الشارع المغاربي: كتب وبحوث المؤرخ د. محمد لطفي الشايبي لا تقدم جردا كلاسيكيا لتاريخ الحركة الوطنية فحسب بل تعيد ترتيبها مقدمة قراءة جديدة وجذرية لهذه المرحلة التأسيسة من تاريخ تونس المعاصر معتمدة في ذلك على الوثائق والاثباتات.
«الشارع المغاربي» استضاف المؤرخ لطفي الشايبي للمحاورة في اشكالات التداخل بين الوطني والنقابي وملابساته وفي المعطيات الصادمة التي تضمنتها كتبه.
كباحث متخصّص في تاريخ تونس المعاصر، كيف كانت بدايات العمل النقابي في تونس؟
العمل النقابي أو الفعل النقابي كان في البداية من شأن النقابات الفرنسية الاوروبية وقد دخل تونس مع الاستعمار وكان الايطاليون هم السباقين فأسسوا اولى النقابات، وهي مسألة مرتبطة بالعدد الكمّي للايطاليين اذ كانوا بين 1881 و1914 اكثر عددا من الفرنسيين ومن ناحية اخرى كان التوجه الايديولوجي لهذه النقابات فوضويا ثم تأسست الكنفدرالية العامة للشغل سنة 1895 بفرنسا وبعثت فرعا لها في تونس “اتحاد النقابات الفرنسية” … جل النقابيين او العناصر المهنية المنضوية تحت النقابات الفرنسية لم تكن تعلم بسر وخفايا الدعاية الفرنسية على المستوى السياسي لان النقابات الفرنسية منعت العملة التونسيين من التعاطي في الشأن القومي، لا قوميات ولا حركة وطنية مع النقابة إذ لا مجال للنضال من أجل الوطن.
كيف بدأ هذا التقاطع بين الوطني السياسي والنقابي الذي صبغ تاريخ تونس السياسي؟
بدأ مع محمد علي الحامي الذي ناضل في البداية في حركة الشباب التونسي مع الأخوين باش حامبة وقد تكوّن الحامي في جامعة هامبورغ أين زاول دروسه في الاقتصاد السياسي، وواكب هناك الحركة السبرتكية في برلين في شتاء 1919 ، ثم عاد إلى تونس ليؤسس جامعة عموم العملة التونسيين ليعطي النضال النقابي بعدا قوميا.. ثم الحبيب بورقيبة عندما اصدر مقالة “النقابات في تونس” سنة 1933 بعد ان صدر الامر العلي بالترخيص لتكوين نقابات تونسية، وللتاريخ قال بورقيبة يجب ان تتم تونسة العمل النقابي ولذلك يلتقي بورقيبة مع الحامي في هذه النقطة ..
ضمّت كتبك معطيات صادمة تشير فيها إلى وجود تشابك بين الحركة الوطنية والحركة الماسونية؟
أولا الماسونية هي جمعية سرّية اممية وهي تمجّد الاستعمار وتعارض استقلال الشعوب و هذه المعطيات الصادمة هي موثّقة إذ كانت في البداية نتيجة جرد استباقي لجرائد عديدة منها الجريدة التونسية le courrier de Tunisie التي تمثل الفيدرالية الراديكالية بتونس (الحزب الراديكالي الفرنسي) وتونس الاشتراكية التي يمثّلها الحزب الاشتراكي الفرنسي . الجرد الاستباقي مكنني من التوصّل الى انه كان هناك ترويج لمبادئ الماسونية.. اذ ان من اهم مبادئ الماسونية معاداة القومية …لقد تمّ الاختراق الماسوني عبر انضواء بعض الرموز الوطنية تحت لواء الماسونية مثل حركة الشباب التونسي وهذا مثبت ولا نزاع فيه، على غرار عبد الجليل الزاوش والصادق الزمرلي وحسن القلاتي ومحمد نعمان وهناك ايضا عبد العزيز الثعالبي الذي كان هو الآخر ماسونيا..
