الشارع المغاربي-معزّ زيّود:نفّذ الاتحاد العام التونسي للشغل، يوم الخميس الماضي، إضرابا عامّا في القطاع العمومي، غير أنّ السلطة حكومةً ورئاسةً تعامت عنه كليّا، وكأنّه لم يكن أصلا. يُنبئ ذلك بحدّة المأزق الذي يواجهه الاتّحاد اليوم في حال لم يعمل على تطوير آليّات التحرّك النقابي حتى لا ترتدّ عليه ولا تسهم أيضا في تعميق معاناة التونسيّين!…
نشهد منذ أسابيع مواجهة معلنة وصراعا محتدما بين اتّحاد الشغل والسلطة بشقّيها الحكومي والرئاسي. نَصِفها بالمواجهة المعلنة لأنّ خلفيّات هذا الصراع لا تخفى عن أيّ متابع بصير. ولئن كانت الخلافات القائمة بينهما تعود إلى تباين عميق في التصوّرات والخيارات الاجتماعيّة والنقابيّة والسياسيّة، فإنّ أحداثا بعينها هي التي أدّت إلى هذا التصعيد.
الخلفيّات والمآلات
بعيدا عن اللغة الخشبيّة والمواقف الرسميّة المغلّفة بقفازات ناعمة في التعاطي مع هذه الأزمة وتوصيف خلفيّاتها، فإنّه ينبغي الإقرار بأنّ البعد السياسي كان عاملا محدّدا في تأجيجها. صحيح أنّ الأزمة بين الجانبين لها جذورها وخلفيّاتها السابقة، ولاسيما القيود المتشدّدة التي فرضتها الحكومة في نهاية العام الماضي على العمل النقابي والمفاوضات الاجتماعيّة عبر إصدار “المنشور عدد 20 لسنة 2021 حول التفاوض مع النقابات”.
كان من الطبيعي أيضا ألّا تستوعب المركزيّة النقابيّة وألّا تقبل مُضيّ الحكومة في إقرار “البرنامج الوطني للإصلاحات الكبرى” دون العودة إلى الاتّحاد أو على الأقل تشريكه في تعديل تلك الخيارات الأحاديّة، قبل استعراضها في مفاوضات الدولة التونسيّة مع صندوق النقد الدولي والبدء في تفعيلها. ومع ذلك فإنّ القشّة التي قصمت ظهر البعير إنّما تكمن في تقنين مثل هذا التعامل الفوقي إزاء المنظمة النقابيّة العريقة وعدم الأخذ بمقترحاتها وسخرية رأس هرم السلطة منها (الخط الثالث) ومحاولة تقزيمها، عن قصد أو غير قصد، وآخر ذلك تعيين أمين عام المنظمة مجرّد عضو في لجنة فرعيّة في “الهيئة الوطنيّة الاستشاريّة من أجل جمهوريّة جديدة”. وهو ما دفع الاتّحاد إلى الإعلان رسميّا عن مقاطعته لحوار قصر الضيافة ورفضه أن تكون مشاركته صوريّة. كان هذا القرار منتظرا لدى كلّ من تابع حراك اتّحاد الشغل بعد الثورة. فمن غير المتوقّع أن يقبل الاتّحاد بامتهان مكانته التاريخيّة والرمزيّة والرمي عرض الحائط بكلّ ثقله ومجده والقبول بالمشاركة في سيناريو سياسي جاهز سلفا، وهو الذي قاد “الحوار الوطني” لسنة 2013 ومهّد لحصول تونس على جائزة نوبل للسلام.
في المقابل، يبدو أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد اعتبر قرار الاتّحاد بمقاطعة أعمال هيئته الاستشاريّة بمثابة “ضربة في الظهر” تصبّ في المصالح الضيّقة لخصومه، دون أن يعبأ بمكانة الاتحاد الذي لا يمكنه أن يسير في ركاب من يُمعن في معاملته على أنّه مجرّد تابع صغير كسائر المصطفين وراءه.
