الشارع المغاربي : تتسارع الخطى الحكومية الهادفة، بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي، لتمرير اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق بشكل ناعم من خلال تفكيكه الى قوانين عديدة شرع في اعتمادها منذ 2016 ومن آخرها القانون الافقي لتحفيز الاستثمار المزمع اعتماده هذا الشهر والذي يتسم بخطورة شديدة باعتبار انه سيفتح المجال لا فقط لتوسيع التبادل التجاري مع أوروبا لكافة السلع الزراعية والصناعية بل أيضا سيسمح للمستثمرين الأوروبيين والاجانب لاستباحة كافة قطاعات العمل الخدمية والإنتاجية دون قيود كمية او إدارية بما فيها التعليم بكافة اصنافه و المرافق والصفقات العمومية والأراضي الفلاحية. وبموجبه سيصبح ممكنا تغيير صبغة الأراضي الزراعية الخصبةوتحويل وجهتها من الأغراض الغذائية الى الأغراض الصناعية والسياحية فضلا عن الزراعات التصديرية الأجنبية كالزيوت والفواكه والزراعات الطاقية وكل ذلك على حساب أولوية تحقيق الامن الغذائي للتونسيين ومواردنا المائية الشحيحة والزراعات التصديرية التونسية وقطاع الفلاحة المحتضر بصفة عامة. ويلغي قانون الاستثمار الجديد شرط الزامية تشغيل التونسيين مما يؤكد ان الغرض منه ليس مقاومة البطالة بل فتح المجال للأجانب لمزيد تكريسها والضغط على الأجور باستقدام اليد العاملة الأجنبية فضلا عن منحهم الحوافز والامتيازات للسطو على أسواق تونس وثرواتها المادية والبشرية.
مجلس نواب الشعب في خدمة الهيمنة الأوروبية على تونس
للتذكير سبق لمجلس نواب الشعب اعتماد قانون السلامة الصحية وجودة المواد الغذائية وأغذية الحيوانات الذي يسمح لأوروبا باحتكار الأسواق التونسية في المجالات المذكورة من خلال فرض شرط الاستجابة للمعايير الأوروبية على السلع المنافسة بما فيها تلك المنتجة بتونس مما يؤكد ان «أليكا» تؤدي في واقع الامر الى إقامة حواجز جديدة امام السلع التونسية داخل الحدود الوطنية. هذا فضلا عن قانون الاستثمار وقانون استقلال البنك المركزي وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص وغيره من التشريعات الموجهة لخوصصة المرافق العمومية واعتماد القوانين والمعايير الأوروبية وتوفير الحوافز والإعفاءات والحماية المشطة للأجانب على نحو يمس بالسيادة الوطنية وبالأمن القومي التونسي وبكيان الدولة التونسية. وفي نفس السياق تجدر الإشارة الى ان الشركات الأوروبية المتخصصة في صناعة الادوية لم تعد بحاجة الى ترخيص تونسي لترويج سلعها في الأسواق التونسية وذلك بموجب اتفاق موقع سنة 2014 مع الديوان الأوروبي لبراءات الاختراع دخل حيز التنفيذ بأمر صادر بالرائد الرسمي عدد39 بتاريخ 16 ماي2017. ويترتب عن ذلك منح الجانب الأوروبي حق الانفراد بأسناد تراخيص الترويج والحماية للأدوية الأوروبية بتونس وهو ما يجرد تونس من احقيتها في اقتناء الادوية الأقل كلفة او تصنيعها محليا مما يلغي أي شكل من المنافسة ويفضي الى احتكار أوروبي للسوق التونسية سيمتد تدريجيا لكافة أصناف البضائع. وهكذا يتضح انه لا علاقة لـ «أليكا» بالتبادل الحر بل انها تفرض بدون مقابل شكلا جديدا من القيود والحواجز أمام السلع التونسية والأجنبية داخل الأراضي التونسية وذلك وفقا لقوانين تبنتها تونس والحال انها ستتسبب في ضرب سيادتها التشريعية والقانونية والقضاء على ما تبقى من نسيجها الانتاجي. وبهذه الأساليب الملتوية سيصبح هذا الاتفاق الخطير امرا واقعا في غضون السنة الحالية وفقا لتعهدات رئيس الحكومة في حين تستمر”المفاوضات” الوهمية كمجرد غطاء لهذا المخطط المرتبط بالصفقة المعروفة مع الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع التي تدعم يوسف الشاهد ماليا وسياسيا في افق الانتخابات القادمة مقابل تعهده بإعطاء الأولوية لهذا الملف وكذلك لاتفاق الهجرة و”الشراكة من اجل الحركية والشباب” الذي لا يقل خطورة لأنه يكرس السيطرة الأوروبية على ثروتنا البشرية بإرساء مبدا تسهيل الهجرة الانتقائية للكفاءات والطلبة والشباب التونسي المتعلم باتجاه أوروبا مقابل تحميل تونس