الشارع المغاربي-حاورته: عواطف البلدي: مؤرخ تجاوز المفهوم الكلاسيكي للتاريخ وصفة المؤرخ. رغم تخصصه الجامعي في التاريخ المعاصر فإنه يرفض “سجنه” في اختصاص تاريخي واحد. مؤرخ لا ينفك يعلن في كل كتاباته عن تشبّعه بالفكر الماركسي. منظّر خاض في جذور وأسباب التدمير الاجتماعي المعمّم واعتبر ان تونس أضاعت فرصتين مرة قبل 1881 وأخرى بعد 1956.. هو المؤرخ الهادي التيمومي صاحب موسوعة “الربيع العربي” الصادرة مؤخرا.
أسبوعية “الشارع المغاربي” التقت الرجل على هامش ندوة علمية لتكريمه انتظمت بمؤسسة الأرشيف الوطني تحت عنوان ” الهادي التيمومي مؤرخا تونسيا” فكان هذا الحوار الخاطف.
موسوعة “الربيع العربي” الصادرة لك مؤخرا تضمّنت 1200 صفحة. لِم لمْ يصاحب هذا العمل الضخم ترويج كاف؟
موسوعة “الربيع العربي” تضم 6 أجزاء في 1200 صفحة من القطع المتوسط وعلى مستوى الوزن… هُردُباء بأتم معنى الكلمة. التونسيون ليسوا مشهورين بحب المطالعة مثل حبّهم للـ “فاست فود”. هم فقط يحبون الكتب ذات الوزن المحدود والصفحات المحدودة بينما لم يطلع على موسوعتي ذات الحجم الا عدد قليل جدا منهم لذلك لم تلق الموسوعة الرواج المطلوب. في المقابل تنصبّ كل الأنظار على كتابي “كيف صار التونسيون تونسيين؟” وقد بلغ طبعته السابعة وهو تقريبا أكثر كتاب ثقافي بيع في تونس منذ الاستقلال وبآلاف النسخ.
وكأن سؤال الهوية أصبح اليوم وجوديا لدى التونسيين أكثر من أي وقت مضى؟
نعم صحيح.. فالإخوان مثلا يريدون وجهة ما وحزب التحرير يبحث عن وجهة أخرى واليساريون بدورهم يبحثون عن وجهة أخرى والغرب المتعاطف معنا او الذي يحمل نوايا غير صادقة إزاء تونس يريد منا ان نتجه الى وجهة معينة الخ.. قضية الهوية قضية حارقة لذلك نجح كتاب “كيف صار التونسيون تونسيين؟”. أما بالنسبة للموسوعة، فأتمنى ان يتدارك القراء هذا الامر.. على كل يمكن تصنيف “الربيع العربي” كعمل من انتاج مؤسسة بأكملها وليست نتاج مجهود شخص واحد، لكنني تجشّمت عناء هذه المغامرة وتحدّثت عن كل ما عرفت تونس منذ احداث الحوض المنجمي سنة 2008 حتى اعتلاء قيس سعيد الحكم سنة 2019… تحدثت عن كل شيء… عن الطلاق وحوادث الطرقات والسينما والسياسة والاقتصاد ورجال الاعمال والعلاقات الخارجية وأمور كثيرة أخرى ولكن للأسف لم يتم الإقبال عليها… ربما بسبب غلاء سعرها وربّما لأن المعرض انتظم بعد شهر رمضان والعيد مباشرة حيث كثرت المصاريف… ثم لا ننسى أن الظرف الاقتصادي غير ملائم… أتصور ان يلقى الكتاب ترحابا من جماهير الباحثين لأنهم سيجدون كل المعلومات جاهزة حول تلك الفترة..
في حديثك عن معدّل قراءة موسوعتك قدّمت رقما صادما حين قلت إن نسبة 90% من المؤرّخين والنخب لم يقرؤوا “مقدمة” ابن خلدون فما بالك بموسوعتك.. لو توضح لنا أكثر؟
مع الاسف نحن لم نُعرف كشعب يحب المطالعة مثل الشعبين الروسي والفرنسي… وقد قدمت لكِ مثالا عن الوجبات السريعة… التونسيون يقرؤون أحيانا ملخصا عن مقدمة ابن خلدون من “ويكيبيديا” بينما لا يقرؤون “المقدمة” كاملة رغم انها موجودة على رفوف مكتباتهم. انظري الى الرواج منقطع النظير لفايسبوك الذي اصبح اليوم يدعم النرجسية لدى كل التونسيين حيث تجد شخصا خجولا في الحياة العامة سرعان ما يصبح فصيحا على صفحات فايسبوك ويعبّر بطلاقة غريبة فيسبّ ويشتم كل الناس رغم انه يبدو شخصا لطيفا في المجتمع… اصبح الجميع يعبّر عن اراء بعيدة جدا عن الحقيقة فتجد صداها لدى الناس لانهم يقتصرون على ما يُنشر على فايسبوك بينما بناة الحضارة الحقيقيون هم بُناة صامتون. على سبيل المثال كان ابن خلدون يقوم برحلة من جنوب وهران في طلعة بني سلامة الى مكتبة جامع الزيتونة فقط للتثبت من بعض المعلومات. وكان يأتي مع غلامه ويظل احيانا مختبئا وراء كثبان من الرمل تجنّبا لقطاع الطرق بينما لاحظت أن طلبتي لا يكلفون انفسهم حتى التحول من كلية 9 أفريل الى المكتبة الوطنية المحاذية لها لانجاز عمل كنت قد طلبته منهم.
