الشارع المغاربي: ” العصفور الذي انطلق نحو الحرية، لن يعود أبدا إلى القفص، ولن يتقبّل الفُتات” أ. قيس سعيّد.
لنتفق أولا على أنّ ما وقع في تونس بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 لحظة مفصلية في تاريخ البلاد، انخرطت فيها كافة مكونات الشعب، وقادها شباب توّاق إلى الحرية والكرامة والعدالة والمساواة بين الفئات والجهات قدّم التضحيات الجسيمة فداء للوطن، وقد ساهمت المنظمات الوطنية وفي مقدمتها المنظمة الشغّيلة ورابطة حقوق الإنسان بمختلف هياكلها ومناضليها في الإطاحة برأس المنظومة القائمة وبناء المرحلة الانتقالية وتولت إيلاء الأهمية الأولى للحقوق والحريات في شموليتها وكونيتها، وتم بذل أقصى ما أمكن من جهد لرصد الانتهاكات والتشهير بها والتضامن مع ضحاياها وتلقي الشكايات التي تخصها ومعالجتها في إبانها، كما شهدت تونس ولادة ائتلافات وطنية للدفاع عن حقوق معيّنة كالائتلاف الوطني لمناهضة العنف والائتلاف الوطني لحرية التعبير ونادت ببعث أخرى كالائتلاف الوطني لمكافحة الإرهاب، وهي مكتسبات حظيت بإجماع التونسيين سوسيولوجيا وسياسيا وتاريخيا ومن البديهي أنهم غير مستعدين للتفريط فيها.
حرية الصحافة والإعلام: المنشود والموجود
لئن شهدت المنظومة القانونية تطورا هاما في اتجاه ضمان حرية والصحافة والإعلام فإنّ الممارسة على خلاف الإطار التشريعي قد شهدت تصاعدا لوتيرة الانتهاكات لحرية الإعلام والتعبير وهي انتهاكات طالت مؤسسات الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية والرقمية استهدفت إعلاميين ومدوّنين وقنوات تلفزية ومحطات إذاعية ومواقع إلكترونية، وقد كان من الواجب إلغاء العقوبات السالبة للحرية بالنسبة إلى الإعلاميين التي تضمنها المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر في فصوله 54 إلى 59، وحصر تهم الثلب في حدود الجنحة المدنية وإلغاء الفصول المتعلقة بالثلب الواردة بالمجلة الجزائية. والتحدي الذي يطرح نفسه اليوم من جديد هو كيف ننزّل القواعد الدولية والتشريعات الوطنية الخاصة بالحريات ومواثيق الشرف المهنية، في خضمّ اختلال موازين القوى في المشهد السياسي الانقسامي القائم حاليا بين من يعتبرون الإعلام «سلطة مستقلة تلعب دور الحكم بين الشعب والسلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية»وبين من يجهدون في العودة بهذه السلطة إلى “بيت الطاعة والمربّع القديم؟
مؤشر حرية التعبير: جدلية المدّ والجزر؟
يتجه الرأي العام إلى اعتبار مكسب حرية التعبير، ومنها الحريات الإعلامية، من أكثر المكاسب التي تحصل عليها التونسي بعد الثورة، بدليل تحرر الصحافة التونسية من القيود التي كانت تكبلها صنصرة أو صنصرة ذاتية بعد أن زال حاجز الخوف نهائيا، أو هكذا خُيّل لها، وبات بإمكان الصحفي الخوض في كل القضايا دون استثناء ودون محاذير أو خطوط حمراء سواء تعلق الأمر برموز ومؤسسات السلطة أو برموز ومؤسسات السلطة المضادة بقطع النظر عن طبيعة هذه السلطة وتراتبية رموزها ومؤسساتها، أو هكذا تهيّأ له، إلى الحد الذي يمكن القول معه إنّ مؤشرات حرية التعبير بالبلاد كانت تسير باتجاه الاقتراب التدريجي من مؤشرات الدول المتقدمة. وإذا كانت الآراء منقسمة قبل إعلان الحالة الاستثنائية بالبلاد في 25 جويلية 2021 بين من كانوا يرون أنّ هذا المكسب غير مهدّد، بما أنّ مسألة الحقوق المدنيّة والسياسية قد باتت محسومة، وبين من كانوا يرونه مهدّدا نسبيا أو مهدّدا بقوّة، فهل غدت وضعية حقوق الإنسان والحريات الفردية والعامة بعد ذلك أكثر إشراقا وأقل انتهاكات؟
تراجع مخيف في التصنيف العالمي لحرية الصحافة
إنّ التخوف على هذا المكسب بات في تطور محسوس ومتفاقم بتطور مؤشر التخوف من ثقافة التوحش والعنف الجاهل من ناحية، وما سُجّل من تكرر الحوادث الهادفة إلى ” إلجام العوامّ عن علم الكلام”، والعبارة منّا على سبيل الانزياح، اعتداءات ومضايقات وتتبعات عدلية لدى القضاء العسكري طالت “عشرات الإعلاميين من نشطاء وصحفيين” وعشرات المُحامين والسياسيّين والمثقفين والنشطاء الحقوقيين بتُهم تتّصل بتصريحات أو مواقف عبّروا عنها في وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية، ولا سيما بموجب قانون النشر على وسائل التواصل الاجتماعي المعروف بالمرسوم عدد 54 من ناحية أخرى، مرسوم وصفه إعلاميون وحقوقيون ورجال قانون بالزجري، تخوّف تطور إلى خشية حقيقية من خسران مكسب حرية التعبير، وهي انتهاكات جعلت تونس تتراجع في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لتنزلق في الترتيب من المرتبة 73 على 180 دولة سنة 2022 إلى المرتبة 94 سنة 2022 ثم إلى المرتبة 120 بالنسبة إلى العام الجاري، بما جعل نقيب الصحفيين التونسيين يسجل أنّ ” هناك ردة واضحة عن حرية التعبير والصحافة” بل “محرقة حقيقية لحرية الرأي والتعبير وانتهاكا للحق الصحفي”، معتبرا ” الإعلام التونسي، بمقتضاها، في أزمة غير مسبوقة”.
