الشارع المغاربي: أبدى الكثير من المراقبين تفاجئهم اثر قرار رئيس الجمهورية قيس سعيد تكليف الناشط السياسي والوزير الأسبق إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة. ولعل ما يبرر هذا التفاجئ هو ما أدى إليه دستور تونس الجديد من إبعاد أهم الفائزين في الانتخابات التشريعية الأخيرة بعد سقوط حكومة الحبيب الجملي وتكليف شخصية سياسية شاركت في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة ولم يكن الحظ حليفها في كلتا المناسبتين. لكن رغم ذلك أصبحت هذه الشخصية مبوبة لحكم البلاد.
كيف يمكن تحليل هذا النشاز الديمقراطي من الجانب السياسي والاقتصادي في علاقة بالدور المحوري الذي يلعبه الاتحاد الأوروبي في المنطقة خاصة منذ قمة «دوفيل» إلى اليوم وذلك سواء بطريقة مباشرة أو عبر تحريك «لوبياته» المحلية. لمزيد تسليط الضوء على هذا المشهد لابد من التذكير مجددا بقمة «دوفيل» المفصلية للسبعة دول الغربية الكبرى التي انعقدت بفرنسا في ماي سنة 2011 والتي أسست لتطويع الثورة التونسية بالذات سعيا لتحقيق الرهان الإستراتيجي الأوروبي لتعزيز نفوذه في منطقة جنوب وشرق المتوسط التي خطط لها منذ قمة روما المؤسسة للمجموعة الأوروبية في سنة 1957.
من أهم ما جاء في هذه القمة هو التوقيع من طرف الجانب التونسي على تعهد بعدم الخروج من الاتفاقيات التي تمت بين الطرفين منذ اتفاق الشراكة الأول في سنة 1969 ثم الاتفاق الثاني في سنة 1976 والثالث في سنة 1995 علاوة على مشروع اتفاق «الأليكا» الرابع الذي يطبخ حاليا.بالمقابل تعهدت مجموعة السبعة كتابيا بالعمل على استرجاع كل الأموال التونسية المنهوبة والمُهرّبة بالخارج زيادة على تخصيص مبلغ 25 مليار دولار أمريكي في صيغة قروض مُيسّرة يتم صرفها بالتناصف بين تونس ومصر على مدى ثلاثة سنوات.
لقد أكدت الوقائع أن الطرف التونسي التزم بكل تعهداته في حين تنكر الطرف الغربي لكل التزاماته.
غير أن الطرف الغربي الذي يشمل كلا من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كلف ذراعه المالي المتمثل بصندوق النقد الدولي لمتابعة الملف الاقتصادي التونسي لوضعه تحت السيطرة. وقد تجلى ذلك عبر الزيارات المتتالية التي قامت بها كريستين لاغارد في سنة 2011 مباشرة بعيد قمة «دوفيل» والتي لم تتمكن اثرها من الحصول على تفويض من طرف الحكومة التونسية للتدخل. غير أنها سرعان ما جددت الكرة في شهر فيفري 2012 مباشرة بعد انطلاق حكومة «الترويكا». وقد نجحت هذه المرة في الحصول على تفويض تم توقيعه من طرف حمادي الجبالي رئيس الحكومة آنذاك في أفريل 2012 ومكّن صندوق النقد الدولي من فرض برنامج إصلاح هيكلي يعتمد سياسة التقشف عبر الضغط على ميزانية الدولة ومزيد من الخوصصة والمزيد من تحرير السوق لدخول البضائع المستوردة. وقد تجسم هذا التفويض عبر رسالة النوايا المُرفقة بـ«مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية» المُوقعة في فيفري 2013 من طرف كلا من إلياس الفخفاخ وزير المالية آنذاك والرئيس المُكلف الحالي والشاذلي العياري محافظ البنك المركزي السابق والتي تضمنت تعهد الدولة التونسية بتطبيق كل الإجراءات المتفق عليها بين الطرفين مقابل تدخل مالي بشروط مُيسّرة.
في نفس سياق هذه المناورات تمكن الاتحاد الأوروبي من الضغط على حكومة «الترويكا» للتوقيع على اتفاق ما يُسمى بـ«الشريك المُميّز» في شهر نوفمبر 2012 والذي مكنه من فرض فتح باب التفاوض حول مشروع اتفاق التبادل الحر لشامل والمعمق.
