الشارع المغاربي-حاورته: عواطف البلدي: شخصية لا تهدأ، ترى أن الاهتمام بالماضي مسألة في صميم المواطنة. مؤرخ مختص في التاريخ الثقافي. أستاذ جامعي وأكاديمي شغوف بالبحث والكتابة والتوثيق… في رصيده عديد الكتب والبحوث ومئات المقالات.. خاض الدكتور لطفي عيسى في مسألة التصوف وعلاقته بالذاكرة الجماعية من وجهة نظر انثروبولوجية لا عقدية لاهوتية..
“الشارع المغاربي” التقى الدكتور لطفي عيسى للحديث عن حاجتنا للتصوف اليوم وعن سبب إعادة طرح مسألة الانتظام الصوفي وللخوض في واقعي الثقافة والسياسة.
من دراسة العلوم الى التخصص في التاريخ لماذا هذه العودة الى التاريخ بعد أن أخرجنا منه ابن خلدون؟
في اعتقادي الاشتغال بالتاريخ هو اشتغال على الحاضر لأن المسألة مرتبطة بتوطين الظواهر لأنه في الاخير نحن نعيش ظواهر اجتماعية او سياسية واقتصادية او ثقافية فنوطّن لها بالعودة الى الماضي. لكن العودة الى الماضي بالمسافة وعملية التوطين غير مفصولة عن الماضي.. في الاخير الاهتمام بالماضي هو مسألة في صميم المواطنة لأننا خارجها لا يمكن ان نستوعب فكرة أن نتحول تدريجيا إلى أشخاص مسؤولين عن تصرفاتنا قياسا لمن نرى أن لهم إمكانية إدارة شأننا العام.. إذن يبدو في نهاية المطاف اننا خرجنا من الحاضر ولكن لم نخرج منه ونحن نتعامل مع الماضي للمصادقة على الحاضر وليس العكس..
مؤرخ من القيروان لم يخض في مجال التصوف من وجهة نظر دينية وإنما من وجهة نظر تاريخية انتروبولوجية… كيف تأثر لطفي عيسى بالقيروان وبرموزها ؟؟
لا يمكنني القول أن المرحلة التي قضيت بالقيروان – وانا لست مفصولا عنها الى يومنا هذا، لم تؤثر تأثيرا بالغا في اختياراتي الشخصية.. طبعا اختياراتي كانت معرفية ثقافية بالاساس وتوجهي العام كان لديه طبيعة جمالية ومرتبطة بطبيعة شخصيتي لانه لشخصيتي طابع انتقائي .. انا شخص اجافي القراءة الموجهة وأرغب في فتح أفق القراءة.. فمثلما افضّل قراءة العلوم الطبيعية والجانب الموسوعي وكذلك الادب والرواية والشعر افضل أيضا القراءة في المعارف الانسانية وايضا احب ممارسة هواياتي ومنها التصوير الشمسي او أمارس السينما كهواية لكن أمارسها من وجهة نظر السيطرة على الصورة أو بناء صورة من وجهة نظر العمل الفني لكن أيضا لقراءة كل ما يتصل بالفعل السينمائي من وجهة نظر علاقته بالمشهد الثقافي .. كل هذا تشكل في فضاء قيروان .. بالنسبة لي تكمن أهمية القيروان البالغة في انها عالم لمجمل تقاليدنا وهي تقاليد تونسية لا تهم فقط القيروان وإنما كامل البلاد التونسية.. القيروان تتجسد في مستويات متعددة في علاقتها بالوجود الإسلامي فهي أول حاضرة تأسست بشمال إفريقيا. كل هذا صحيح ولكن ما يهمّني بالأساس هو الهندسة والهندسة المعمارية وإعادة التوظيف.. كيف يمكن مثلا للتراث القديم ان يتواصل مع التراث الوسيط؟ ويكوّنان صروحا تبدو لي hybrides.. ورغم أن ثقافتي عربية اسلامية الا انني كلما تحركت وجدت شيئا يدفعني لفهم هذه الثقافة عبر «كوّة» تونسية تضم الحضارة الرومانية والبيزنطية وغيرها من الحضارات المتواترة على البلاد التونسية… القيروان هي كل هذه الحياة وهذا الخليط ولكن أيضا هي ممارسة التقاليد من لباس وطهي وروائح وهي أيضا تلك الرموز والشخصيات الاعتبارية..