ومؤدّى ذلك أنّ المرسوم عدد 54 الموضوع أصلا لمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال لم ينجح في مقاومة الجرائم السيبرنيّة، وهي موجودة بمقتضى حالة الانفلات المعمّم، بقدر ما ضاعف من هشاشة وضع حرية التعبير البلاد التي تراجعت في التصنيف السنوي لمنظمة مراسلون بلا حدود المتعلق بحرية الصحافة بـ21 مرتبة سنة 2022 ثم بـ 47 مرتبة سنة 2023 وذلك بسبب ما تشهده وسائل الإعلام والصحفيين والصحفيات من صعوبات مالية كبيرة، وملاحقات قضائية للأفراد بسبب مشاركتهم في التجمعات السلمية ورفعهم لشعارات مناهضة للسلطات العمومية.
هل نحن في حالة حرّية مشروطة؟
جيل الصحفيين الجديد الذي نشأ في سماء واسعة من الحرّية، وترعرع بمنأى عن مقصّ الرقيب، وشبّ بمعزل عن مقصلة السلطة التنفيذية، أية سلطة تنفيذية بقطع النظر عمّن يحكم، هل يقبل بالتدجين ودخول بيت الطاعة؟ وهل يقنع بأي مسعى إلحاقي من شأنه أن ينال من أخلاقيات المهنة ومن ميثاق شرفها أو يسمح بتشكل سياقات تهدّد المهنة أصلا؟ وهل سيرضى بالتفريط في فرصة تحرير الإعلام الوطني التاريخية وتحسين مساحة الحريات الإعلامية التي أتيحت له؟
جيل الصحفيين الجديد لأنه جيل لن يرضى بهذا ولا بذاك، ويتمسّك بحرية الصحافة على مقتضى المعايير الدولية للحريات الإعلامية، وعلى مقتضى ما تستدعيه هذه الحريات الإعلامية في النصوص الإقليمية والتشريعات الوطنية من حماية، آلى على نفسه مهنيا وأخلاقيا نعم، ولكن قانونيا أيضا، ومن خلال المنظمات المهنية والحقوقية ذات العلاقة، لفت النظر إلى خطورة هذا المرسوم على الحقوق والحريات، والتنبيه إلى ما تضمنه من أحكام تتعارض بشكل صارخ مع الفصول 37 و38 و55 من الدستور التونسي، ومع المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وهو ملزم للدولة التونسية سياسيا وقانونيا، ومن قيود غير مسبوقة على حرية التعبير والرأي من شأن تطبيقها أن يؤدي إلى ترهيب أصحاب المهنة وعموم المواطنين من التعبير عن آرائهم إزاء أعوان الدولة والمسؤولين السياسيين، ونادى، بالتزامن مع دعوته إلى سحب المنشور لما فيه من تهديد لجوهر حرية التعبير والصحافة، إلى تنظيم مشاورات بما في ذلك مع المجتمع المدني لإعداد تشريعات جديدة تتناول جرائم الفضاء الأزرق نعم ولكن في كنف احترام حقوق الإنسان الأساسية والحريات للجميع.
الثقافة التعديلية تشاركية أو لا تكون
هل تمّ إنشاء الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال( 2011) ومن بعدها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري HAICA في اليوم العالمي لحرية الصحافة (2013) إلا للعناية بالمشهد الإعلامي السمعي والبصري التونسي وتنظيمه والسعي إلى استقلاليته عن كل السلط السياسية والمالية بمرمى طموح قطب الرحى فيه الوصول إلى طريقة جديدة في حوكمة الإعلام وتعزيز حرية التعبير في البلاد والتكفل بتعديل المشهد الإعلامي، وإذا كانت الرغبة في الحقيقة وتثمين النقد وإرساء حرية التفكير والثقة في التواصل ونبذ العنف وفي إرساء بناء جديد قيما لا يمكن ان تفارق فعل التفكير، فهل من معنى للرغبة في إرساء الجديد دون تبادل بين البشر يستفيد من اختلافاتهم؟ وإذا اعتبرنا الحوار قيمة أساسية في إيتيقيا التفكير فهل يمكن أن يستقيم هذا الحوار دون أن يحتل النقد فيه منزلة رفيعة سواء في علاقة الذات بذاتها أو في علاقتها بالآخر؟ نعم ” الحريات لن تهدّد أبدا” لأنّ لها إيتيقيا تحميها وطنيا ودوليا . فـ” العصفور الذي انطلق نحو الحرية، والعبارة للأستاذ قيس سعيّد نفسه مترشحا للرئاسة، لن يعود أبدا إلى القفص، ولن يتقبّل الفُتات”، وهذه ليست رومانسية على خلاف ما ذهب إليه منافسه وقتها.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 20 جوان 2023