ما هي حججك واثباتاتك ؟
الاثباتات موجودة في كتاباتي وهي عديدة منها مثلا الرسالة التي بعثها الثعالبي الى اوغيست ديستري رئيس تحرير جريدة le courrier du Tunisie ومفادها أنه (الثعالبي) يشكر أصدقاءه وجلّهم ماسونيون ويؤمنون بالتعاون بين الحامي والمحمي ومجّد في هذه الرسالة “الوطن الفرنسي المشترك” وكذلك العلم الفرنسي المشترك ثلاثي الالوان.. معطى آخر تاريخي : لقد اتهم الثعالبي سنة 1904 بالتفوّه بعبارات نابية ضدّ الاولياء الصالحين فتم اعتقاله وكثر اعداؤه وخصومه آنذاك في هذه القضية الى درجة تهديده بالاعدام.. وقد كان يقطن في باب سويقة (الحلفاوين) ويقيم بالزاوية “البكرية” وكان الناس يصطفون من امام منزله الى “الدريبة” لضربه ورميه بالطماطم وشتمه والبصق عليه فتدخّلت أسماء فرنسة معروفة بماسونيتها و أخرجته من الدريبة ليمثل امام محكمة ويحكم عليه بالسجن مدة شهرين فقط.. عندما خرج من السجن اراد ان يشكر اصدقاءه الماسونيين فألف مع اليهودي سيزار بن عطار والهادي السبعي وثلاثتهم منخرطون في جمعية الفكر الحر التي عرفت بانتماء أعضائها إلى الماسونية. هذا اضافة الي ارشيف الثعالبي الخاص الذي امتلكه الدكتور احمد بن ميلاد والذي أكد ذلك في كتابه “الشيخ عبد العزيز الثعالبي والحركة الوطنية” وقال “ان الثعالبي كان منخرطا في جمعية الفكر الحر ولا استبعد ان يكون ماسونيا..” وفي عملية ثالثة وهي واضحة وجلية ” قلت انه كتب l’esprit libéral du Coran 1905 باللغة الفرنسية وهو لا يحسن البتة اللغة الفرنسية ثم ان الثعالبي درس في جامع الزيتونة وليس له اية شهادة لا تطويع ولا “عمّار بالزّور”.. هذا اضافة إلى وثيقة تحصّلت عليها تابعة للقسم التاريخي لجيش البر/ قصر فانسان
SHAT (Service Historique de l’Armée de Terre / Château de Vincennes, Carton 2 H 133, dossier: Evolution de la politique indigène depuis 1940 au 30 septembre 1944
تحمل عنوان :
“Le Néo-Destour, les princes et les Anglo-Saxons”
كُتبت سنة 1945 وتقول بالحرف “علمنا أن عند وجوده في الشرق الأوسط والهند كان الشيخ الثعالبي محل مجاملات كبيرة من السلطات البريطانية التي تدير البلدان التي سافر اليها”. وتضيف الوثيقة حرفيا “الثعالبي انضوى إلى المحفل المصري الماسوني التابع للمذهب السكوتلندي”.
اذا من كتب الروح التحررية للقرآن l’esprit libéral du Coran 1905؟
قام بهذه المهمة التونسي اليهودي سيزار بن عطّار والهادي السبعي والثعالبي .عندما كان الثعالبي محل محاكمة دافع عنه بن عطار بصفته محامي الدفاع. وقد أكد بن عطّار بقوله “كنا انا والسبعي نزور الثعالبي في منزله بحلق الوادي او يزورنا هو في المرسى ونتحدّث حول كتاب l’esprit libéral du Coran 1905 وتوصلنا معا إلى أنّ للقرآن روحا تحرّرية، ثمّ نُشر هذا الكتاب شهران بعد مغادرة الثعالبي السجن وقد قدّم السبعي والثعالبي وبن عطّار إهداء للسيد فاليي وهو وزير العدل بفرنسا اثناء محاكمة الثعالبي وتوسّط للثعالبي عبر تغيير اقواله في البحث. ويقول الثعالبي في اهدائه
Nous soutenons les propos de l’orateur socialiste Jean Jaurès concernant la pénétration pacifique au Maroc
وفي نفس الاهداء يقول “يجب أن يتم تسيير المسلمين من فرنسا..” ولذلك فإن كتبة l’esprit libéral du Coran 1905 ثلاثة اشخاص : السبعي والعطار والثعالبي.
وكتاب “تونس الشهيدة“؟
كتاب “تونس الشهيدة” لم يكتبه الثعالبي لانه صدر باللغة الفرنسية Tunise martyre وبلا توقيع او اسم كاتبه (anonyme) وترقبنا الى 1985 ليقع ترجمة “تونس الشهيدة مطالبها في تونس” وترجمة ” L’esprit libéral du Coran 1905″ في اطار سلسلة الراحل الحبيب اللمسي وطلب من حمادي الساحلي الذي ترجم الكتابين: “تونس الشهيدة” وضع اسم الثعالبي على الكتاب L’esprit libéral du Coran 1905 وحذف الاهداء ووضع عليه اسم الثعالبي..
ما هي فترة التغلغل الماسوني الأخطر حسب تقديرك؟
يبدو لي ان اخطر فترة بالنسبة للهوية التونسية هي بعد ضرب حركة محمد علي الحامي سنة 1925 عندما تمكّن الكاتب العام لاتحاد النقابات الفرنسية في تونس وفي نفس الوقت الكاتب العام للفيدرالية الاشتراكية بتونس جواكيم دوريل وهو من رموز الماسونية حينها من إحداث الفراغ حول الحامي لينتهي الأمر بمحاصرته ومحاكمته. دوريل هذا كان له تأثير كبير وبالتالي أتباع وأشياع.من اتبع جواكيم دوريل ولم يفهم نواياه منذ البداية انفصل عنه في ما بعد او بقي صديقا عن بعد كمحمود الماطري مثلا وللتاريخ فإن الوحيد الذي تجرأ على نقد جواكيم دوريل بلا هوادة هو الحبيب بورقيبة.. وقد كتب مقالا كردّ على مقال دوريل عن الحجاب عنونه بـ”الدورولية او الاشتراكية العرجاء” ومن بين ما قال Mon Dieu réservez moi de mes amis..