ماذا عن تأثرك بشخصية علي البراق؟
البراق شخصية مهمة جدا بالنسبة لي.. وقد اصبح اليوم مُتقاسما جمعيا بالنسبة لجميع التونسيين. لا يوجد اي شخص يستمع لتلاوة علي البراق في شهر رمضان ولا يشعر بنوع من الانتشاء الروحي المتقاسم.. يعني يمكننا ان نتقاسم la psalmodie وترتيل وتلاوة علي البراق القرآن مع شعوب اخرى مثله مثل صوت صليحة واصوات اخرين.. هذه الاصوات تمثل بصمة وطابعا تونسيا بمواصفات تونسية… بالنسبة لي علي البراق شخصية تختزل قيروان القرن العشرين .. اي عندما نتحدث عن علي البراق نقول هو تلك الشخصية الاعتبارية التي يمكن امتلاكها من وجهة نظر جماعية.. أذكر أنني كنت اتردد على جامع الباي وهو جامع حنفي وتقريبا هو الوحيد الذي نجد به des mezzanines (طابق علوي) على غرار جامع يوسف داي وجامع محرز بن خلف (سيدي محرز) وهي جوامع حنفية نجد بها عادة طابق علوي وهي مخصصة للمنشدين والمرتلين الذين يجلسون بها قبل اداء الصلاة اي قبل الاذان وقبل اداء صلاة الجمعة وكنت اعتبر هذه العادة طقس من اروع الطقوس التي ظلت راسخة بذهني الى اليوم اذا يصبح هذا الطقس une communion réel بالمعنى الذي اتصوره انا في ذهني سيعطي رفعة وقيمة كبرى للمسالة الدينية بقطع النظر عن الممارسة انا اتحدث عن ممارسة رأيتها وعشتها وكيف يتم الترتيل بشكل فني يحمل الكثير من الابداع وكان سيدي علي هو régisseur وكان يقوم وكان هو اخر شخص يقوم بالترتيل لأنه كان رجلا مسنا آنذاك ثم يتولى سي العياري بائع الذهب رفع الاذان باللهجة الشرقية لأنه قبل صلاة الجمعة كان يرفع ثلاث آذانات واحد باللهجة الشرقية اذان شرقي واذان مغربي والاخير اذان تونسي ما يهمني هنا هو ذلك الطقس الذي يحمل جمالية رائعة ولا يتطلب هنا وجود نُخب بمعنى ان جميع الاشخاص يتقاسمون شيئا فنيا جميلا شيئا يشبههم ولم اقل شيئا روحيا . هذا اذن ما يجعل الاشخاص يتشبثون بالتقليد ويطوّرونه حتى يصبح للتقليد علاقة بالحداثة… للاسف فقدنا اليوم جانبا من هذه الطقسيات واصبح الامر مختصرا في الشعيرة والمزايدة عليها وهذا الامر ينفي التقليد فعندما يُنسى التقليد يصبح لدينا نقص كبير في الملَكات بمعنى هنا نتحدث عن طقس ديني وعندما نخرج خارج فضاء الطقوس الدينية اي المساجد والجوامع نجد اصحاب الصنائع والحرف بشكل عام موجودون داخل المدينة كل يشتغل باتقان شديد وهذا يعطينا مدينة حقيقية بقطع النظر عن انها مدينة صغيرة او كبيرة او ضيقة يعير فيها الناس اهمية بالغة للمهنة وللاشياء التي يشتغلونها ومثل ما يتقنون صلاتهم يتقنون عملهم ولابد من الاحتفاظ بهذه المسالة حتى يمكننا بناء مواطنة حقيقية.
