الشارع المغاربي:
تصدير
”إنّ العمل بالرأي الواحد مذموم، ولو بلغ صاحبه ما بلغ من الكمالات والمعارف” خير الدين التونسي، مقدمة أقوم المسالك، ص 112
التواصل مسألة على درجة كبرى من الراهنية لما يشهده الوضع العام الوطني اليوم من انبتار لجسور التواصل وقطيعة وتوتر وعنف رمزي بين الفرقاء جميعا بما يدل على وجود أزمة تواصلية حقيقية بالبلاد ولاسيما بين السلطة والسلطة المضادة منظماتٍ وجمعياتٍ وأحزابًا وشخصياتٍ، فهل من سبيل لإيجاد تواصل فعلي بين شركاء الوطن؟ وما هي الشروط الضرورية لذلك؟ وهل أنّ هذه الشروط مجرّد شروط مادية أم أنّها إلى ذلك شروط إيطيقية لا يمكن لأيّ أفق خلاص أن يتشكل إلاّ في ضوئها وبمنأى عن منطق “الدّعوى” والتمركز حول الذات؟
التواصل بالطبيعة والمأتى يعني في دلالاته الدنيا المشاركة الحاصلة بالتبادل أو بالتنافس وبالتالي الإبلاغ المتبادل للمقاربات والأطروحات والخبرات والبرامج، وهو لايخص هنا علاقة الإنسان بالإنسان بوصفه فردا فحسب وإنما وبالأساس بوصفه طرفا في حياة المجتمع، بكل ما يرتبط مع ذلك من معاني التفاهم والتوافق والانسجام وإن على قاعدة الصراع على الأفكار والمصالح، ومن ثمة فإنّ التواصل شرط رئيس من شروط المواطنة إن لم يكن من الاستملاءات المتأكدة للضرورة فيها.
الأزمة التي تتخبط فيها البلاد، وإن كانت أزمة هيكلية، إلاّ أنّها في واجهتها الرئيسية أزمة عقل سياسي مركّب أبان عن إفلاسه إيطيقيا ونقديا، وآية ذلك تجاهله للحقائق المريرة وتماديه في تخريبه لها بإستراتيجيات الخداع بدلا من الاعتراف بها، إفلاس إيطيقي، إذا كان ” القديم” محلّ إجماع فيه، نُخبا ومجتمعا، فإنّ ” الجديد” فيه قد صار هو الآخر في مرمى سهام السلطة المضادّة كلها، على اختلافاتها وحتى على تناقضاتها، بعد أن تبيّن أنه بدوره “سرابٌ خُلّبٌ” أو بالأدنى، ” إيتوبيا” تحلّق في سماء الوهم دونما أدنى مرتكزات في الواقع ليس فقط محلّيا وإنّما أيضا إقليميا ودوليّا، وإفلاس نقدي لأنّ ” الجديد”، كما ” القديم” لم ينجح في مغادرة “الذهنية الأوتوقراطية”، و” الذهنية المسيانيّة “: ذهنية “المهدي المنتظر” و”القائد المخلّص” و”الزعيم الملهم” و”المجاهد الأكبر”و”السياسي- النبيّ”!!! وذهنية الإرث السيّء لـ “الإمام النّاطق”، يستوي في ذلك، والمصطلح للمفكّر المغربي عبد الله العروي، “الشيخ”، و”الزّعيم” و”التكنوقراط”، وكل سياسي سفيه/ بولشيت Bullshit، و” مُتنبي” دعيّ، ينزاح معه مفهوم السياسة من فنّ ممارسة المُمكن إلى ممارسة شتى أنواع المُخاتلة والتحيّل ومختلف فنون الالتواء، وتمسي لديه السياسة مُرادفا لمدلول كلمة “بوليتيك” في الاستعمال التونسي الشائع.
