الشارع المغاربي – الجورشي يرد على المزوغي

الجورشي يرد على المزوغي

13 يوليو، 2018

الشارع المغاربي : فطر الانسان على التغير والتطور. فجسمه وفكره وسلوكه ورغباته وانتماءاته وولاءاته خاضعة باستمرار لقانون التبدل أو التعديل والتكيف بسبب البيئة والسياق والتعلم وخوض تجارب جديدة منها الإيجابي ومنها السلبي. مع ذلك هناك أشخاص في تونس لا يتغيرون كأنهم من طينة خاصة. ومن بين هؤلاء عبد العزيز المزوغي صاحب المقال المنشور بالعدد الأخير من «الشارع المغاربي» تحت عنوان «تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة : المعادلة السبسية المستحيلة».

 ما لفت انتباهي في هذا المقال إصرار كاتبه المتواصل منذ ثلاثين عاما، وتحديدا منذ أن التقينا في أسرة تحرير مجلة «المغرب» على التشكيك في النوايا وفي إثارة الشكوك حول شخصي ومواقفي، وتعمده المتواصل الطعن في مصداقية كتاباتي وآرائي، رغم أني لم أتعرض لشخصه في أي مقال أو مناسبة.

مع ذلك سأتجاوز البعد الذاتي، وأنتقل إلى ما هو أهم، وأقف عند مشاركتي في لجنة الحريات.  يزعم المزوغي أنه بعد رفض لطفي زيتون المشاركة في عضوية اللجنة تم اللجوء إلى «الممثل غير الرسمي والوحيد للإسلام السياسي صلاح الدين الجورشي». واعتبر أن من شأن هذه المشاركة أن «تمكن من تطويع أعمال اللجنة قدر المستطاع في اتجاه عدم المساس بالمقدسات الدينية دون تحمل أية مسؤولية في إخفاق هذه المساعي».

يهمني في هذا السياق أن أوضح أنه عندما تم الاتصال بي من رئاسة الجمهورية لاقتراحي ضمن لجنة ستنظر في تقديم اقتراحات من أجل تعزيز الحريات الفردية والمساواة في التشريع التونسي، قبلت ذلك بلا تردد، وذلك نظرا لانسجام مثل هذه المهمة مع قناعاتي ومسيرتي الحقوقية التي انطلقت بانخراطي في الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان في سنة 1982، أي قبل أن يشرع الإسلاميون عموما وحركة الاتجاه الإسلامي خصوصا في الاهتمام بالمسألة الحقوقية والديمقراطية.

كنت واضحا منذ انطلاق النقاش داخل اللجنة وخارجها في التأكيد على أني لا أمثل أي طرف سياسي، وعلى أنّي قبلت المشاركة بهويتي الخاصة انطلاقا من عقيدتي وآرائي.

نعم دافعت عن قناعاتي داخل اللجنة دون تردد، وأكدت بالخصوص على ضرورة أخذ البعد الاسلامي بعين الاعتبار، انطلاقا من إيماني بأن الإسلام ليس مناهضا لحقوق الإنسان ولا هو معاديا للحرية والمساواة، وأن المنهج المقاصدي الذي استندت عليه المدرسة الإصلاحية قادر على أن يستجيب لحاجات الإنسان في أية بيئة وفي أي زمان، وأنه لو تمسكت اللجنة بهذه المنهجية في كل أبواب التقرير لكان تفاعل الرأي مع المبادرة مختلفا تماما.

كما رفضت أيضا فصل التشريع عن بيئته الثقافية والاجتماعية، لأن القانون وحده لا يغير المجتمعات إلا عندما تصبح العقليات متفاعلة مع التغيير وترى فيه ما يحقق مصالحها ويدفع بها نحو الأفضل.

كذلك اعترضت على فكرة الاستقواء بالدولة لما فيها من وصاية على الناس، ورغبة غير ديمقراطية في تطويعهم وجرهم رغم أنفهم نحو الجنة بالسلاسل. وهو ما يتنافى مع الديمقراطية ومع مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تمر بها تونس حاليا، ومن شأنه أن يعطي فرصة ذهبية لدعاة التطرف، ويهدد فعلا الأمن القومي للبلاد التونسية.

إذا كان السيد المزوغي لم يتابع كتاباتي الفكرية، فعليه أن يعلم بأني من أنصار تقديم الثقافي على السياسي، واعتبار الأول مقدمة ضرورية لنجاح الثاني، وأن من شأن وضع المجالين في حالة تناقض  أن يمزق النسيج المجتمعي ويحول الشعب الواحد إلى شعبين، لكني في الآن نفسه أؤمن بأن الفصل بينهما كليا فرضية وهمية يكذبها الواقع باستمرار، وهو ما يسعى إليه البعض بهدف حسم الصراع « نهائيا وإلى الأبد مع الإسلاميين» !!.

 فكما أن من بين الإسلاميين من هم متطرفون ودعاة حرب  عقائدية، هناك أيضا في المقابل من بين العلمانيين من ينفخون في النار من أجل أن يشبّ حريق يأكل الأخضر واليابس دفاعا عن «حداثة معاقة». وعندما يشعلون هذا الحريق لا يستطيعون السيطرة عليه فتمتد النيران حتى إلى بيوتهم. هؤلاء يشككون باستمرار في أي شخص له ثقافة إسلامية، ويقاتلون من أجل إخراجه من دائرة الفعل، ويرفضون أن تكون له مهمة مع البقية في الدفاع عن الوطن وعن حقوق الإنسان، ويستعملون ضده كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتشويهه وتقزيمه ليستفردوا وحدهم بالساحة وبالناس. ولو كانت لديهم القدرة لقاموا بنفي خصومهم من البلاد أو ألقوا بهم في السجون والمنافي.

بما أن المقال يتعلق بتقرير اللجنة، فليعلم الجميع بمن فيهم المزوغي أن المجتمع التونسي هو الذي سيحسم في هذه المسألة، وقد أثبتت ردود الفعل الحاصلة أن الشعب منقسم، وأن الحوار المجتمعي هو الطريق الوحيد لأي إصلاح اجتماعي عميق، وأن كل محاولة لتهميش المخالفين أو القفز على حقهم في التعبير هو ارتداد إلى الخلف وفتح المجال لمختلف أشكال المغامرة. وهذه مسألة يدركها جيدا رئيس الجمهورية، الذي يعلم أن صلاحياته في هذا الشأن محدودة ومختلفة عما كان يتمتع به الرئيس بورقيبة. وأن الحسم سيكون في البرلمان عندما تتحول بعض الاقتراحات المقدمة إلى مشاريع قوانين، ولا أظن أن المزوغي وأمثاله سيمنعون النواب والأحزاب بحقهم في الرد والتوافق، لأنهم في النهاية هم ممثلون لسلطة الشعب. وما محاولة الدفع برئيس الدولة للانحياز الكامل والمطلق لاتجاه واحد  سوى توريطا له لكي يخوض مغامرة بلا أفق.

إن رصانة رئيس الدولة وخبرته الطويلة وتجاربه الميدانية لن تجعله يستجيب لمثل هذه النصائح «الملغومة»، فالتونسيون في حاجة أكيدة لمعالجة ذكية ومطمئنة تجعلهم قادرين على التفاعل إيجابيا مع أي إصلاح تدريجي يأخذ بعين الاعتبار اللحظة والسياق ودرجة الوعي المجتمعي بعيدا عن الاندفاع نحو الأقصى في بيئة لا تتحمل القفز في المجهول.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING