامج الدّولي لمتابعة الإضافة المعرفية عند التلاميذ”. وتقرير منظمة PISA  الهادف إلى تحديد كفاءة التّلميذ في عرض المعلومات والمعارف التي تلقاها في موادّ محدّدة مثل الرياضيات والعلوم والتعبير الكتابي، والوقوف عند قدرته على توظيف ما استوعبه من معارف في إيجاد حلول لوضعيات وإشكاليات غير معهودة لديه، ولها علاقة بمحيط المؤسسة التّعليمية. ويعادل المستوى العام للتلميذ التونسي في سنّ 15 مستوى تلاميذ في سنّ 13 ببلدان “منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية”، أي بتأخر سنتين اثنتين، ومعادلة المستوى العامّ لتلاميذ في سنّ 9 من تلاميذة منظومة “شنغاي” وهي أكثر منظومات التّعليم تميزا في العالم، أي بتأخّر مريب وصل إلى 6 سنوات. وجاء في تقرير البنك الدولي لسنة 2020 أنّ الطفل التونسي يفقد حوالي 48 بالمائة من قدرته على الإنتاج في نهاية مساره الدّراسي مقارنة بما هو قادر عليه لو تلقى تعليما جيدا والرّعاية الصحيّة الضروريّة.

بدأت المدرسة العموميّة تتأخّر وتتقهقر لصالح المؤسسات التعليميّة الخاصّة أمام الجميع وبمساهمة المتداخلين في الشأن التعليمي، والغريب أن الدولة لا تبدي اهتماما حقيقيّا وعمليّا للتعامل مع الوضع المأزوم، بل تتهمها الأطراف المهتمّة بالشأن التعليمي بأنّها تدفع إليه بشكل ما، من أجل إنهاء المنظومة العمومية المكلفة ماديّا والمعرقلة والمهددة لسلطتها (نقابات التعليم) سياسيّا، وبأنّ السياسيين المتعاقبين صاروا مقتنعين بضرورة إنهاء هذه العقبة بقطع النظر عن الكلفة والنتيجة، وقد يكون الأمر استجابة لضغوطات خارجيّة تمليها الصناديق المالية المتحكمة في في سياسة الدّول المُقترضة، وهي فرضيات تحتاج إلى الإثبات في ظل غياب الحجة الماديّة. وهذا ما يجعلنا نتعامل مع إعلانات النّوايا لإنجاز إصلاح تربوي في تونس باعتبارها مجرّد جمل إنشائيّة موجهة للاستهلاك الدّاخلي وتسكين لحالة القلق التي كنّا بصدد عرضها.

رغم تلكّؤ الدولة وهروبها إلى الإمام في مواجهة سؤال إصلاح المنظومة التعليميّة بتتالي تغيير وزراء التربية وإعلانات النوايا المتضاربة والناسخة لبعضها بالمعنى الفقهي، فإنّنا سنظل نطرح السؤال متى يتم الشروع في إصلاح المنظومة التعليميّة؟ وسنستمرّ في طرح هذا السؤال والمطالبة بتنفيذه باعتبارنا أبناء هذا القطاع الواعين بدوره وخطورته بالمعنيين السلبي والإيجابي، وإيمانا منّا بأنّ تجاوز عمليات الجَلْد المرَضِيّة الواسعة التي نمارسها ضدّ الدولة ومؤسساتها وضدّ بعضنا وضدّ أنفسنا، بسبب ما نعتبره فسادا وعنفا وانحطاطا سلوكيا وبيروقراطيّة إداريّة وتأخّرا حضاريا عن شعوب كانت تعتبرنا نماذج. لا يمكن أن نعالج هذه المطبّات والنكسات والانكسارات إلاّ بصناعة منظومة تعليميّة جديدة تبني عقولا متصالحة مع ذاتها ومنفتحة على الواقع وتغييراته المتسارعة. ونتوجه بسؤال متى؟  ليس إلى الدولة فحسب، باعتبارها مالكة زمام المبادرة وضامنة تنفيذها بالإشراف المباشر عليها تقنيّا وماديّا، بل لأهل القطاع أيضا، ونخص هنا نقابات التعليم الثلاث التي تخوض صراعات مستمرّة مع وزارات الإشراف خاصّة بعد 2011، من أجل تحسين وضع المربّي ماديّا وهو أمر مشروع ومطلبّ ملحّ في ظل الوضع الاقتصادي الصعب، وفي المقابل لم تبدِ هذه الهياكل جديّة في المطالبة بإصلاح المنظومة التعليميّة، ولم تجعلها هدفا نضاليّا، بل تقع في أخطاء تواصليّة منها الربط بين تحسين الوضع المادي للمدرّس وضمان تحسين مردودية المنظومة التعليميّة. بل نجد بعض قادتها ينسجمون مع توجهات الدولة السياسية المتلكئة والمتملّصة والمناورة والمتجاهلة لمسألة الإصلاح، ويتقاطعون (بقصد أو بغير قصد) مع أباطرة التعليم الخاص وأثرياء الحرب على المدرسة العموميّة. وإن كان اللوم كبيرا على تهاون نقابات التعليم وتقصيرها وتواطئها بشكل ما، فإنّنا نجعله أشدّ على المدرّسين الذين ينصاعون للقرارات النضاليّة للنقابات، ولا يناقشون المسقط عليهم من أهداف وتحرّكات، واكتفائهم بالوشوشات هنا وهناك بشكل محدود ومعزول، وهم أكثر الفاعلين في القطاع وعيا ودراية وإحاطة بدرجة وهن المنظومة التعليميّة وعيوبها ووجوه الخلل فيها والحاجة الاستعجاليّة إلى علاجها.      