والسياسيّ السفيه أدهى من الكذّاب، ونحن لم نكذب أبدا، على حد تعبير ألكسندر كويري Alexandre Koyré ، بالقدر الذي نكذب به اليوم، كما أنّنا لم نكذب على هذا النّحو السّفيه والنسقي والراسخ كما نكذب، هنا والآن مرّة أخرى، ولم يكن الكذب وقِحا ومُمنهجا كما هو اليوم ؟
ومتى علمنا أنّ من أبجديات التحديث السياسي والمؤسساتي في الفكر الإصلاحي التونسي منذ أواسط القرن التاسع عشر ” أنّ العمل بالرأي الواحد مذموم، ولو بلغ صاحبه ما بلغ من الكمالات والمعارف”،،، و”أنّه لا يسوغ أبدا أن يسلّم أمر البلاد لإنسان واحد، بحيث تكون سعادتها وشقاوتها بيده، ولو كان أكمل الناس وأرجحهم عقلا”، فهل يكون تفكيرنا ” تفكيرا مستقيما” وبالتالي تاريخيا أم ” تفكيرا أعوجَ” وبالنتيجة لا تاريخي متى راهنّا على الأوتوقراطيّة بديلا عن الديمقراطية وعلى دولة الفرامانات بديلا عن دولة القانون والمؤسسات ؟
وعليه فإنه من غير المُجدي، ونحن، شئنا أم أبينا، شركاء في الوطن، أن يظلّ صاحب القرار منا أو صاحب القرار المضادّ، ” متصامما أصمّ”، ” طائرا محكيّا” لا يرى في المُختلف إلاّ ” آخَرَ صَدًى” أو” جحيما” و” زيفا وبُطلانا وخُسرانا ولعنة”، الحوار إيطيقيا ” العقل الثاقب اللطيف”، وإذا كانت الرغبة في الحقيقة، وتثمين النقد واحترام حرية التفكير والثقة في التواصل ونبذ العنف المادي والرمزي وإن كان مرتبطا بجهاز الدولة، قيما لا يمكن أن تفارق فعل التفكير، مطلق التفكير وبخاصة التفكير السياسي، فإنّها تشكّل إيطيقيا تلازم بالضرورة “التدبير السياسي ” وإدارة الشأن العام والحوكمة الرشيدة لشؤون الدولة، وهل من معنى للرغبة في الحقيقة والإرادة الصادقة للإصلاح دون تبادل بين شركاء الوطن، كما بين البشر جميعا، يستفيد من تنوعهم واختلافاتهم، بعيدا عن منطق التهوين والتشكيك والاتهام والتخوين؟
وإذا اعتبرنا الحوار، الحوار في مطلق مدلولاته وبخاصة الحوار الوطني بالمعنى العام، قيمة أساسيّة في إيطيقيا “التفكير” و”التدبير”، فهل يستقيم هذا الحوار دون أن يحتلّ فيه النقد، والنقد الذاتي، وثقافة المكاشفة وإن على مدارات الرُّعب، والمصارحة، منزلة رفيعة في علاقة الذات بذاتها، سواء كانت هذه الذات في السلطة أو في السلطة المضادّة، السلطة المضادة الاجتماعية والسلطة المضادة السياسية، وفي علاقتها بالآخرين.
وإذا كان ذلك كذلك فإنّ لهذا الحوار قبل أن يكون “حوارا تخارجيا” قواعد إيطيقيّة ليس له أن يتحوّل من حيّز الوجود بالقوّة إلى حيّز الوجود بالفعل إلا بها قطب الرحى فيها أن “تبدأ” الذات المحاورة، طوعا أو كرها، “بتعليم نفسها” بمعنى أن تتخلّى منهجيا وأخلاقيا على الأقل عن “عقليّة المِشْجَب” وبالتالي تعليق الإخفاقات على الآخر، وتعود على ذاتها لمراجعة المقاربات التي تتوفر عليها ومساءلتها من خلال “الحقيقة الواقعة” أي واقع التجربة العملية والتجارب المقارنة، بلا مسبقات إدانية ولا مسلمات دوغمائية ولا مصادرة على المطلوب.
إنّ الديمقراطية الفتيّة التي أرادها التونسيون والتونسيات ديمقراطية تشاركية، على تعثّرها، وتعطلها، وما جابهت من صعوبات وما انتهت إليه من انتكاسات وتجاذبات وأزمة ثقة هيكلية بين شركاء الوطن، تبقى استجابة واضحة وصريحة لانتظارات التونسيات والتونسيين في ضمان استقرار البلاد ووحدتها الوطنية والحد من الاحتقان السياسي والتوتر الاجتماعي والتشاور حول “أقوم المسالك” في الخروج من مأزق الطور الانتقالي المتعثر الذي طال بالبلاد والعباد، في كنف احترام الحرّيات والمؤسسات وإلا فإنّه النفق، نفق تفكيك المؤسسات وانتهاك الحقوق والحرّيات ولا خلاص.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 19 سبتمبر 2023