الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: تواجه تونس أزمة شاملة تتعدد مظاهرها وتتعقد، مما يهدّد بتفجر الأوضاع الاجتماعية. ويرجع ذلك إلى عجز النخب السياسية المتعاقبة على الحكم منذ 2011 عن تقديم إجابات شاملة للأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وهو ما يتجلى في التحويرات الوزارية المتتالية وتغيير الحكومات المتواصل سعيا لإيجاد آليات للخروج من الأزمة.
وتتزامن هذه الأوضاع مع إضرابات لم تتوقف منذ عام 2011، شملت كافة القطاعات، وتعبّر عن مطالب قطاعية تفاقم تاثيراتها ظواهر أخرى اهمها تدهور القدرة الشرائية للعائلات وانتشار العنف والهجرة غير الشرعية والبطالة.
علاوة على ذلك، يزيد تدخل الجهات الخارجية، سواء من خلال السفارات أو المنظمات غير الحكومية، أو الصناديق الدولية المقرضة من تعقيد الوضع ويشوش على صناع القرار الذين لم يتوفقوا في الوصول إلى حلول جديدة فعالة وقابلة للتطبيق.
وفي ظل هذا الوضع المتأزم، تطفو إشكالية صندوق الدعم أو الصندوق العام للتعويض على كافة الأصعدة، حيث يؤثر مباشرة على الوضع الاقتصادي العام ويحظى باهتمام المقرضين الدوليين حتى صارت مسألة الصندوق موضوعًا لا يخص تونس فحسب وإنما تجاوز حدودها وتحول إلى موضوع للمزايدات السياسية بين الأطراف الحزبية والمنظمات الوطنية والصناديق الدولية التي جعلت “إصلاحه” شرطا لتمويل البلاد. ويشمل تدخل الدولة في مجال دعم المواد الأساسية والمحروقات والنقل العمومي.
أرقام ووقائع
تفيد الدراسات الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء في عام 2015 أن المجتمع التونسي ينقسم حسب مستويات الدخل إلى ثلاث فئات رئيسية هي الميسورون أو الطبقة المترفة، والطبقة الوسطى، والطبقة الفقيرة. وتنقسم كل من الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة إلى فروع بسبب التفاوت في العناصر المكونة لهما في مستويات الدخل. وتبرز النسب المئوية على النحو التالي:
الطبقة المترفة (10%)
الطبقة الوسطى، وتنقسم إلى ثلاث فئات:
الوسطى (75%) والوسطى العليا (25%) والوسطى السفلى .(25%)
الطبقة الفقيرة، وتنقسم إلى فئتين:
فئة فقيرة (12%)
فئة في مستوى الفقر المدقع (3%)
وتستفيد الطبقات العليا بأكثر من 70% من الدعم. وتشير بعض الدراسات إلى أنها تصل إلى 80%. وعلى الرغم من أن الأهداف الكبرى لآليات الدعم تكون أساسًا موجهة للطبقات المحتاجة من الفقيرة والوسطى والوسطى السفلى، فإن الطبقات العليا، التي تمثل حوالي 35% من السكان، تستنزف أكثر من 80% من موارد الدعم.
وتتم هذه الاستفادة بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث يحصل هؤلاء على الدعم بغض النظر عن دخلهم المرتفع. فهم يستهلكون المواد المدعمة مثل والخبز والوقود والسكر والحبوب بأسعار تفاضلية مدعومة من الدولة. بالإضافة إلى ذلك، يستفيدون كأصحاب مشاريع في قطاعات مختلفة مثل المطاعم والسياحة والصناعة التحويلية اذ تستهلك هذه الأنشطة المواد المدعمة بكميات هائلة ويتم ضخ المنتجات في الأسواق المحلية أو تهريبها في عمليات ذات صبغة ربحية عالية بما يمكنهم من تحقيق أرباح كبيرة على حساب المالية العمومية. ويستفيدون أيضًا من المزايا التحفيزية للاستثمار مثل المواد الاستهلاكية والإعفاء الضريبي وأسعار تفاضلية في استغلال المياه والكهرباء والعقارات والمواد الأولية. وكل ذلك يعمق أزمة الصندوق. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن عدد الوافدين على البلد من الدول المجاورة والسياح الأجانب يتراوح بين 4 و7 ملايين خاصة في فصل الصيف في بلد يبلغ تعداد سكانه حوالي 12 مليون نسمة. وبالتالي تتراوح الزيادة بين 40% و70% من مجموع السكان في فترة قصيرة من السنة، مما يسبب ضغطًا هائلاً على موارد الصندوق التي لا يتم احتسابها.
الرئيس وصندوق التعويض
أشرف رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم الأربعاء 31 ماي 2023 بقصر قرطاج، على اجتماع مع عدد من الأساتذة الجامعيين تم خلاله تناول جملة من المواضيع ذات العلاقة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس. وتطرق اللقاء مطولا إلى ملف مقاومة الفساد الذي لا يزال مستشريا في عديد القطاعات وضرورة محاسبة كل من أفسد ولا يزال يعمل في الظل ليخدم من لا دأب له إلا افتعال الأزمات وتكديس الثروات والتنكيل بالشعب في قوته وفي معاشه. وتناول اللقاء بالدرس، كذلك الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتحقيق التوازنات المالية المنشودة على أساس العدل الاجتماعي.