تنقلنا هذه المعطيات إلى السؤال الثاني: من يقوم بعمليّة إصلاح المنظومة التعليميّة اليوم؟. إذا فهمنا سياسة الدولة نفهم ببساطة ويُسر أنّ السلطة السياسيّة هي من تحتكر عمليّة الإصلاح ضمن رؤية غير واقعيّة بالمرّة. وهذا خطأ فادح ومُكلف في الآن ذاته، لأنّ أصحاب المكاتب والفخامة المديريّة لا يمكن أن يفيدوا إلا من زاوية واحدة ضمن الأطراف الأربعة التي سنحدّدها، وستكون مقاربتهم محدودة إن حصروا عملية الإصلاح في مكاتبهم وحواسيبهم واجتهاداتهم وانطباعاتهم واعتمادهم على ما تناهى إلى مسامعهم من ثقاة أو مؤسسة أو جهة. وبسبب هذه السياسة فشلت عمليات الإصلاح السّابقة. نعتقد أنّ لكلّ مرض مختص يعالجه، ونقدّر أن المختصّين المؤهّلين لتشخيص مرض المنظومة التعليميّة أربعة أطراف دون غيرهم، وهم المدرّسون والتلاميذ والإطار الإداري والأولياء. قصرنا التشخيص على هذه الأطراف الأربعة لمواكبتها تفاصيل العمليّة التعليميّة منذ مرحلة التحضيري إلى زمن التخرج، وكل يعلم من موقعه ويتكامل مع الطرف الأخر في تقديم صورة دقيقة وشاملة لحال التعليم في تونس، بل إن البعض يتقلبّ بين هذه المواقع تزامنا أو تتاليا. فالمدرّس يمكن أن يكون وليّا، والتلميذ يمكن أن يكون الثلاثة الآخرين، فينطلق تلميذا ثم يصير مدرّسا ثم وليّا. وإذا تفكرنا في توسيع دائرة المشخّصين لمرض المنظومة التعليميّة لتشمل تخصّصات أخرى وهو أمر مقبول، نستحضر أنّ الوليّ يمكن أن يكون فلاّحا وعاملا وطبيبا ورجل قانون وعالم نفس وعالم اجتماع وخبير تربوي وغيرها من التخصصات المجاورة والمتداخلة في العملية التعليمية، والعالمة بتفاصيل سلبياتها وإيجابياتها، والقادرة على التشخيص من موقعها وثقافتها وتجربتها، وهذا رصيد يمكن البناء عليه في محاول فهم واقع المنظومة التعليميّة وتشخيص مواطن الضعف والخلل فيها بموضوعيّة ودقّة وشموليّة.

يجرّنا تدقيق قائمة المؤهلين لتشخيص وضعية المنظومة التعليميّة الحاليّة إلى السؤال الثالث كيف نقوم بعمليّة الإصلاح؟ نحتاج إلى ثلاثة مراحل من أجل أن تكون العمليّة ناجحة وناجعة وناجزة. وتكون المرحلة الأولى مرحلة التشخيص، وذلك بتحديد مجموعة من الأسئلة الدقيقة والموجهة للأطراف الأربعة التي حدّدناها في السؤال السابق، وهم المدرّسون والتلاميذ والإداريون والأولياء. ولا نرى موجبا لاعتراض النقابات في المستويين الأساسي والثانوي على حضور الأولياء في أي موقع عند معالجة الوضع التعليمي. فالولي شريك أساسي في العمليّة التعليميّة ماديّا ووجدانيّا، وكيف يسمح المدرّس/الولي لنفسه بالمشاركة بصفتين في تقرير مصير الرأسمال البشري ومحور العمليّة التربويّة، بصفة المدرّس وصفة الولي، ويستكثر ذلك على غيره وينكره بحجج غير منطقيّة، في وقت يمكن أن تكون صفة هذا الولي أو ذاك مفيدة للتشخيص والتدقيق والإفادة والإنجاز في إطار إعادة تحيين دور الأسرة في تربية النشء. وتمكن معالجة هذه المخاوف من خلال تنظيم المواقع والأدوار وتحديدها بما يدعم ولا يعرقل.