أنت تطرح إعادة ترتيب للذاكرة الوطنية أو لنقل إعادة قراءة لتاريخ الحركة الوطنية؟
فعلا هناك مغالطات كثيرة ولابد من إعادة صياغة تاريخ الحركة الوطنية عل ضوء معطيات موثّقة. خذ مثلا عبد العزيز الثعالبي الذي تُغيّب ماسونيته وحركة الشباب التونسي التي كانت تضم عناصر ماسونية. ففي سنة 1919 نجد احمد الصافي وهو الكاتب العام للحزب القديم فيما بعد ومحمد الصافي ومحمد النعمان وهؤلاء الثلاثة انضموا للفيدرالية الاشتراكية بتونس قبل تأسيس الحزب وهذه لوحدها إشارة واضحة.
وطبعا انت تعتبر الفيدرالية الاشتراكية ماسونية ؟
Absolument لسبب بسيط ان قادتها هم جواكيم دوريل واندري دوران انغليفيال وغيدي كوناديرا ومواتي والكسندر فيشي وألبار كاتون وهم جميعا ماسونيون بالأدلة والحجج التاريخية.
كيف كانت طرق اشتغال الماسونية ؟
عملت الماسونية بكل الوسائل لكي يتخلى التونسي عن قوميته وانا هنا اعتمد هذه العبارة التي اعتمدها بورقيبة في العديد من مقالاته في الثلاثينات وقد انتقد البير بوزونكي الذي عوّض جواكيم دوريل في العمل النقابي بتونس بقوله ” M. Bozoncké veut dénationaliser les tunisiens.. ولذلك بورقيبة هو الوحيد الذي فهم اللعبة بحيث كان يقدّم نفسه على انه قومي .. وهنا نتساءل اليوم في قضية Nationalisme et patriotisme من الغى عبارة قومية وعوضها بعبارة وطنية؟
تلمّح إلى بن علي؟
فعلا لقد حدث هذا في زمن بن علي وكنت قد بيّنت سابقا في مقال عنونته “le retour manqué de la statue de Bourguiba أنّه لا يعقل ان نضع تمثاله وهو اقل طولا من الساعة التي تتوسط العاصمة فحتى ذلك الشارع الذي يحمل اسم و تمثال الحبيب بورقيبة يحمل رموزا كثيرة حيث كان اسمه “جول فيري –الماسوني” وعندما اعتلى بورقيبة الحكم طلب من النحات حاتم المكّي نحت تمثال لابن خلدون يتوسّط الكنيسة وسفارة فرنسا وهو ينظر الى البحر.. وأمر بنحته هو ايضا على حصان في اشارة الى عودته منتصرا من جهاده الاصغر وانطلاقه في مسيرة الجهاد الاكبر للقضاء على الجهل والتخلف وهي وصفة استمدها من العلّامة ابن خلدون.. بعد ذلك اعتلى بن علي الحكم وغيّر مكان تمثال الزعيم ورمى به في حلق الوادي وأغدق في المقابل أموالا طائلة على تلك الساعة التي ترمز الى الماسونية ويعتليها مثلث ولا اعلم ما محلّه من الاعراب وقد كتبت عن استعمال الماسونية مثل هذه الساعات للترويج لأفكارها. انا استغرب تناقض الباجي قائد السبسي في هذه النقطة فمن جهة وعد في كتابه باعادة نصب الزعيم في حال عاد الى الحكم ومن جهة ثانية أعاده أقل طولا من تلك الساعة .. للأسف السبسي قزّم بورقيبة وليت تمثاله ظل في حلق الوادي..
هل تعتبر بن علي ماسونيا؟
عندما كتب بورقيبة الابن كتابه Notre histoire nationale وهو عبارة عن شهادات واحاديث مطوّلة ومشوّقة – وقد اعجبني الكتاب لاني وجدت في توطئته ان الابن قال انه ليس مؤرخا ولكن لديه ذكريات اراد توظيفها – علمت ابنته مريم بالامر فاتصلت بي وطلبت مني تقديم كتاب ابيهما في المنستير. ولكني تلقيت معلومة في اخر اللقاء من شخص تفيد ان بن علي اعاد الماسونية للعمل من جديد في عين الرحمة بالنفيضة وقد توجهت معه على عين المكان فوجدت فضاء يلتقي فيه ماسونيون تونسيون.. عندما نشرت كتابي عن الماسونية اتصل بي استاذي المنجي بوسنينة الذي شغل زمن حكم بن علي خطة وزير للثقافة وخطة سفير في باريس وأكّد لي أنه استقبل في السفارة التونسية بفرنسا المحفل الماسوني le grand orient وأن هذا الأخير طلب منه ارسال رسالة عن طريقه الى زين العابدين بن علي يطلب فيها عودة الماسونية الى نشاطها في تونس وأن الماسونيين الفرنسيين أعلموه حينها ان بورقيبة أوقفها تماما في 1956..