كذلك وفي نفس السياق تكررت الزيارات التي قامت بها عدة شخصيات سياسية أمريكية سابقة رفيعة المستوى والمعروفة بولائها الصريح للكيان الصهيوني لمقابلة المسؤولين على رأس حزب حركة النهضة بصفته الحزب الحاكم. نذكر من أهمها «جون ما كين» نائب الرئيس الأمريكي سابقا و«مادلين أولبرايت» وزيرة الخارجية السابقة و«جوزيف ليبرمان» نائب الرئيس الأمريكي الأسبق أيضا وكذلك جورج سوروس الملياردير الأمريكي الموالي للحركة الصهيونية وهو من أصل مجري المعروف بمضاربته في البورصات العالمية والذي أدى زيارة ثانية في سنة 2015 تقابل اثرها بالرئيس الراحل الباجي قائد السبسي. وهي زيارات تبدو جليا أنها تدفع نحو التطبيع وتمهد للمشاريع التوسعية في المنطقة العربية بأسرها بداية من «الشرق الأوسط الكبير» ونهاية «صفقة القرن». وقد تجسد التطبيع في تونس من خلال تعيين أمال كربول على رأس وزارة السياحة في سنة 2014 بحكم تقاربها بهذا الكيان ثم انتهت بتعيين روني الطرابلسي على نفس الوزارة في حكومة يوسف الشاهد والنهضة منذ سنة 2018.
هذا التوجه تم توطيده أيضا بالدفع نحو تقاسم السلطة بين حزب حركة النهضة وحزب نداء تونس وهو ما تجلى من خلال مقال صدر بجريدة البيان الإماراتية في شهر أوت 2012 والذي أكد من مصادر أمريكية موثوقة أن الإدارة الأمريكية طالبت من الحزبين ضرورة التقارب اثر الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014 لحكم تونس عبر تحالف بينهما. وهو ما تحقق فعليا.
الانتخابات التشريعية والرئاسية تتعدّد والمنوال التنموي لم يتغير
هذا التوجه تأكد أيضا عبر تجديد التفويض لصندوق النقد الدولي في سنة 2015 في إطار برنامج إصلاح مُجدّد يعتمد نفس الوصفة لسياسة التقشف والضغط على الأجور والخوصصة والتي التزمت به حكومة الحبيب الصيد عبر رسالة النوايا الثانية التي وجهها وزير المالية الأسبق المرحوم سليم شاكر ومحافظ البنك المركزي الشاذلي العياري بتاريخ 2 ماي 2016 والمرفقة أيضا بـ«مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية» التي وسعت في قائمة المؤسسات العمومية المزمع خوصصتها.
لقد وفرت أيضا الأزمة التي نشبت داخل حزب نداء تونس الفرصة للأطراف الخارجية لدفع الوجوه السياسية التي تُعوّل عليها لتنفيذ سياستها في البلاد. وقد برز يوسف الشاهد في هذا الباب كأحسن مثال لذلك حيث انتقل بسرعة من كاتب دولة للفلاحة في سنة 2015 إلى وزير الشؤون المحلية ثم إلى رئاسة الحكومة منذ شهر أوت 2016 وإلى اليوم بصفة رئيس حكومة مكلف بتصريف الأعمال.
من كل ما سبق يتبين بوضوح أن الانتخابات التشريعية والرئاسية تتعدّد ولكن المنوال التنموي لم يتغير والأزمة الاقتصادية والاجتماعية تزداد حدة وشدة وتعقيدا. في نفس الوقت يقترب الاتحاد الأوروبي بخطى ثابتة في ظل هذا الوضع الخانق من تحقيق هدفه في التوقيع على اتفاق جديد يشمل جميع القطاعات الاقتصادية والتشريعية لإدماج تونس داخل المنظومة الأوروبية في إطار شريك غير رسمي عليه واجبات ولا يتمتع بأي امتيازات على غرار ما تم توقيعه في المجال الأمني في واشنطن مع الناتو على يد محسن مرزوق في بداية رئاسية سنة 2015.
اللوبيات الأوروبية والجمعيات التابعة لها تتحرك بقوة ودون انقطاع
وقد ساعد على هذا الإنجاز الأوروبي العمل الدؤوب الذي تقوم به الجمعيات الأوروبية الناشطة محليا نذكر من بينها مؤسسة «كونراد أديناور» التابعة للحزب الديمقراطي المسيحي الألماني ومؤسسة « فريدريش إيبرت» الألمانية أيضا التي كثفت من تنظيم الندوات المختصة في التسويق لمشروع «الأليكا» بطريقة غير عادية. كما ظهرت جمعية «صوليدار»Solidar Tunisie « التي تترأسها لبنى الجريبي الناشطة السياسية في حزب التكتل والنائبة التأسيسية السابقة. هذا التحرك جاء اثر فشل حزب التكتل في الانتخابات التشريعية لسنة 2014 حيث سارعت بتكوين هذه الجمعية التي تُعتبر فرعا من الجمعيات ذات التوجه الاجتماعي المقربة من الأحزاب الاشتراكية الأوروبية والمُموّلة من طرف الاتحاد الأوروبي. وقد ركزت نشاطها على التسويق لمشروع «الأليكا» بدعوى الدفاع عن المصالح التونسية في البرلمان الأوروبي عبر تحسين شروط التفاوض ولكن بدون الخوض في لب الموضوع المتعلق بتقييم الشراكات السابقة التي دمرت الاقتصاد الوطني. كما كثفت نشاطها مؤخرا تحت عنوان «بناء قاعدة مشتركة منبثقة عن برامج الأحزاب السبعة الأولى المُتحصّلة على أكثر من 10 نواب في البرلمان الحالي تلتقي حولها جل الحساسيات السياسية وتشكل إطارا لصياغة خارطة الطريق المنشودة *». وترمي هذه الخطوة المؤطرة من الاتحاد الأوروبي لتفادي النزاعات والإسراع بتكوين الحكومة سعيا لتحقيق خطته الإستراتيجية في منطقة جنوب المتوسط. حيث كان يأمل التوقيع على اتفاق «الأليكا» في سنة 2019 أي بُعيد انتهاء الانتخابات. وقد شارك في بلورة هذه الخطوة أهم لوبي محلي مؤثر في الشأن السياسي والاقتصادي الوطني ومُقرّب من الاتحاد الأوروبي ومن البنك الدولي وفروعه كما ثبت من وثيقة مجموعة البنك الدولي الصادرة في سنة 2016 ونعني بذلك «المعهد العربي لرؤساء المؤسسات» دون أن ننسى دور عديد الأساتذة الجامعيين الموالين للاتحاد الأوروبي.
وقد جاء هذا التحرك المكثف نتيجة للصحوة الكبيرة التي أبداها الرأي العام التونسي أمام خطورة ما يتربص بمصالح البلاد من خلال مشروع اتفاق التبادل الشامل والمعمق والتي جاءت نتيجة للعمل التوعوي الذي صدر عن النخب المختصة بتعاون مع المنظمات المدنية والمهنية والنقابية وبعض الأحزاب السياسية المعارضة.
سقوط حكومة الجملي وبروز إلياس الفخفاخ
لقد تعمد حزب حركة النهضة السيطرة على مجرى تكوين حكومة الحبيب الجملي وساهم بذلك في إسقاطها. ذلك أن أهم منظري هذه الحكومة وهما كلا من رضا السعيدي في الشأن الاقتصادي الذي اقترح تعيين البشير الزعفوري من جديد على رأس وزارة التجارة وهو مدير عام لأحد الفضاءات الكبرى والذي سبق أن سمي نفس الخطة في سنة 2012 نزولا عند رغبة أكبر لوبي اقتصادي مُتغوّل في البلاد. كما اقترح إرجاع الخبير الاقتصادي علي الشابي بنفس الخطة التي كان عليها سابقا أي وزيرا مستشارا في الشؤون الاقتصادية لدى رئيس الحكومة سعيا لطمأنة صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي المعروف بقربه من دوائرهم.
كما سعى نور الدين البحيري إلى إحكام القبض على الوزارات السيادية بالتعيينات التي اقترحها مباشرة على رأس وزارة العدل ووزارة الداخلية ووزارة الدفاع الوطني. غير أن هذه المناورة لم تمر وأفضت إلى سقوط حكومة الحبيب الجملي أمام المجلس.
فرنسا تتدخل بقوة وتبسط السجاد الأحمر
في الأثناء كثفت فرنسا من تدخلاتها وقامت ببسط السجاد الأحمر اثر زيارة رئيس الحكومة يوسف الشاهد في منتصف شهر نوفمبر 2019 الفارط في حركة غير معتادة من طرف الرئيس الفرنسي حيث نزل إلى بهو قصر الإيليزي لتحية ضيفه المبجل. وكانت حركة لا تخلو من معاني المعاضدة والمساندة التي تكنها فرنسا نحو شخص رئيس الحكومة. هذه الخطوات تفسر مدى تأثير رئيس الحكومة التونسية في اختيار أبرز ممثل للتوجهات المشتركة التي يسعى لها والتي مثلها إلياس الفخفاخ الذي رشحه حزب تحيا تونس بالأساس ليكون الرئيس المكلف بتكوين الحومة القادمة والتي مهدت لتقاربها مؤسسة «صوليدار تونس « التي ترأسها لبنى الجريبي والتي كانت من أول الشخصيات التي استقبلها الرئيس المكلف كعربون رد الجميل.
وهكذا تتبين الخيوط الخارجية والداخلية التي تتحكم في مصير بلد وشعب فقد سيادته وفقد حقه في تقرير مصيره مثله مثل كل شعوب المنطقة العربية التي تستهدف في ثرواتها ومكتسباتها وحرمتها واستقلالها.
نُشر بعدد أسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 4 فيفري 2020