الشارع المغاربي-بقلم: عربي الوسلاتي: الوضع الذي تعيشه البلاد لم يعد قابلا للاحتمال. وحالة الضبابية والجمود السياسي التي تطبق عليها من كل حدب وصوب تدفع باتجاه الخوض في كل الاحتمالات حتى المخيفة منها. البلاد تقف أو تكاد على حافة الهاوية والانفجار والأرقام والمؤشرات توحي بأنّ الرصيد أوشك فعلا على النفاد وبأنّ الانتظار أكثر يعني موتا سريريا للبلاد والعباد. هذا ربمّا ما يفسّر تسارع الخطوات داخل جبهة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي مرّ دون انتظار الى إعلان البيان رقم واحد والذي سيكون هذه المرّة تحت عنوان الخيار الثالث. خيار يلغي منظومة ما قبل 25 جويلية ولكنه كذلك سيجبّ ما بعدها.
الأمين العام للمنظمة الشغيلة نور الدين الطبوبي تخصّص في الفترة الماضية في قرع جرس الانذار من الخطر الداهم الذي يطاردنا. فبعد أن نبّه سرّا وعلانية لثورة جديدة آتية بسرعة البرق تقودها البطون الخاوية أعلن عن تفعيل مراسم الخيار الثالث.
خلال كلمته التي ألقاها بمناسبة إحياء الذكرى 69 لاغتيال الزعيم فرحات حشاد كشف نور الدين الطبوبي أن الاتحاد اختار المضي في «خيار ثالث». خيار مغاير لما قبل 25 جويلية ولما بعده قائلا إن «القطار انطلق ولن نبقى مكتوفي الأيدي وبوصلتنا الخيارات الوطنية وسنلعب دورنا الوطني مع كل الوطنيين من منظمات وطنية وأحزاب سياسية وشخصيات وطنية والذين هم كُثر وانطلقنا منذ مدة في خيارنا الثالث ومن يريد الانضمام مرحبا به في خدمة تونس».
الكلمة كانت بمثابة إعلان صريح عن بداية تصحيح جديد لمسار الاصلاح الذي انطلق يوم 25 جويلة والذي لم يؤت أوكله هو الآخر على الاقلّ لحدّ الآن. والخيار الثالث الذي أعلن عنه الطبوبي هو ربّما آخر مسمار يدقّ في نعش منظومة العشرية السابقة وكذلك هو إنذار شفاهي للمنظومة الجديدة التي بصدد التشكّل على حدود دولة 25 جويلية.
الطبوبي لم يكشف عن ملامح خياره الثالث ولم يغص كثيرا في جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولكنه ألمح الى بعض عناوينه الرئيسية: القطع مع المنظومة القديمة والوقوف في وجه المنظومة الجديدة والمرور الى لقاء وطني تصعد على بنوده ومفاهماته جبهة وطنية لقيادة غمار المرحلة القادمة.
في معرض كلمته التي قد تكون مفصلية في المرحلة السياسية الحالية التي تعيشها البلاد قال الطبوبي ان غياب التشاركية والتفاعل مع القوى السياسية والاجتماعية الوطنية لن يفضي سوى إلى تحويل الشعب إلى كيانات متنافرة ومتناحرة عاجزة عن البناء المشترك وعلى التعايش السلمي في إطار الاختلاف الشرعي والمشروع مضيفا أنّ بناء الديمقراطية واستكمال مسارها لا يستقيم من دون وسائل ديمقراطية ومن دون تطوير ثقافة الحرية والمواطنة وأن من أهمّ هذه الوسائل الفصل بين السلطات، وتنقيح القانون الانتخابي، ومراجعة قانون الأحزاب والجمعيات والدعوة لانتخابات سابقة لأوانها تكون ديمقراطية وشفّافة، ومراجعة مجلة الجماعات المحلية والقوانين المنظمة للهيئات الدستورية وفي مقدمتها الهيئة المستقلّة للانتخابات وتفعيل دور الهيئات الرقابية وإيجاد الصيغ الكفيلة بضمان بعث محكمة دستورية مستقلّة فعليا وغير خاضعة للتّأثيرات السياسية.»
الطبوبي اكد عزم الاتحاد «على توسيع التشاور بالتنسيق مع الأطراف والمنظّمات التي يتقاطع معها في الثوابت والمبادئ للدعوة للقاء وطنيّ يُثمِرُ قوّة اقتراح سياسية واجتماعية وحقوقية ومدنية لا يستهان بها بمعيّة شخصيّات وطنيّة ثابتة يؤسّس لتوجّه وطني ثالث عنوانه الإنقاذ في كنف السيادة الوطنية».