وبلدان جنوب المتوسط أعباء وتبعات الهجرة غير النظامية. ولمواجهة هذه المخاطر لم يعد كافيا ان تواصل القوى والمنظمات والأحزاب الوطنية مجرد التنديد بسياسة تثبيت الهيمنة الأوروبية الغربية الشاملة على تونس التي يقع تكريسها من خلال الحكومة واللوبيات وقطاع الاعمال التونسي المرتبط مصلحيا بالخارج، بل علينا ان نستطلع سبل التصدي لهذه السياسات وبيان الخطوات العملية الممكن القيام بها لتحقيق هذا الغرض في الآماد القريبة والمتوسطة والبعيدة دون التقيد بالاستحقاقات الانتخابية وذلك سعيا للدفاع عن مصالح تونس العليا وحفاظا على حق الشعب التونسي في الحسم في مثل هذه القضايا المصيرية عبر الحوار الوطني والآليات الديمقراطية وبما يتماشى مع مقتضيات الدستور. ولا بد من التأكيد مسبقا انه لا توجد وصفات سحرية وفورية كفيلة بتمكين تونس من استعادة حقها في تقرير مصيرها ومراجعة خياراتها الاقتصادية وفقا لمصالحها سيما ان الامر لا يتعلق بمجرد ازمة اقتصادية ومالية عابرة بل يتنزل في إطار موازين قوة مختلة في العلاقات شمال جنوب تم تكريسها غداة الاستقلال خاصة بعد تخلي تونس بشكل مبكر عن التخطيط الاستراتيجي ومنوال التنمية المتصل به والقائم على إزالة الاستعمار الاقتصادي وبناء اقتصاد انتاجي. وسأقدم في ما يلي بعض الأفكار والاقتراحات التي سبق لي ان تطرقت اليها في كتابات او مساهمات خلال ندوات فكرية ومنها الندوة التي نظمتها مؤسسة “روزالوكسنبور” الأسبوع المنقضي في افق الجولة المقبلة من مفاوضات «أليكا» المبرمجة لآخر الشهر الجاري. وقد تم التركيز أثناءها على القطاع الفلاحي باعتبار حساسيته والمخاطر المحدقة به فضلا عن المخاوف الجمة التي يثيرها الاتفاق في صفوف الفلاحين والهيئات الممثلة لهم التي تعيب على الحكومة عدم اكتراثها بمعاناتهم وبالتهديدات المسلطة عليهم. وسنذكر أولا بالأوضاع المتردية للفلاحة التونسية ومشاكلها الهيكلية المتراكمة عبر العقود نتيجة الإهمال المتعمد من النظم والحكومات المتعاقبة منذ عقود فضلا عن استهداف هذا القطاع منذ مطلع التسعينات من قبل الاتحاد الأوروبي بشكل ممنهج لجعل تونس دولة تابعة للخارج في توفير حاجاتها الغذائية الأساسية الحيوية وكذلك حاجاتها من البذور فضلا عن تبعيتها التكنولوجية في مجال التصنيع الغذائي والتثمين الصناعي لثرواتها الفلاحية.
الواقع المفزع للفلاحة التونسية والمخاطر المحدقة بها
تظل الفلاحة قطاعا مركزيا بتونس من حيث مساهمتها بنسبة 8،5 بالمئة في الناتج المحلي الإجمالي وهي تستوعب 15 بالمئة من الناشطين رغم ما تعاني من تهميش رسمي يعود الى مطلع السبعينات بعد فشل تجربة التعاضد والتخلي عن أولوية تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي التي كانت احدى الركائز الأساسية للاستراتيجية التنموية لمرحلة الستينات. وظلت الدولة حريصة نسبيا منذ تأميم الأراضي الفلاحية على اتباع سياسة صارمة في مجال منع الأجانب من امتلاكها او الاستثمار فيها الا إذا كان ذلك على سبيل الكراء او في إطار شراكة وفي حدود ما يسمح به القانون. وفي غمرة التوجهات الليبيرالية لمرحلة التسعينات اتجهت تونس بضغط من المؤسسات المالية الدولية للاندماج في العولمة الزراعية القائمة على توزيع الأدوار وارغام بلدان العالم الثالث على إعطاء الأولوية للزراعات الصناعية والتصديرية القائمة على مبدا “الميزات التفاضلية”. وأدى ذلك الى مزيد تهميش صغار افلاحين الذين يعملون لتوفير حاجات السوق الداخلية من المواد الغذائية الأساسية الاستراتيجية. وأصبحت هذه الفئة التي تشكو أصلا من الهشاشة تعاني من تمييز سلبي ممنهج في مجال المياه واقتناء الأراضي والحصول على التمويلات والقروض الموجهة أساسا لكبار الفلاحين العاملين في مجال الزراعات التصديرية والصناعات ذات الصلة. ووفقا لدراسات قام بها الأستاذ الجامعي التونسي الحبيب العايب -المختص في الجغرافيا وعضو مرصد السيادة الغذائية والمحيط -استنادا الى بيانات صادرة عن وزارة الفلاحة بعنوان 2004 – 2005، هناك خلل كبير في توزيع الأراضي الزراعية الخصبة