اذن لهذا السبب طرحت سؤال ما حاجاتنا الى تصوف اليوم؟ في كتابك «في تاريخ المغارب المقارن..» الصادر مؤخرا
نعم بالتأكيد… بالنسبة لي تكمن أهمية دراسة هذه الظاهرة في تواصل وظائفها.. تغير الزمن طبعا وهذا يتطلب تغير وظائف طابع هذه المؤسسات.. في الازمنة التي درستها والتي تمتد من القرن العاشر الى القرن السابع عشر مجمل الوظائف التي كانت تقوم بها هذه المؤسسات هي وظائف مهمة بالنسبة للمجموعة يعني ان هناك طلب حقيقي داخل المجتمع لحضورها.. ونتساءل اليوم : هل تغير الطلب؟ واذا تغير فعلا لماذا لم تتغير المؤسسات؟ علما ان هذه المؤسسات ليست مؤسسات عبادة فقط وانما مؤسسات تأمّل وكذلك «مخالطة» sociabilité ..وهذه الكلمة هي مربط الفرس في الحياة المدنية لأن الشخص الذي لم يتعود على المخالطة خاصة اننا نعيش عبر هواتفنا اليوم لا يمكن ان يدّعي بعدها انه مواطن بهذه المؤسسات.. إذن الى اي حد يمكن ان نحوّلها الى فضاءات مخالطة مع الابقاء على الجانب الروحي الموجود داخلها..؟
لو نبسّط المسألة أكثر للقارئ؟
اعتقد اننا دائما في حاجة الى التغذية الروحية بمعنى ان ذواتنا في اخر الامر تحتاج دائما الى جانبا من التأمل لاننا نحن نواجه مصيرا لم يتغير .. وفي حقيقة الامر نحن نمثل une séquence biologique نعرف اننا سنموت… بماذا اذن سنواجه اذا لم يكن لدينا قدرة على مواجهة مصيرنا بأنفسنا. هذه المؤسسات تجعلنا نتعامل مع الحياة من وجهة نظر انها تشكل مع وجه القطعة التي قفاها الموت بمعنى نحن قطعة تحمل الوجه والقفا ولا نعترف الا بالوجه ولا نتعامل مع القفا الا على اساس انه امر ديستوبي.. مسألة مخيفة وتشكل دستوبيا دين.. رغم أن المسالة الدينية شيء والمسالة التي اتحدث عنها شيء آخر .. بمعنى أنه امر جلل ويتعين علي أن أجابهه بشكل جماعي مع المجموعات وأن تكون لدي قدرة على المخالطة وايضا عندما تتوفر فضاءات لهذه المخالطة.. لنأخذ مثال مفهوم الصحبة الذي هو عنصر من العناصر الاساسية في التصوف الصحبة بمعنى l’accompagnement مثلا عندما يتزوج احد امرأة يحبها او مثلا لديه صديق حتما يفضل مناداته صاحبي وينادي زوجته صاحبتي وهذا بهدف التقليل من القلق والخوف عبر هذه الصحبة.. يقول الله تعالى «يوم يفر المرء من أخيه وصاحبته وبنيه..» لماذا لم يقل مثلا يوم يفر من زوجته؟؟ .. ما يهمنا هنا هو كيف نعيد تركيب هذه الفكرة من وجهة نظر حاجاتنا الانية لأن مراكمة الثقة بيننا اليوم أصبحت عملية صعبة..
