الشارع المغاربي: مع احتداد الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية بدرجة مُفزعة شهدت تونس الأسبوع الفارط تصريحات متناقضة على مستوى الجهاز التنفيذي حول مواضيع هامة يُعتقد في الأصل انها محل إجماع بين طرفي السلطة التنفيذية باعتبار أن الحكومة مُعينة من طرف رئيس الجمهورية مباشرة.
ففي حين دخلت الحكومة في حملة دعائيّة لتمرير برنامج التقشّف الذي يعتمد وصفة صندوق النقد الدولي طبقا لما التزمت به في مفاوضات واشنطن الأخيرة، احتدّت ردود الفعل الاجتماعية خاصة حول الإجراءات المُتعلّقة برفع الدعم وبخوصصة بعض المؤسسات العمومية مثلما صرحت بذلك المديرة العامة لصندوق النقد الدولي. يجري ذلك في وقت تشهد البلاد ارتفاع نسبة التضخم إلى مستوى 9,2 % بالتزامن مع بداية تدهور قيمة الدينار مجددا مقارنة بالدولار وبالأورو أيضا الذي فاق 3,303 دنانير للأورو الواحد بعدما شهد مرحلة استقرار منذ شهر مارس الفارط. وهو ما يُنذر حسب اعتقادنا بتداعي العملة الوطنية بطريقة شبيهة بما جرى للجنيه المصري مؤخرا نتيجة ضغط المؤسسات المالية الدولية والبلدان التي تدفع لذلك، ونتيجة تنامي الطلب على العملة الأجنبية لتمويل التوريد إذ ارتفعت قيمة التوريد إلى مستوى 47 مليار دينار في أواخر شهر أكتوبر 2022 (رقم قياسي) مقابل 15 مليارا تصدير فقط مما يُفضي إلى تزايد الضغط على طلب العملة الأجنبية التي أصبحت نادرة.
فقد أفاد المعهد الوطني للإحصاء بخصوص المبادلات التجارية للسّلع في النظام العام “المُقيم” المُعتمد دوليا منذ سنة 2010 أن العجز التجاري ارتفع في العشرة أشهر الأولى من سنة 2022 إلى رقم قياسي لم يشهده منذ الاستقلال في حدود 32 مليار دينار أي ما يناهز تقريبا 10 مليارات دولار يفترض تغطيتها بالعملة الأجنبية وبالقروض الخارجية. مما يعني حالة انفلات خطيرة عجزت الحكومة عن التحكم فيها في غياب القرار السيادي نتيجة ضغوط بلدان الاتحاد الأوروبي المُستفيدة من هذا الوضع إذ أن ما بين 45 % و 50 % من هذا العجز التجاري ناتج عن المبادلات التجارية مع الطرف الأوروبي.
في نفس الوقت تشهد البلاد تخوفات متواترة نتيجة فقدان المواد الغذائية الأساسية كما تشهد ارتفاعا مُفزعا في ظاهرة الهجرة السرية عبر قوارب الموت تكاد تكون يومية نتيجة اليأس والإحباط.
كُل هذه العوامل التي تُنذر بانفجار الوضع الاجتماعي أفضت إلى وجود حالة من الارتباك في المواقف السياسية المُتعلّقة بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية في تونس. هذا الارتباك يزداد حدّة باعتبارالوضع المُتفجّر في سائر بلدان العالم وخاصة في البلدان الأوروبية حيث ارتفعت وتيرة المظاهرات الاجتماعية المطالبة بالزيادة في الأجور نتيجة الارتفاع الحاد في نسب التضخم التي قوضت القدرة الشرائية للفئات الضعيفة والمتوسّطة.
فقد ركنت الحكومة إلى سياسة الكرّ والفرّ وجسّ النبض بتصريحات مُتناقضة أحيانا حيث تؤكّد تارة على ضرورة تطبيق الالتزامات المُتّفق عليها مع صندوق النقد الدولي وتُدلي بأسماء بعض المؤسسات المعنية بدرجة أولى بالخوصصة مثل وكالة التبغ وبنك الإسكان ومصنع الفولاذ ثم تتراجع تارة أخرى لتُفيد بأنها لا تنوي التفويت في المؤسسات العمومية وأنها ستقوم بفتح رؤوس أموال بعض المؤسسات لرأس المال الخاص (موسى الحاج أو الحاج موسى)في خطوة لتهدئة الرأي العام.
غير أن الملفت للانتباه ما ورد على لسان رئيس الجمهورية خلال تصريحه أثناء لقائه برئيسة الحكومة نجلاء بودن، حول رفضه التفريط في القطاع العام حيث أكد خلال تطرقه إلى الوضع العام في البلاد، والتوازنات المالية للدولة، حرصه على مقاربة هذه القضايا مقاربة جديدة تقوم على العدل والإنصاف وعلى عدم تخلي الدولة عن دورها الاجتماعي، مشيرا إلى أن “الحل الناجع يجب أن ينطلق من إرادة الشعب” وإلى أنه “لن يكون هناك تفريط مثلما يدعي البعض، في المؤسسات والمنشآت العمومية”.