وبالإضافة إلى مقاطعة هذا الحوار الصوري، حاول اتّحاد الشغل أن يثأر لنفسه وأن يقوّي موقعه في التفاوض مع الحكومة عبر إقرار إضراب عام في القطاع العمومي يوم 16 جوان 2022. فهو يُدرك جيّدا طبيعة الشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي على الحكومة التونسيّة مقابل تمكينها من التمويلات اللازمة لإصلاح الاقتصاد والحدّ من اختلال الماليّة العموميّة، ومن أهمّها مصارحة التونسيّين بفحوى برنامج الإصلاحات المطلوبة وموافقة الاتّحاد عليه. ورغم ذلك فإنّ الحكومة لم تُحرّك ساكنا، ولم تعبأ بتحرّكات المركزيّة النقابيّة وباللقاءات الرسميّة التي أجراها أمينها العام نور الدين الطبوبي مع شخصيّات تونسيّة وأجنبيّة من قبيل التعبئة وحشد التضامن والمساندة…
وفي هذا النطاق، تعثّرت عمليّة التفاوض بين الحكومة واتحاد الشغل وفشل اللقاء اليتيم من أجل إلغاء الإضراب العام، بسبب امتناع القصبة عن تقديم أيّة تنازلات للمنظمة الشغيلة ورفض الاستجابة للحدّ الأدنى من مطالبها، وفي مقدمتها سحب المنشور عدد 20 (يُلزم كافّة الوزارات والمؤسّسات والمنشآت العموميّة بالحصول على ترخيص رئاسة الحكومة قبل الشروع في التفاوض مع النقابات)، والتعهّد على الأقلّ بتطبيق الاتفاقيّات الممضاة سابقا، واعتماد مقاربة تشاركيّة بخصوص إصلاح المنشآت العموميّة، فضلا عن إعلان نوايا بشأن التفاوض من أجل تحسين القدرة الشرائيّة للتونسيين في ظلّ الارتفاع المهول للأسعار…
وعلى الأرجّح فإنّ هذا التجاهل المطْبق الذي تعاملت به الحكومة مع اتّحاد الشغل لم يكن بتخطيط ذاتي أو بمبادرة منها، بل يعكس التزاما بتعليمات مباشرة من رئاسة الجمهوريّة.
وإمعانا في سياسة اللامبالاة وفرض الأمر الواقع، أعلنت الحكومة على لسان الناطق الرسمي باسمها نصر الدين النصيبي عن التجاء الحكومة إلى إجراءات التّسخير، رسميا من أجل ضمان تامين الخدمات للمواطنين وعمليّا بهدف كسر الإضراب العام وإفشاله. وهي رسالة واضحة موجّهة إلى قيادة اتّحاد الشغل بأن الحكومة ماضية في تنفيذ قراراتها، دون أدنى اعتبار لمواقف المركزيّة النقابيّة وتحرّكاتها.
ماذا جنى الاتّحاد؟
ماذا حقّق الاتّحاد بفضل الإضراب العام؟ أعلنت المركزيّة النقابيّة عن نجاح الإضراب العام وانضباط العمّال للقرار النقابي بنسبة تسعين بالمائة في كافّة المنشآت العموميّة الـ 159 المشمولة بقرار الإضراب. كما حظي الاتّحاد بمساندة طيف كبير من مكوّنات المجتمع المدني التونسي والأجنبي، فقد ناصرته اتّحادات نقابيّة دوليّة عدّة. وحاز الاتّحاد كذلك على دعم العديد من الأحزاب من خلال بيانات التضامن وتأكيد شرعيّة الإضراب العام ومشروعيّته، بما في ذلك أحزاب تعوّد أنصارها على شيطنة الاتّحاد لسنوات طويلة، مثل حركة النهضة وحلفائها.
في المقابل، هل حقّق اتّحاد الشغل أيّا من مطالبه؟ الإجابة لا! لم يحقّق الاتّحاد شيئا يُذكر من مطالبه تقريبا. فقد كان يكفي لإلغاء الإضراب العام أن تُبادر الحكومة بمجرّد إعلان اعتزامها إنهاء العمل بالمنشور عدد 20، لكنّها لم تفعل والأسباب معلومة. فما بالك بالمطالب المهدورة الأخرى!
من الواضح أنّ اتّحاد الشغل قد مضى في عمليّة كسر عظام لم يتمكّن من الخروج منها سالما حتّى الآن. ويبدو أنّه لم يستوعب بعد ضرورة التأقلم مع التغييرات الطارئة على المشهد السياسي وتطوير آليّات التحرّك الاحتجاجي، في ظلّ وجود سلطة لا تُنصت إلّا لصوتها، أي فقط لصوت رئيسها. رئيس يبدو أنّه مقرّ العزم على تدجين كلّ القوى المدنيّة أو استعدائها أو حتّى تخوينها في حال عدم رضوخها. وكأنّ السلطة لا تنتعش إلّا في أجواء الأزمات المتفاقمة. لا خلاف طبعًا حول مسك اتّحاد الشغل بورقة تعطيل التفاوض مع صندوق النقد الدولي الذي يصعب أن يمضي في اتّفاق يُدرك أنّه قد يتعثّر في ظلّ الصدام بين الحكومة واتّحاد الشغل. وفي الآن ذاته يحتكم رأس السلطة إلى نهج مغاير تمامًا لما هو معهود بشأن منطق التفاوض وتوازن القوى والحفاظ على شعرة معاوية، على الرغم من أنّه شبه استحالة أن تستمرّ الأوضاع المنغلقة على ما هي عليه اليوم طويلا.