لو فكّرت في كتابة جزء سابع لموسوعتك عن مرحلة اليوم أو مرحلة ما بعد 2019 كيف ستكون ملامحها؟
ذكرت في الموسوعة فترة تقلّد قيس سعيد الحكم. سأسوق مثالا على ذلك: بعد الحرب العالمية الثانية حدث ما يعرف بالتدمير الاجتماعي المعمّم في فرنسا اي بعد هزيمتها.. البرازيل أيضا تعرّضت لنفس التدمير وهنا نتحدث عن احتمالات تطوّرات معينة إما شعبوية يسارية مثلما حدث في البرازيل مع “لولا دا سيلفا” او شعبوية سلطوية مثلما يحدث في تونس الان بحيث ان قدرنا هو الشعبوية السلطوية التي نعيش على وقعها الان.. بالنسبة لي افرّق في كتاباتي بين المفاهيم الدكتاتورية.. فبورقيبة كان متشددا وبن علي مستبدا بينما كان هتلر دكتاتورا… وثمة فرق بين الاستبداد والدكتاتورية والتشدّد السياسي. اما السلطوية فهي النزوع إلى الاستيلاء على كل شيء رغم غياب برنامج في تونس اليوم... لا يوجد برنامج لأن البلد يسير على غير هدى.. أين هي الشركات الاهلية التي تعتبر عماد البرنامجين الاقتصاد والاجتماعي؟ ثمة ثلاث او اربع شركات ولكن لم يظهر لها وجود… هي موجودة فقط على الورق.
بحكم اطلاعك على تجارب انسانية عديدة عبر التاريخ هل لك ان تحدد لنا الى اين تتجه تونس؟
الشعب التونسي هو الذي يقرّر مصيره مثلما قرر مصيره في اللحظات الحاسمة… اتمنى ان يقرّر مصيره في اتجاه يخدم قيم التقدم والحرية والديمقراطية لأن قطار الديمقراطية انطلق في تونس ولن يعود الى الوراء رغم بعض الانتكاسات والتعثّرات.
تحدثت على هامش تكريمك عن عقدة أوديب عند بورقيبة لو توضح لنا أكثر مقصدك؟
كانت لبورقيبة عقدة أوديب مثل كل الرجال المرموقين او اغلبهم على الاقل مثل بيتهوفن وارسطو.. كان بورقيبة يحب أمّه حبا شديدا وكان عندما يذكرها في خطاباته يبكي بكاء حارا يشعرك بالصدق. لكن لبورقيبة أيضا بكائيات سياسية برع فيها نظرا لشغفه بالمسرح وبالتمثيل… حيث كانت لديه قدرة عجيبة على توظيف الدموع.. عندما ولدته امه كان عمرها 52 سنة في ذلك الوقت وكانت البيئة بالمنستير محافظة جدا. ونظرا لخجل الام آنذاك طلبت من ابنتها ان تعطيها منديلا تضعه بين اسنانها حتى لا تصيح بصوت عال ويُفضح امرها بين الجيران. لهذا السبب كان بورقيبة يقول:”جئتكم حسب المثل القائل باش يخرج دنفير من المنستير فيه الناس تحير وامي انجبتني في غلطة”..اذكر ان مجاهدا اصيل ولاية القيروان التقى بورقيبة في احدى عكاظيات عيد ميلاده ذات 3 أوت فحدّث الزعيم عن اعجابه باصلاحاته على مستوى التعليم والصحة والسياسة ثم لامه على مسألة تحديد النسل قائلا:” تخيل يا زعيم لو كان ثمة تحديد النسل في الفترة التي ولدت فيها لحُرمت والدتك من انجابك ولحُرمت تونس من شخصية ومن زعيم مثلك” فضحك بورقيبة انذاك وقال له “لقيتها يا حلوف”..
وأنت المشتغل على الحركة الصهيونية في تونس كيف تقرأ النشاط الصهيوني تزامنا مع أحداث النكبة ومع ما حدث في جربة مؤخرا؟
طبعا أنا ضد التطبيع لأنني اعتبر ان اسرائيل بمثابة ورم في الشرق الاوسط لن يستطيع العيش في بيئة معادية له طال الزمان او قصُر.. ففي افريقيا مثلا ظل “الافريكانس” أربعة قرون ومع ذلك أخذ السود السلطة في ما بعد علما ان “الافريكانس” ظلوا في جنوب افريقيا ولم يرجعوا الى هولندا.. بقي السؤال الذي اطرحُه على المحللين هو: هل من علاقة بين حريق بنك الزيتونة وأحداث العنف الاخيرة في بعض المباريات الرياضية وعملية جربة ؟ هل ثمة خيط رابط بين الأحداث الثلاثة ؟ لننتظر التحقيق ماذا سيقول… فعندما نبحث عن هذا الخيط الرابط ربما تحصل لنا مفاجآت.
مفاجآت من أي نوع؟
من نوع من هي الجهة التي أجّجت كل هذا؟ وهل هناك جهة واحدة أم أكثر ؟
هل تلمّح الى وقوف الإسلام السياسي وراء ذلك؟
هذا يرجع إلى ما سيخلص إليه التحقيق ولكن هذا يذكرّنا بحادثة حريق القاهرة سنة 1952 والتي اتضح في ما بعد أن حركة الإخوان المسلمين كانت وراءه.. بالنسبة لتونس لننتظر نتائج التحقيق حتى لا نتسرع لكن لدينا ما يكفي من الذكاء حتى نفهم هل ان هذا التحقيق سيكون موضوعيا أم موجّها.
هل يحتاج الباحث اليوم إلى التطبيع الأكاديمي؟
لا يحتاج الباحث الأكاديمي الى مثل هذا التطبيع ولا إلى ربط أية علاقة بإسرائيل بدليل ان لدينا مثقفين كبارا في تونس والجزائر ضد التطبيع مع إسرائيل..
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 ماي 2023