الشارع المغاربي-كوثر زنطور: شكلت الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب المنعقدة يوم الاثنين 23 اكتوبر 2023 والمخصصة للمصادقة على قرض من البنوك المحلية بالعملة الصعبة فرصة لوزيرة المالية سهام نمصية لتقديم الملامح الكبرى لمشروع قانون المالية للعام القادم. الوزيرة التي تحل بالبرلمان بعد ايام قليلة من تكليفها بتسيير وزارة الاقتصاد بالنيابة بعد اقالة زميلها اللدود السابق في الحكومة سمير سعيد غرقت في التناقضات وهي تحاول ان تكون صوت الرئيس في رحاب المجلس وزادت اجاباتها من تعزيز التساؤلات حول ” مصير ” برنامج الاصلاحات” مع صندوق النقد وان كان بصدد التنفيذ “خلسة”.
غطت احداث غزة على الشأن المحلي بشكل كبير وحالت دون ان تتمركز المتابعات على اهم مشاريع قانون المالية لعام 2024 وقانون المالية التكميلي 2023 وميزانية الدولة للعام القادم. كانت هذه القوانين حتى وقت قريب محور الاهتمام الوطني. وجلسة يوم امس لا تبعد عما يشبه حالة اللامبالاة السائدة تجاه الاحداث الوطنية اجمالا رغم دقتها وتداعياتها المحتملة في ظل تواصل نفس السياسات رغم نفي وزيرة المالية سهام نمصية.
ففي ردها على استفسارات النواب وانتقاد البعض منهم تواصل سياسة التداين كحال البرلمانات السابقة، قالت الوزيرة ” هاتوا حلولكم الآنية” مفسّرة بأن الاقتراض هو الحل الوحيد حتى تتمكّن الدولة من الايفاء بالتزاماتها التي تصفها الوزيرة بـ “ورثة” أو “تركة” وهي حجة كل سابقيها في المنصب، لكن نمصية تستدرك بالتشديد على ان التعويل على الذات تجلّى في تقليص حجم القروض الخارجية المبرمجة لعام 2023 بما قيمته 4296 مليون دينار.
هذا التناقض ليس الوحيد في مضامين ردود الوزيرة نمصية المسؤولة الاولى اليوم عن الملفين المالي والاقتصادي التي كان لزاما عليها وهي التي تؤكد انها تتحدث بشفافية كشف الاسباب الحقيقة وراء صعوبات تعبئة الموارد لميزانية الدولة دون ان يتم تحويل التعثر او الفشل الى نجاح على غرار ربط تقليص حجم الديون الخارجية باعتماد سياسة “التعويل على الذات” التي ردّدها عدد من النواب في الجلسة العامة باعتبارها جوهر سياسات الدولة للمرحلة القادمة التي كان قد اعلن عنها رئيس الجمهورية خلال اجتماع مجلس الامن القومي نهاية الشهر المنقضي للحيلولة دون أي مساس بالسيادة الوطنية .
لا اتفاق جديد
مسألتان هامتان تطرّقت اليهما وزيرة المالية خلال الجلسة العامة المنعقدة يوم امس الاثنين: الاولى تتعلّق بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي التي كانت الوزيرة قد اكدت منذ عام انه لا بديل عن ابرام اتفاق معه وان ” برنامج الاصلاح المقدم تونسي تونسي”. اما المسألة الثانية فتتعلق بملف ثقيل ومثير للجدل هو سياسة التداين.
المعلومة الجديدة التي قدمتها الوزيرة تتعلق بمصير الاتفاق الموقّع على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الذي تأكد بحديث نمصية انه انتهى واصبح في حكم الماضي. للتذكير كانت السلطات التونسية قد وقّعت في شهر اكتوبر 2022 اتفاقا على مستوى الخبراء دون ان يتحوّل الى اتفاق رسمي. وقالت الوزيرة يوم امس ان الحكومة لم تقدم برنامجا جديدا للصندوق.
نمصية لم تكن ضمن الوفد الرسمي المشارك في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد ومجموعة البنك الدولي الملتئمة منذ ايام في مراكش. الوفد ترأّسه محافظ البنك المركزي مروان العباسي وضم وزير الاقتصاد والتخطيط المُقال سمير سعيّد الذي كانت له سلسلة لقاءات رفيعة المستوى ناقش خلالها “سير التعاون المالي والفني والثنائي مع مؤسسات مالية اقليمية ودولية”. ويبدو ان سعيّد كان بصدد إجراء نقاشات حول “مشروع برنامج معدّل” مع صندوق النقد.
هذا البرنامج المعدّل كان قد تحدّث عنه محافظ البنك المركزي مروان العباسي الذي قال في شهر جوان المنقضي ان تونس تعمل على برنامج اصلاح اقتصادي عادل مع صندوق النقد يأخذ بعين الاعتبار الفئات الأشد احتياجا. كما اكد العباسي منذ ايام في حوار لوكالة تونس افريقيا للانباء من مراكش انه “تم تضمين الاصلاحات التي تمت مناقشتها مع الصندوق وتطبيقها ضمن قانون المالية لسنة 2023”.
الإشكال في علاقة ببرنامج “الاصلاحات”، حسب وزيرة المالية، هي الاملاءات التي فرضها صندوق على السلطات التونسية. نمصية حدّدتها اساسا في رفع الدعم الذي قالت انه مرفوض من رئيس الجمهورية الحريص ، حسب الوزيرة، على المحافظة على السلم الاجتماعي. وتم التوجه في قانون المالية للعام القادم نحو آليات جديدة للتحكّم في نفقات الدعم دون رفعه عبر الترفيع في معلوم ” الاتاوات” الموجّهة لصندوق الدعم بالنسبة للمقاهي والحانات والمؤسسات السياحية والملاهي وصناعة الخمور والمشروبات الغازية.
اللافت ان المديرة العامة لصندوق النقد كرستينا جورجيفا تحدثت منذ عام بالضبط عن كواليس توقيع الاتفاق على مستوى الخبراء مع السلطات التونسية من ذلك اصرار الوزيرة (وزير المالية) على “عدم العودة دون توقيع اتفاق يلبي تطلعات البعثة التونسية” وان الوزيرة صافحت جورجيفا بحرارة معبرة عن سعادتها بالتوصل لاتفاق. جورجيفا اكدت ان مضامين البرنامج تونسية وقالت “نحن في الصندوق مصمّمون على ان يعتمد كل برنامج اصلاحات على رغبة الدول في تحقيقه.
ووصفت كريستينا جورجيفا في حوار بتاريخ 23 اكتوبر 2022 الاتفاق مع تونس بالـ”نقطة المضيئة” معتبرة أن” تونس استحقت القرض بفضل برنامجها الذي شددت على انه تضمن 3 نقاط” :
”النقطة الاولى هي الاهتمام الذي توليه تونس لشبكات السلامة الاجتماعية وهذا أمر مهم للغاية وحظي بتفكير عميق وصمم بشكل يجعله يستهدف الفئات المعنية بدقة ويضمن حصولها على المساعدات ويحول دون استنزاف غير المحتاجين الموارد العامة..
النقطة الثانية: الاهتمام الشديد الذي يوليه برنامج الاصلاحات الهيكلية وهو ما يجعل الاقتصاد اقوى واكثر حيوية ويخلق فرص العمل اكثر عندما يكون الاقتصاد مفتوحا على المنافسة وحينها يسهل على رجال الاعمال والمستثمرين الحصول على التمويل والفرص المتاحة”.
وتابعت ” المسألة الثالثة هي ان برنامج الاصلاحات يولي قدرا كبيرا من الاهتمام لكيفية جعل تونس بلدا يعتمد على امكاناته في مجالات عدة من بينها الامن الغذائي… نحن نتطلّع بدورنا الى ان تعمل تونس على خوصصة بعض المؤسسات العمومية وبالفعل المبادرة جاءت من الجانب التونسي… نحن في الصندوق مصممون على ان يعتمد كل برنامج اصلاحات على رغبة الدول في تحقيقه… بالطبع الصندوق يدعم برنامج الاصلاح عبر التحليل والارشاد ونقول هذا الشيء صحيح وهذا غير صحيح ويبقى الخيار الاخير بيد الدولة”.
وتابعت ” الاتفاق انجاز مستحق وبامتياز للحكومة التونسية ولذلك صافحنا الوزيرة ( في اشارة الى وزيرة المالية على الارجح) بحرارة عندما اعلنا عن الاتفاق باعتبارها قالت منذ اليوم الاول انها لن تنصرف دون التوصل الى اتفاق يلبي تطلعات البعثة التونسية وهي سعيدة بأنها تفعل ذلك جنبا الى جنب مع الفريق الحكومي وانا ايضا سعيدة بما تحقّق لأننا دعمنا جهودها بقوة “.
تجنب الجدل
فجأة اصبح ما يسمى ببرنامج الاصلاحات مع صندوق النقد “املاءات” حاولت هذه المؤسسة المالية الدولية المانحة فرضها على السلطات التونسية التي رفضتها في الاخير “لحماية امنها الاجتماعي وللمحافظة على منظومة الدولة الاجتماعية المتواصلة منذ الاستقلال” وايضا “صونا للسيادة الوطنية”. قد تكتمل معالم هذه السردية الرسمية بعد اقالة وزير الاقتصاد سمير سعيد الذي تصفه قيادات من اتحاد الشغل بـ”الليبرالي المتوحش” في سجالات شهيرة معه اثر كل تصريح يدافع فيه عن “الاصلاحات الموجعة” وخاصة منها خوصصة بعض المؤسسات العمومية.
كان البرنامج حتى اعلان رئيس الجمهورية رفضه له برنامجا “تونسيا – تونسيا “شارك في اعداده 400 من ” خيرة ابناء الادارة التونسية”. بل ان نفس الوزيرة التي كانت تدافع عن ” تونسة” البرنامج وترفض أية توصيفات بخصوصه من قبيل املاءات او شروط او اكراهات الصندوق، اصبحت اليوم تنتقد محاولة الصندوق فرض ” املاءات” قالت ان الرئيس رفضها رغم ان مشروع قانون المالية للعام القادم يثبتها بقوة عل الاقل في ما يتعلق بمواصلة التخفيض في نفقات الدعم واجراءات التحكم في كتلة الاجور اساسا عبر ايقاف الانتدابات بشكل شبه كامل.
تتحدّث الكواليس بقوة عن توجه جديد قد تعتمده السلطات القائمة في علاقة بملف المفاوضات مع الصندوق. يقوم هذا التوجه على تمرير الاصلاحات او مضامين البرنامج المتفق عليه ” خلسة”. هذا سيمكّن من تجنب أي جدل ممكن بخصوصه ويفتح المجال نحو المرور لتوقيع اتفاق بلا كلفة سياسية وبلا مواجهات مع رافضيه واساسا الاتحاد العام التونسي للشغل .
من الصعب تعبئة الموارد المضمنة في ميزانية الدولة للعام القادم بعنوان قروض داخلية وخارجية في مشروع قانون المالية 2024 والمقدرة بـ28.2 مليار دينار دون التوصل لاتفاق مع صندوق النقد. سيناريو 2023 او الفشل في تعبئة موارد خارجية يعود الى غياب اتفاق مع الصندوق حسب سهام نمصية التي واجهها نواب على غرار رئيس لجنة المالية في تصريح لاذاعة “إي اف ام” يوم امس بالتأكيد على انهم لن يصادقوا على الاتفاق مع النقد الدولي ان تضمن اية املاءات وهذا لوحده مؤشر على وجود تحضيرات وراء الستار لتمرير “برنامج الصندوق” تحت غطاء قانون المالية 2024 .
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 اكتوبر 2023