أمين عام الاتّحاد نور الدين الطبوبي أكّد أمس مجدّدا، في افتتاح ورشة عمل حول “سياسات التقشّف في القطاع العمومي والحوار الاجتماعي”، على أنّ الاتحاد دُفع دفعا إلى إضراب يوم 16 جوان بعد تعطّل لغة الحوار رغم مطالبته بذلك. واستدرك أنّ المنظمة الشغيلة لم تتلقّ أيّة دعوة للقاء وفد صندوق النقد الدولي الذي يزور تونس في بداية هذا الأسبوع. ما ذكره الطبوبي يُؤكّد هذا التوجّه الأحادي للحكومة بتوجيه من رئيس الدولة، على الرغم من أنّه حاول أن يوجّه إليها رسالة إيجابيّة تكشف في ثناياها مدى حيرة المركزيّة النقابيّة، قائلا إنّه “مازال أمام هذه الحكومة متّسع من الوقت إذا كان لديها صلاحية اتخاذ القرار والقدرة والإرادة لإيجاد حلول والحوار الجدّي”…
والواضح أنّ اتّحاد الشغل لم يستفد من ترديد قيادته مرارًا مساندة المنظمة لمسار 25 جويلية 2021، بشرط انفتاحه على مختلف المكوّنات الفاعلة في المشهد التونسي، غير أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد لم يعد يقبل بأدنى شروط أو ضغوط بعد تجميعه لكافة السلطات. وقد أثبت غير مرّة أنّ المقاربة التشاركيّة لا تمتّ بصلة لمعجمه السياسي.
من ثمّة، بات واضحا أنّ الاتّحاد مطالب بتغيير أساليبه التقليديّة التي لم تعد تؤدّ الغرض منها، بل أضحت تُفرز نتائج عكسيّة تماما. فما من شكّ أنّ السلطة لم تتضرّ من التداعيات الاقتصاديّة السلبيّة للإضراب العام بقدر ما تضرّر منه التونسيّون والبلاد برمّتها، في ظلّ الأزمة الخانقة والارتفاع الجنوني لأسعار المواد الاستهلاكيّة المختلفة.
لا يخفى كذلك أنّ صورة الاتّحاد قد اهتزّت لدى بعض فئات المجتمع التونسي، وخصوصا في ظلّ حملات الشيطنة العنيفة التي يقودها ضدّه المحسوبون على الرئيس قيس سعيّد. ويبدو أنّ تلك الحملات المفتعلة قد زادت الخناق “السياسي” على المنظمة الشغيلة، لاسيما في ظلّ التوظيف السلبي لما يسود من تضامن “انتهازي” لبعض الأحزاب التي لا يهمّمها إلّا الدفع في اتّجاه تأجيج الأوضاع وتعميق الأزمة الشاملة مهما كانت تداعياتها على الاستقرار العام، وهو ما يدركه الاتّحاد جيّدا…
مجمل القول إنّ الاتّحاد لم يجن مكاسب تُذكر من الإضراب العام في القطاع العمومي. وقد تنتهي الإضرابات العامّة المقبلة بنتائج مماثلة جرّاء حالة العطالة السياسيّة المتأبّطة بالسلطة وتخومها. وربّما تُشكّل الهيئة الإداريّة للاتّحاد التي ستنعقد آخر الشهر الجاري مناسبة مهمّة للمراجعة وللتفكير مليّا في كيفيّة تغيير الأشكال الاحتجاجيّة للمنظمة في اتّجاه إيجاد الوسائل الكفيلة بخدمة مصالح التونسيّين لا مزيد الإضرار بهم، وفي الآن ذاته الاستعداد جيّدا للمواجهة السلميّة لما يلوم من إصرار على مواصلة الانحراف الجسيم بالسلطة…
نشر بأسبوعية”الشارع المعاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 جوان 2022