هذا الخيار القائم على فكرة اللقاء الوطني يُعيد الى الأذهان سيناريو الحوار الوطني الذي جاء لإنقاذ البلاد في 2013 من فتنة الحرب الأهلية بعد غرقها في مستنقع الدم والاغتيالات. الحوار الذي قاده آنذاك الرباعي الراعي والذي بفضله وصلت تونس مؤقتا الى برّ الأمان يراه الطبوبي اليوم الخيار الأنسب لإخراج تونس من أزمتها الحالية. رؤية لها ما يدعمها ويقوّيها فالظرف الحالي لم يعد يحتمل مزيدا من المهاترات والمراهقة السياسية كما أنه لم يعد يحتمل مزيدا من التشتّت والانقسام وهذا ربمّا ما يفسّر الدعوة لتشكيل جبهة وطنية «تجمع كلّ القوى الحريصة على السيادة الوطنية والمؤمنة بدولة الاستقلال والمتمسّكة بقيم الحرية والتقدّم الاجتماعي وبالحريات الفردية والجماعية والعدالة الاجتماعية».
يرى الأمين العام للاتحاد التونسي للشغل أن «تدابير 25 جويلية كان يمكن ولا يزال بإمكانها أن تكون خطوة حاسمة على درب تصحيح المسار الديمقراطي وإعادة الاعتبار لأهداف ثورة 17 ديسمبر 14 جانفي وما زلنا نعتقد فيها مسلكا يُخرج البلاد من النفق». لكنه في المقابل يتمسّك بأنّ البناء لا يمكن أن يكون في العتمة ومن دون خارطة طريق تضبط المهام والأولويّات وبإجراءات عملية تنهي حالة التردّد والغموض وتفتح الآفاق لرسم ملامح تونس الجديدة على أساس ثوابت الجمهورية المدنية الديمقراطية والاجتماعية.
خيار الطبوبي الثالث جاء للتحذير من فشل تجربة 25 جويلية ومن تعطيل تحولها الى مسار تصحيحي معتبرا أن ذلك يعبد الطريق لعودة المنظومة الفاشلة ولانتشار الفوضى خاصة ان البلاد تَعيش مُنعرجا قال انه لا يعلم مالاته وانّ الثابت أنّ اليأس بلغ مَداه مؤكدا ان مظاهر العصيان باتت تهدّد بانفجار غير محمود العواقب مضيفا ان كلُّ المؤشّرات تُومِضُ أحمرَ مُنذِرَةً بخطر داهم.
الاتحاد العام التونسي للشغل متمسّك بأنه لا يمكن لتونس النهوض بساعد واحد أو بفلسفة الحاكم بأمره. على هذا الأساس يرفض الاتحاد احتكار جميع السلط بيد شخص واحد مهما كانت رمزيته وشعبيته فضلا عن رفضه فكرة البناء القاعدي القائمة على تهميش مؤسسات الدولة وتجريدها من صلاحياتها. ولأنّ رئيس الجمهورية قيس سعيد مصّر على الذهاب عنوة في هذا النهج فإن الخيار الثالث جاء ليقطع بالتالي مع المنظومة الحالية التي سجنت نفسها في مربّع التردّد والتخبط والعشوائية.
الخيار الثالث لا يتصيّد المنظومة الحالية فحسب بل يضع حدّا نهائيا للمنظومة القديمة بكلّ مكوناتها وتموجاتها حيث قال الطبوبي «أن الاتحاد لا يلتقي سوى مع من يتقاطع معه في نفس المبادئ ولا يلتقي مع الأشخاص التي تؤمن بسفك الدماء أو مع الذين ساهموا في تفقير الشعب التونسي وتجويعه» في إشارة واضحة لحركة النهضة ولكل أذيالها.
مرور نور الدين الطبوبي من مرحلة الترقّب والتوسّم في مشروع قيس سعيد الى مرحلة الصدّ يعني الدخول في مواجهة علنية مع رئيس الجمهورية ويعني كذلك استعدادا لحشد كل القوى الوطنية للوقوف في وجه المشروع الرئاسي القائم على القاعدة الشعبية والبناء القاعدي وفلسفة التنسيقيات. وهذا ما يستدعي جبهة وطنية واسعة تضمّ كلّ الأطياف وكل القوى والكفاءات التونسية.
لم يتحرّج الطبوبي من الكشف عن طبيعة الدور الذي سيلعبه الاتحاد في المرحلة القادمة كونه قوّةِ اقتراح وتوازن ونضال وضغط وكفاعل أساسي في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. الآن بقي علينا الانتظار كيف ستكون تحرّكات الاتحاد في هذا الاتجاه وأيّة خيارات سيسلك وأيّة ضمانات سيطرح في انتظار تفعيل مراسم الخيار الثالث.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 ديسمبر 2021