ولكن ظاهرة التصوف لم تنقرض ولم تنته.. ربما طريقة التوظيف هي التي اختلفت باختلاف السياسات وهناك أيضا من يرى مسألة التصوف ظاهرة شعبية او شعبوية جدا ولا تنفع المجتمع في شيء؟ بِمَ تعلّق؟
الصورة التي لدينا حول هذه المؤسسات اليوم هي صورة مبتسرة réducteur جدا لا تبحث عن الفهم بل هي تريد ان تركن الظاهرة في المقطع الذي قامت به المدرسة الاستعمارية وهنا اريد ان انبه القارئ المتابع لهذه المسألة ان ما لدينا حول التصوف هو المقطع الاخير أي نهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وهذا المقطع مُبتسر جدا لان دراسته كانت موجهة ولها طابعين اثنولوجي وانثروبولوجي يدفعان نحو عتاقة مجتمع معين ولذلك يتعين تغيير هذا المجتمع تغيير اسباري بطريقة تجعل منه مجتمعا حديثا. لكن في الحقيقة لو اخذنا مقاطع اخرى في ازمنة اخرى لوجدنا في اخر الامر ان هذه الظاهرة تخترق حتى الفضاءات التي تدعي انها فضاءات حداثية مثل الفضاء الغربي. اذا اخذنا مثلا كل مدن البحر الابيض المتوسط سنجد نفس الظواهر الموجودة بالفضاء المغاربي هي ايضا موجودة بالحوض الشرقي للبحر الابيض المتوسط وموجودة على الضفة الشمالية ايضا. بمعنى انه ثمة تناظر في الحاجات لان كل هذا الفضاء متوسطي ومنسجم من وجهة نظر ثقافية وهنا لن أعيد ما قال Fernand Braudel في كتابه الأخير «Les mémoires de la Méditerranée « الذي قال فيه أن «ذاكرات الفضاء المتوسطي متجانسة interconnectés « كما نلاحظ نفس التجانس عند Michel de Certeau الذي لاحظ في كتابه « l’invention du quotidien» أن نفس الظواهر الموجودة بالضفة الشمالية موجودة بالضفة الجنوبية. بمعنى ان هذه الفضاءات هي فضاءات اعتبارية من وجهة نظر فكرية وثقافية واجتماعية ودفاعية وتفاوضية.. كل هذا ونأتي اليوم لنقول ان لهذه الفضاءات طبيعة شعبية ولنتساءل هنا لماذا أعاد المجتمع التونسي اكتشاف الانشاد سنة 1992 عند ظهور «الحضرة»؟ رغم ان الانشاد كان موجودا سابقا بالاذاعة الوطنية زمن بورقيبة وكان يُبث كل صباح كنوع من السُّلامية لكن لم يكن احد يستمع اليه او يهتم به رغم انه كان يحمل طابعا وطنيا ربما لانه تم تحويل كلام الانشاد والنّوِب والبحور فاصبح يتحدّث عن معركة النماء مثل ما يراها بورقيبة مع المحافظة طبعا على نفس البحور والمقامات الخاصة بالسلامية.. كان التونسيون يعتبرونها مختلطة بالنظام وبالسلطة ولا معنى لها.. مع بداية التسعينات تم اكتشاف الحضرة من جديد لانها وفّرت جانبا من الفرجة والصورة فكان لها وقع على المخيال الجمعي بمعنى انها كانت صورة جمالية تحمل ذوقا عاليا من ناحية اللباس والحركات واجتماع الناس.. اذن حضرة 92 أعادت المجتمع إلى عالمه الحقيقي لأنها خلقت نوعا من المصالحة مع ماض بعيد وهي في نظري عملية صحية جدا أولا لأنها تعلي من الذائقة الجماعية وثانيا لأنها أصبحت نوعا من التقليد في ما بعد بظهور عدة فرق فاصبحت بذلك ظاهرة مجتمعية تخللها نوع من الابتذال، ولكن أيضا أُدخِل عليها نوع من البحث الموسيقي وهو امر ابداعي ونخبوي.. مثلما يقول المسرحي الفاضل الجعايبي «مسرح نخبوي للجميع» اذن لكأن الظاهرة الانشادية هنا اصبحت نخبوية من وجهة نظر جمالية ولأننا نعيش في فضاء تملؤه ظواهر قميئة ونريد ان يزول هذا القبح .. من حق هذه الظواهر ان تعيش اذن ومن حقها ان تعيد نفسها لكن ليست بتلك الطريقة القديمة للاستجابة الى حاجيات جديدة.. لو نأخذ مثلا الظاهرة في علاقتها بالنسوية ونتفحص أو نبحث في شخصية السيدة المنوبية مثلا وفي قيمة النّْوِبْ الخاصة بها واهميتها وقيمتها بالنسبة للمتقاسم الجمعي للتونسيين في اهميته وقيمته عبر الوعي بالهشاشات الجماعية وبهشاشات النوع الاجتماعي الذي يدخل فيه النوع الجنسي لدى الجنسين والتفضيل المزدوج وايضا يدخل فيه ما يسمى بالانحراف بمعنى مثلا انه كيف يتم التعامل مع سجين بعد اطلاق سراحه .. فضاء السيدة المنوبية هنا مهم جدا في هذه المسائل لاننا اليوم ننظر اليه من هذه الزاوية ولانه اليوم ليس لدينا مثل هذه الفضاءات القادرة على استيعاب مثل هذه الاشياء خارج اطار وجود هذه الفضاءات بقطع النظر عن المتسوّلين وعن المنجّمين وعن اصحاب المصالح لان المجتمع لا ينظر الا لهذه الظواهر ولكن اذا نظرنا اليها من زاوية اخرى سيكون كنوع من حفظ ماء الوجه لأن المجتمع لا يقدر على المواجهة ولا يعتبر هذا الأمر أولوية مع من يحكمه..