كما تم التطرق أيضا إلى ملفات الأمن الغذائي والطاقات البديلة وفتح أسواق جديدة للتصدير وتخفيض الواردات خاصة إذا كانت تثقل كاهل الدولة والمواطن دون أن تكون ثمة حاجة حقيقية إليها. فالميزان التجاري مختل بدرجة كبيرة نتيجة جملة من الاتفاقيات التي لم يجن منها المواطن إلا مزيد الفقر والإملاق. وشدد رئيس الجمهورية في هذا الاجتماع على ضرورة التعويل على الذات مؤكدا على أن الحل يكمن في العمل وخلق الثروة ومساهمة كل الأطراف مساهمة حقيقية تقوم على الشعور المفعم بالمسؤولية وبالانتماء للوطن وبحق كل التونسيين والتونسيات في أن يعيشوا محفوظي الكرامة في دولة محفوظة الكرامة ومحفوظة السيادة.
بعد الاجتماع الذي اتسم بحضور لافت لأساتذة الاقتصاد نظرا إلى طابع النقاش الدائر ونظرا إلى استفحال الأزمة الاقتصادية، استقبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد يوم الخميس 1 جوان 2023 بقصر قرطاج، نجلاء بودن، رئيسة الحكومة وتناول اللقاء سير العمل الحكومي بوجه عام والتوازنات المالية على وجه الخصوص.
وأعاد رئيس الجمهورية ما كان ختم به اجتماعه بعدد من الأساتذة الجامعيين قول عمر بن الخطاب “لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها إلى الفقراء”، مشيرا إلى أنه بدل رفع الدعم تحت مسمّى ترشيده يمكن توظيف أداءات إضافية على من يستفيدون منه دون وجه حقّ ودون الخضوع لأية املاءات خارجية، ومذكّرا بأن تونس كانت عرفت هذه الطريقة منذ السنوات الأربعين من القرن الماضي عند إحداث صندوق التعويض لأول مرة.
ضريبة الرئيس على “الأغنياء” بين النظرية والتطبيق
حسب الدراسات المنجزة حول منظومة الدعم في تونس، غالبًا ما يتمتع الأثرياء بالدعم بسبب الافتقار إلى آليات الرقابة المناسبة.
وقد تبدو فكرة رئيس الجمهورية بتعديل الدعم الذي تستفيد منه الطبقات الغنية من خلال الضريبة التي قد توظف عليهم بمثابة حل منطقي لاستعادة المالية العمومية توازنها وضمان توزيع عادل للموارد. ومع ذلك، فإن المسامية Porosité بين الفئات الاجتماعية يمكن أن تجعل هذا النهج صعب التنفيذ.
وتكمن إحدى الصعوبات الرئيسية على هذا الصعيد في تعريف الطبقات الاجتماعية وتصنيفها. فقد يكون من الصعب التحديد الدقيق لمن ينتمي إلى الطبقة الغنية ومن لا ينتمي إليها خاصة أنّه وحسب البيانات المتوفرة من المعهد الوطني للإحصاء لعام 2020 قدر عدد العاملين في الاقتصاد غير الرسمي بتونس بنحو 1.4 مليون شخص وهم شريحة كبيرة من السكان يعملون في كافة القطاعات ومن الصعب تحديد مداخيلهم وبالتالي يصعب تصنيفهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للأثرياء الوصول إلى مصادر مختلفة للمواد المدعومة باستخدام الوسائل القانونية وأخرى ملتوية مثل التهريب. ومن الممكن أن يسعى بعض الأفراد إلى إخفاء دخلهم أو إيجاد طرق للتحيل على القانون، مما قد يضر بفاعلية الإجراء.
وفي نهاية المطاف، يعد تطبيق ضريبة على الطبقات الثرية لتعويض الدعم تحديًا معقدًا يتطلب تفكيرًا دقيقًا وتخطيطًا مناسبًا ربما لن يجد طريقه إلى التطبيق البتّة لعجز الإدارة وتعقّد المشهد السياسي. كما أنه من المهم مراعاة العديد من العوامل، في هذا الإطار مثل الجدوى الإدارية والأثر الاقتصادي العام والقدرة على ضمان التوزيع العادل للدعم.
حلول أخرى
تجدر الإشارة إلى أنه يوجد نهج آخر ممكن لضمان تخصيص أفضل للموارد، مثل تحسين آليات المراقبة، أو تطوير سياسات تستهدف على وجه التحديد الفئات الأكثر فقرًا، أو زيادة الوعي والتثقيف حول قضايا العدالة الاجتماعية والاقتصادية.
ومن بين الحلول المقترحة إنشاء قاعدة بيانات مركزية ومشتركة بين المكاتب الموجهة للدعم في جميع القباضات المالية المتواجدة بكافة أنحاء الجمهورية، على أن تخضع إلى تحديث مستمر مع ربطها بالتطبيقات الوطنية الأخرى في ما يتعلق بالبيانات الشخصية للمستفيدين (الضمان الاجتماعي، الداخلية، القباضة المالية، الوظيفة العمومية، مكاتب الأداء، الشؤون الاجتماعية…). والغرض من ذلك هو التثبت من صحة المعلومات المقدمة وإرساء نظام رقابة فعال ومحدث. كما يعتبر إرساء منظومة أو قاعدة بيانات خاصة بالدعم أمرًا ضروريًا ويجب أن يتم تنفيذه في الوقت المناسب، وأن عدم وجودها يعوق الانتقال من الدعم الآلي إلى نظام التسجيل الاختياري في التعويض.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 6 جوان 2023