ونقترح في هذا الإطار التخلّي عن فكرة الاستفتاء الالكتروني غير واضح المعالم والأهداف، والتوجه مباشرة بالأسئلة إلى الأطراف المؤهلة لتشخيص الوضعية التعليمية في المدرسة التونسيّة وهي أسئلة قابلة للإضافة والتعديل وحتى الإلغاء إن لزم الأمر. ويمكن أن نوجّه للمدرّس عن الصعوبات التي تواجهها في إنجاز دروسه، وعن العوامل التي تصنع الفارق بين تلميذ ناجح وتلميذ فاشل. ويمكن أن نسأل التلميذ عن الأسباب التي تنفّره من المدرسة، وعن ميله لموادّ ونفوره من أخرى، وما الذي يجعله يحب المدرسة والمدرّس؟ ويمكن أن نسأل الإداري عن أسباب العنف المدرسي والتسيّب والانقطاع، ويمكن أن نسأل الأولياء عن أسباب نجاح أبنائهم أو فشلهم وعن الصعوبات التي يواجهونها معهم وعن تجاربهم في تجاوز بعض الصعوبات وتحسين النتائج، وغير ذلك من الأسئلة التي يمكن أن يعدّها مختصون. وتنقلنا نتائج هذه الاستشارة إلى المرحلة الثانية من كيفيّة الإصلاح، وفي هذه المرحلة تمكن توسعة قاعدة المتداخلين في المشروع الإصلاحي وهم الخبراء أساسا من مجالات عدّة، ويمكن تحيين قائمة الخبراء كلّما دعت الحاجة إلى ذلك، وومن الفاعليين الرئيسيين خبراء التربية والتعليم والمختصّون في علم النفس وعلم الاجتماع والمختصون في الأنشطة الثقافيّة والرياضيّة والتكنولوجيّة وغيرها لتحديد معالم المدرسة التونسيّة وطبيعة المتعلّم الذي نريده أن يكون مواطنا ومسؤولا من أيّ موقع في الدولة والمؤسسة والمجتمع. ويمكن أن يكون السياسي مراقبا ومساهما في صياغة هذا المشروع الإصلاحي من خلال ممثلين بمواصفات العناصر الفاعلة التي عددناها سابقا، مع الحرص على عدم التسليم للسياسي برسم السياسات التعليميّة والإيديولوجيا الثقافيّة الخاصة به أو بحزبه تحت أي ظرف، لأنّ السياسات تستمر باستمرار مرجعياتها السياسيّة أو الجهة التي تقف خلفها، وإذا أخذنا في الاعتبار العمليّة الديمقراطيّة وأحكامها ونتائجها، فمن غير المقبول أن تتغيّر السياسات التعليميّة والثقافية بمجرّد تغير الشخصيات السياسيّة أو الأحزاب والمرجعيات الفكريّة، بل يجب أن توجد ضمانات لاستمراريّة المنوال التعليمي والثقافي مهما تغير المعطى السياسي، ولن يتخقق ذلك إلاّ بوجود قانون ينظّم الحياة المدرسيّة والجامعيّة، وأن يُعامل هذا القانون مثلما تعامل الدّساتير، وحتى أكثر خصوصيّة إذا كان رجل السياسة حريصا على قيادة وطن وليس قبيلة أو حزب أو ذات متهوّرة. وعند تحديد النماذج والمقترحات ودعم النظري بالتطبيقي من خلال تحديد المسائل التدريسية ومصادرها ومراجعها الدقيقة والواضحة وتنظيم زمنها، يأتي دور الدولة في حماية المشروع والعمل على تطبيقه بكل أمانة ومسؤوليّة، وتتكثّف مسؤوليّة الدولة خاصة في ضمان الموارد الماديّة اللازمة والأساسيّة تقنيّا وبشريا، ومن واجبها دعم السياسات التعليميّة بوسائل تعليميّة أخرى منها الإعلام الذي اشتغل كثيرا منذ عقد من الزمن على محاربة المنظومة التعليميّة وهرسلتها بإنتاج برامج ومحتويات هابطة، واستهداف المؤسسة التعليمية ومكوناتها لصالح فئات معيّنة ومُمَوِّلة لأهداف لا نعلم عنها الكثير. نؤكّد دور الإعلام استنادا إلى تأثيرات الثورة التكنولوجيّة بواسائطها المختلفة، وأنه يمكن توظيف هذا التأثير بشكل إيجابي إذا جعلنا وسائط التواصل الرسميّة والمتحكّم فيها على اللأقل في صناعة محتوى يتناغم مع أهداف المدرسة التونسيّة ويعاضدها. ويكفي أن نذكّر بأنّ 70% من محتويات الوسيط التكنولوجي Tiktok في الصّين تتعلّق بالمواد التعليميّة، وهذا ما جعل الخبراء الغربيين يستندون إلى هذا المعطى للتكهّن بسيطرة الصينيين على العالم في العقود القادمة.

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 5 سبتمبر 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING