الشارع المغاربي-عيسى جابلي:إلهي يا حبيبي، أنا واحد من أبنائك الذين رميتهم في الشمال الإفريقي في مزرعة تونس المحروسة. أتقول لي: لقد عهدتها بلداً عظيماً فكيف تسميها مزرعة؟ معك حق يا إلهي، ولكن دعني أحدثك عن أبرز زعمائها الخالدين المخلّدين الّذين تحسدنا عليهم الأمم والبلدان، حتّى صرنا نرميهم كل يوم بالكمّون إذا أقبلوا، ونرشّهم بالماء إذا أدبروا مخافة أن يصيبهم مكروه وتُحرم المزرعة الموقّرة من تدبيرهم وعبقريتهم.
كان ابن آوى ناسكاً طيباً في “كتاب كليلة ودمنة” أو كان في أمثولة أخرى محتالاً على الحمار من أجل الأسد الأجرب، لم يفوّت الفرصة حتّى حصل على قلب الحمار الغبي وأذنيه، إلى أن بُعِث في القرن العشرين في مزرعة تونس المحروسة، وهو حالياً من أقدم الكائنات التي تقطنها، عاصر الحرب العالمية الثانية وعاش النكبة والنكسة وحرب الأيام الستة وشهد استقلال تونس وعاش التجربة الاشتراكية وأحداث الخميس الأسود وانتفاضة الخبز وثورة الضباط الأحرار وتأميم قناة السويس، ونظّم انقلابا فاشلا على بورقيبة ليعيش من الغد انقلاب بن علي، وشهد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج الأولى وحرب الخليج الثانية وأحداث الحادي عشر من سبتمبر وسقوط بغداد والثورة التونسية وسقوط الترويكا والحرب الروسية الأوكرانية وحكومة طالبان..
وهو حسابيا أقدم من مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية “إ. ت. ت” والشركة التونسية للكهرباء والغاز، وأقدم من الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري، وأقدم من الملعب التونسي ومجلة الأحوال الشخصية، بل إنه يكبر الدولة الوطنية بخمسة عشر عاما بالتمام والكمال..
كان همه منذ فتح عينيه على الدنيا أن يعود بتونس إلى ما قبل كتاب “كليلة ودمنة” بقرن ونصف، فسُرّته معلّقة في القرن السابع للميلاد لا يبرحه غير أنّ بقية جسده في القرن العشرين. ومثله كمثل من يجلس على كرسي في “مانهاتن” بينما يضع قدميه في صحراء الربع الخالي. ولتحقيق غايته بذل ابن آوى كل طاقاته في التحيل فعقد الأحلاف المستحيلة وأبرم صفقات لا يقبلها عقل: يجلس في أقصى اليمين ويمضي عهوداً مع أقصى اليسار، وفي الأثناء يخطب ودّ الوسط وعينه على الماضي بينما رأسه في المستقبل السحيق، يمشي إلى الأمام ورأسه مشدودة إلى الوراء. يتلو على قطيعه الآيات والأحاديث ويقوم بنقيضها تماما، يعدهم بالجنة ويرميهم من الغد في سقر فيسبحون باسمه ويطبطبون على كتفه تبرّكا وتقديراً.. إنه خلطة عجيبة من اللامعقول وقد تشكل ابن آوى يسعى على قدمين بدل أربع.
أمّا مالك الحزين فيصغر ابن آوى بثلاثة أعوام لا غير، لذلك كانت علاقته بابن آوى وأشباهه متينة لا يكدّرها مكدّر سوى ما ينشب أحيانا بين الأخ الأكبر وأخيه، أو الخلّ وخلّه من مناوشات قد تصل الى حد هراش خفيف، غير أن مصيرهما اليدُ في اليدِ والود بالود والاحترام بالاحترام، رغم أن مالك الحزين قادم من أقصى اليسار متعثرا يمشي على هزائمه وفضائحه، فها هو معارض “شرس” لنظام “زعبع”، يدير حزبا تقدميا “معارضا” له، وجريدة ذات “موقف” تندّد بجرائمه في حق المعارضين وتعذيبهم وتشريدهم ومصادرة حرياتهم والتأسيس للاستبداد ودولة الحزب الواحد، ولا بأس من أن يحصل في الأثناء على تمويل سنوي عمومي من النظام نفسه، وها هو ينظّم رفقة جماعة منهم شرذمة من أولاد ابن آوى إضراب جوع مفتوح يندد بجرائم النظام، حتّى يمدّ نفسه للنظام ذاته ليلة الانفجار العظيم لينقذه من السيل الّذي لم يمهله حتى جرفه فطار بعيدا عن المزرعة. ثم ها هو يعلن مباشرة قطيعته مع بنات آوى ويقول فيها ما لم يقل مالك في الخمرة، ويصرح بأن ابن آوى هو أول من رفع السلاح ضد الدولة وتورط في اغتيال أبناء المزرعة، ويعلن عليه وعلى رهطه حربا ضروسا، إلى أن تفاجأ به أهل المزرعة “يتهوّر” طالبا الاعتذار من “زعبع” بدعوى أنه كان على حقّ، ويمدح ابن آوى ذاته ويرتمي في حضنه ليشكّل معه جبهة “الخلاّص” الذي يقول مراقبون إنه (الخلاّص) لا يتلاءم مع صلعته ولا مع هيبته، فيمضي في طريق قربه من ابن آوى، ويتنقل بين المنابر يمدح خصاله متغنيا بانتصار ابن آوى للديمقراطية والحرية والخير والحب والسلام بدليل الحمامة الوديعة الزرقاء التي فردت جناحيها فضمت إليها أطيافاً من السنوريات والكلاب الضالة والقردة المشاكسة والخنازير القميئة.
والجامع بين ابن آوى ومالك الحزين أن كلاهما يبحث عن مجد في الوقت الضائع، إذ عاشا زمنيهما ففشلا فيه ثم عاشا زمني أبنائهما ففشلا فيه ثم ها هما يستوليان غصبا على زمن أحفادهما المشردين في شتى أصقاع البلاد مفقّرين مغبونين مسلوبين تائهين حائرين، دون أن يكلاّ أو يملاّ أو يتركا فرصة لهم ليقولوا كلمتهم. يغتصبون التاريخ والجغرافيا والعقل والمنطق والطبيعة ليكونا زعيمين رغم أنوف الكل ويبذلان ما يستطيعان لتحقيق ذلك، وإن كان الحلم على جثث الشهداء والمغدورين والمغتالين. ارتدى ابن آوى بدلة جديدة وربطة عنق وجدد طقم أسنانه، فلمعت ابتسامته المخادعة الخبيثة ووعد الناس بأنه لن يترشح لأي انتخابات في المزرعة ومن الغد صار رئيسا للبرلمان، بينما ارتدى مالك الحزين تبانا أحمر وراح يفسّح كلابه على الشاطئ مهزوما. ولكن ها هو يعود إلى بدلته القديمة ويحرص على تخليص رأسه من الشعر والزغب كي يبدو أكثر أناقة واضعا اليد في يد ابن آوى ليسودا في المزرعة معا مجدداً.