إثر هذا التصريح سارع الأمين العام للاتحاد بالتوجه بالشكر لرئيس الجمهورية معتبرا أن هذا الموقف متجانس مع موقف المنظمة الشغيلة.
لا يمكن الحسم في المواضيع الإستراتيجية في غياب الشفافية والمصارحة والتشاور
بناء على ما جاء على لسان رئيس الجمهورية، يحق للشعب أن يتأكد من الموقف الرسمي حول هذه المواضيع الأساسية التي تهم مستقبل البلاد. خاصة في ظل تضارب التصريحات وغياب دراسات مُعمّقة بكفاءات وطنية تُطرح للنقاش بكل جدية ومسؤولية سعيا للدفاع عن المصالح العليا للبلاد وبعيدا عن أي تدخل أجنبي.
إمعان الاتحاد الأوروبي في الضغط على الحكومة لمنعها من تطبيق اي إجراء لترشيد التوريد والحال أن كل القوانين الدولية ذات الصلة تدعو لذلك، يُعتبر توريطا مُمنهجا لجرّ البلاد إلى الإفلاس وجعلها لقمة سائغة لقبول كل الضغوط السياسية والاقتصادية المسلطة عليها من القطب الغربي الأطلسي-الأوروبي.
التطبيع مع الكيان المغتصب والتطويع للاستيلاء على مؤسسات البلاد ومُقدراتها الإستراتيجية تُعتبر أهدافا أساسية للقطب الغربي في ظل الصراعات والحروب والأزمات القائمة حاليا في العالم من أجل وضع حد لهيمنة القطب الواحد.
في خضم هذه المتغيرات العالمية الكبرى نعتقد أن الخوض في مسألة التفويت في المؤسسات العمومية دون أية دراسات جدية وعلنية تُذكر يعتبر استسلاما لمنطق الهيمنة والاستعمار.
من ذلك مثلا “بنك الإسكان” الذي انجز المعجزات في تمويل السكن اللائق للشعب وحقق السنة الفارطة أرباحا صافية بـ 135 مليون دينار. كما حقق في السداسي الأول من سنة 2022 ارباحا صافية بـ 80 مليون دينار.. وهو بنك مؤمن على رهائن عقارات السكن لكافة الشعب التونسي فكيف يتم القبولحتى مجرد التفكير في التفريط في مؤسسة بهذا الحجم وبهذا الشأن العقاري الإستراتيجي؟
وكالة التبغ ليست مؤسسة بقدر ما هي وكالة تابعة مباشرة لوزارة المالية تحتكر قطاع صنع وتسويق التبغ لما له من قيمة كبرى في جمع الأداء بفضل هذا القطاع المُربح جدا والدولة تلعب دور الرقيب للحد من خطورة استهلاك التبغ على صحة المواطن.
مصنع الفولاذ لصنع الحديد والصلب مُركّب صناعي رائدتأسس سنة 1965 ويعتمد تثمين منجم الحديد المحلي عبر استعمال الطاقة المحلية من آبار نفط “البرمة” حديثة الاكتشاف في بداية الستينات ويعتبر من اهم إنجازات تونس الاستقلال التي قرأت لها فرنسا كل حساب.
من ذلك وفي أول اتفاق شراكة تم توقيعه بين تونس والمجموعة الأوروبية سنة 1969 تم التنصيص على تمكين تونس من تصدير منتوجاتها الصناعية (تونس لم تكن لها صناعة تصدر آنذاك) لدى سوق المجموعة الأوروبية دون معاليم ديوانية غير أنها استثنت الحديد والصلب المنتوج الصناعي التونسي الوحيد الذي يشكل مصدر منافسة للمنتوج الأوروبي.
لكل هذه المعطيات الهامة يجدر برئيس الدولة أن يُعلن عن موقفه بكل وضوح أمام الشعب من هذه المسائل المحورية السياسية منها والاقتصادية وعلى الحكومة أن تلتزم بهاخاصة عندما يتعلق الأمر بثوابت الشعب في علاقة بموقفه من القضية الفلسطينية وبمكتسباته الوطنية التي حققتها دولة الاستقلال بكل جدارة. في غياب هذا الموقف الصريح والالتزام به يصبح الامر من باب الارتباك أو تقاسم الأدوار.
كما لابد من التذكير بأن السيادة الوطنية لا يمكن أن تتحقق بمستوى مديونية خانقة وحكومات متتالية تتسول المزيد من القروض لضمان سداد الديون وتترقب الفتات من البنك الأوروبي لضمان القوت اليومي لجل الشعب التونسي الذي يعد مليون عاطل عن العمل وأكثر من مليونين يعملون في القطاع الموازي بلا أي ضمان فيما تعتمد البقية على الهجرة السرية وهجرة الادمغة.
افتتاحية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 15 نوفمبر 2022