حيث يسيطر 3 بالمئة من كبار المنتجين العاملين في قطاع التصدير والمالكين لأكثر من مئة هكتار على 34 بالمئة من مساحتها الجملية في حين ان 97 بالمئة من صغار الفلاحين العاملين للأسواق المحلية يملكون اقل من 50 هكتارا ولا يشغلون سوى 34 بالمئة من الأرض علما ان مساحة مزارع غالبيتهم لا تتجاوز الخمسة هكتارات. ومن التبعات الكارثية لهذا الوضع تستورد تونس جانبا أساسيا من حاجاتها من الحبوب بمعدل سنوي يمكن ان يصل في السنوات العجاف الى ثمانين بالمئة من القمح اللين وأربعين بالمئة من القمح الصلب مثلما تستورد أكثر من تسعين بالمئة من حاجياتها من البذور الفلاحية المختلفة. وكذلك الشأن بالنسبة للمكونات الأساسية والمواد الأولية ومواد التجهيز للصناعات الغذائية كالحليب والخضر والفواكه والتثمين الصناعي لزيت الزيتون وغيرها مما يؤثر على كلفة الإنتاج الفلاحي بتونس ويجعله غير قادر عن تلبية الحد الأدنى من حاجاتنا الوطنية وعن تحمل المنافسة الخارجية حتى في ظل الحفاظ على الحماية الديوانية. وفي ظل هذه الظروف لا شك ان تحرير المبادلات مع أوروبا والخارج في مجال السلع والأنشطة الزراعية سيقضي كليا على الزراعات الغذائية التونسية خاصة في ظل ما تحظى به الفلاحة الأوروبية من دعم كبير فضلا عن انتاجيتها التي تساوي سبع مرات الإنتاجية التونسية، هذا إضافة لسياسة اغراق الأسواق التي تتوخاها أوروبا بتعمدها تسويق منتجاتها بأقل من كلفتها الحقيقية بهدف الحفاظ على هيمنتها واحتكار الأسواق الخارجية في المجالات الغذائية الحيوية. غير ان الخطر الأكبر يكمن في ان القانون الافقي للاستثمار سيفتح المجال للشركات المتعددة الأطراف الأوروبية وشركائها المحليين للسطو بأساليب ملتوية غير مباشرة على مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة وتحويل وجهتها نحو الزراعات الصناعية والطاقية مثلما حصل في افريقيا جنوب الصحراء حيث أدت هذه السياسات الى الكوارث والمجاعات وفقدان الفلاحين المحليين أراضيهم واحالتهم على الهجرة والبطالة. وفي الواقع شرع منذ 2016 في تطبيق هذه السياسة بتونس في مناطق بالقيروان وقابس ودوز وفقا لما كشف مقال صادر بتاريخ 27 فيفري 2016 بصحيفة “لا براس” علما ان الصفقة الموجهة للتصدير ابرمت مع شركة إيطالية لإنتاج الميثانول الطاقي المستخدم كوقود في البلدان الغربية.
كيف يمكن التصدي لهذه المخاطر وللاتفاقيات والقوانين المضرة بمصالح تونس؟
في النقاط الموجزة التالية نعرض بعض الخطوات والتدابير العملية المقترح على القوى والمنظمات الوطنية تبنيها لتقديمها كبدائل ممكنة للراي العام ولطرحها في إطار الحوار الوطني القادم في افق الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وسنعود اليها بأكثر تفصيل في كتابات لاحقة: أولا: الطعن امام المحكمة الدستورية بعد احداثها في دستورية الإطار القانوني والاستراتيجي المنظم للعلاقات بين تونس والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع ولاسيما الترسانة القانونية والاتفاقيات المبرمة بعد اعتماد الدستور الجديد لسنة 2014. ويمكن في هذا الإطار التطرق الى احقية تونس في تفعيل البنود التي تخول لها الخروج من الاتفاقيات المضرة بمصالحها ومنها اتفاقية 1995 المبرمة مع الاتحاد الأوروبي التي تشكل في واقع الامر الأساس الفعلي لمفاوضات «أليكا». ثانيا: اقتراح البدائل الممكنة لهذه السياسات بعد ثبوت فشلها وهي موجودة ومستمدة من دراسات وبحوث لمختصين وجامعيين تونسيين تم تجاهلها من قبل السلطات المتعاقبة بعد الثورة. ثالثا: فتح حوار مع الشركاء الدوليين الرئيسيين لتونس لأقناعهم بضرورة وضع حد لتدخلاتها في شؤون تونس الداخلية وفي مساراتها الانتخابية حتى يتسنى رد الاعتبار للانتقال الديمقراطي باعتباره الإطار الوحيد الكفيل بتحقيق التداول الديمقراطي السلمي على السلطة وإعادة الكلمة الفصل للشعب التونسي لتحديد خياراته الاقتصادية والدبلوماسية وتقرير مصيره ومستقبله بما يتلاءم مع دستوره ومصالحه العليا.
صدر باسبوعية” الشارع المغاربي” في عددها الأخير.