أرأيت يا ربّ أنني على حق إذ خاطبتك من المزرعة؟ اممم.. أتقول لي إن بهيمتين لا تشكلان مزرعة؟ معك حق يا ربي حبيبي. فقد نسيت أن أذكر لك ثالث الثلاثة. فاسمع مني ولا تسمع عني إني قائل لك حقا في بقية الحكاية.. لقد نسيت أن أخبرك أن ابن آوى ومالك الحزين سمعا كائنا في القصر الجمهوري يطلق عليهما هذين الاسمين فتعجبا وداخا ودخل بعضهما في بعض ثم استويا وفكرا له في اسم يليق بالمزرعة ولا يخرج عن قانونها، فتأملاه فبدا لهما كما يبدو الضبّ في البرية مرفوع الهامة منفوخا مزمجرا غاضبا مكفهرا كيوم أزرق متفجرا كزوبعة يلفظ الزبد كبحر هائج. وأما أنا فقد بدا لي الاسم منطقيا مستوفيا لقوانين المزرعة وأعرافها وتقاليدها. فرحت أبحث عن الضب فإذا هو زعيم تاريخي معروف، وليس أدل على ذلك من ذكره في السنة النبوية إذ جاء في مسند حذيفة بن اليمان في كتاب “مسند البزّار”، المنشور باسم “البحر الزخّار” عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إنَّ الضَّبَّ أُمَّةٌ مُسِخَتْ دَوَابَّ فِي الْأَرْضِ أَوْ إِنَّ الضَّبَّاتِ دَوَابُّ مُسِخَتْ فِي الْأَرْضِ”، فهل أحد أعلم من رسولك الكريم أن يكون ضبّنا المفدّى في الأصل أمة ولكنها مُسخت ضبّاتٍ؟ ولا شكّ يا إلهي الأعظم في أنّ المزرعة قد اقترفت ذنبا عظيما أكبر من أن يغتفر حتى صار على رأسها الضبُّ. فهذه الأمة تحلم باليسار وتفرز اليمين، تنظر إلى الغد وأقدامها تسير إلى الوراء، تسخر من الضب ثم تصطفيه، وتمدح غيره ثم ترميه في سلة المهملات. إنها أمة “كلبة” لا يقرّ لها قرار وقد استحقت سخطك وغضبك وعقابك فسلطت عليها – عَظُم شأنك – الضبّ ملكا.
ولقد بحثتُ، يا إلهي، عن فضائل الضب، وفتشت عن مزاياه فوجدته ذكيا في اختيار حفرته التي ينتقي مكانها بعناية، ويحرص على أن تكون تحت نبات الرّمث كي يسهل اهتداؤه إليها، ولكي يستفيد من ظلها في الحر، ووجدته لا يصاحب إلا العقرب السوداء، يسمح لها بمقاسمته السكن في جحره ويقدم لها العطايا من خنافس وغيرها لتصدّ عنه هي بدورها أعداءه من البشر والحيوانات. ثم إذا هو مضرب للأمثال في البله والحيرة والضلال فتقول العرب “أبلهُ من ضب” و”أحير من ضبّ” و”أضلّ من ضبّ”، ومن طبع ضبّنا المفدّى التيه والحيرة والنسيان والحياد عن كل الطرقات، والفضل، كلّ الفضل، لك كيف صورته على هذه الصفات العجيبة التي تحسدنا عليها الأمم. ولكن الأعجب أيضاً أن العرب تقول “أعقّ من ضبّ” ذلك أن صغاره إذا فقست ظنها نوعا من أنواع أحناش الأرض فيقتلها واحدا واحدا ولا ينجو منه إلا ما فرّ بجلده منه. ولقد حافظ الزعيم الضب على هذه الصفة الحميدة بفضل منك وتوفيق إلى أيامنا.
أرأيت جل جلالك أننا في مزرعة تعمرها البهائم من ابن أوى إلى مالك الحزين إلى الملك الضب ومن جاورهم بإحسان إلى يوم الدين من جرذان وضباء وحمير وحشية وصراصير وذئاب وثعالب وأفاع وعقارب وكركدنّ وفيلة وكلاب برية وغيرها مما لو فصّلتُ فيه القول لبلغت أحرفي مشارق الأرض ومغاربها ونفد حبري.. كل ذلك وأنت يا ربي حبيبي تستنكر عليّ العيش في هذه المزرعة السعيدة في زمن الضب وابن آوى ومالك الحزين، ثمّ تتوعّدني بعد كل هذا بحساب أليم يوم الواقعة.. أَفَبَعْدَ هذا الحساب يا ربّي حبيبي حساب؟
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 جوان 2022