اشتغلت أيضا على مصطلح الانتظام الصوفي في كتاباتك ومقالاتك.. لماذا يُطرح هذا المصطلح اليوم؟
لأننا ببساطة لم نكن «قطعة حبل جايبها واد» بمعنى في الاخير لم تكن هناك بالضرورة الصورة التي قدمتها لنا القراءات التاريخية الاستعمارية بشكل عام وان مجتمعنا كان مجتمع مدينة ومجتمع بوادي وان البوادي كانت ممانعة ضد المدن بما ان المدن كانت مساندة للسلطة الحاكمة. هذا الانطباع الذي لدينا ولذلك ثمة اليوم خلاف أزلي بين الداخل وبين الحاضرة. وهذا لديه ما يثبته تاريخيا ولكننا مرة اخرى نراه réducteur ويبتسر تاريخنا في هذه الظواهر بينما والحال أن بوادينا بشكل عام لا يمكن ان تصل الى اية بادية حتى وان ابتعدت بها المشاهد الجغرافية ولن تجد فيها فضاء لهذه المخالطة.. وهنا اعتمد عبارة مخالطة وليست عبادة لأن المخالطة تقلل من حدة الخلافات..
لو تفسّر اكثر؟
يعني وجود هذه الظاهرة كان مهما جدا في نزع فتيل المواجهة المباشرة بين المجتمعات الرعوية وبين المجتمعات المستقرة لأننا لو نأخذ مصادرنا بشكل عام ونقرؤها بحيادية جيدة سنجد في جانب كبير من هذه المصادر ثمة انتقال من مشاغل مجتمعات بدوية الى مجتمعات مستقرة وزراعية بدأ هذا منذ القرن الثالث عشر بالتزامن مع ظهور الدولة المخزنية.. وأقول مجددا ان وجود هذه المؤسسات التي شكلت ظواهر حقيقية ساعد على تشبيك العلاقة بين من لم يزالوا في عملية انتقال من البداوة الى الاستقرار وبين من هم مستقرون وحاجياتهم تختلف عن حاجيات البداوة الى موفى القرن 19 اي قرابة 80 بالمائة من سكان البلاد التونسية هم بدو.. يعني ذلك ان انشطتهم التي يقومون بها هي انشطة تخضع لمبدأ المواجهة القبلية بين المجموعات ( فراشيش وجلاص وهمامّة ونفّات…) .. عندما انطلقت في أبحاثي أواخر الثمانينات اشتغلت على التركيبة القبلية للمجتمع التونسي من وجهة نظر إثبات انتقالها إلى مجتمع زراعي فقط ولكن ما لفت انتباهي وأنا بصدد تصفح وثائق الدولة انه ثمّة وسطاء داخل المجتمعات البدوية نفسها خلافا لموظفي الدولة .. هؤلاء من داخل المجتمع ومن بينهم كثير من الصُّلحَاء اما طالب او مُرابِط .. هؤلاء كان يقال عنهم «يجيبو العافية».. بمعنى يقصدون زاوية شيخهم ويقيمون وليمة (زردة) ويتعاهدون على عدم العودة الى الفوضى.. اذن كان للمجتمع طرقه الخاصة للدفاع عن نفسه واعادة تركيب نفسه من جديد من وجهة نظر سلمية.. وهذا مهم جدا بمعنى ان القضية ليست في الملكية ولكن ما يهمنا لو ننظر اليها بمنظار المجتمعات الغربية سنحصرها في فضاء معين بينما في فضاءاتنا لديها معان اخرى لأننا مجتمع ندرة وليس وفرة ..
تحدّثت عما يسمى بالسياحة الروحية .. لو تشرح لنا الفكرة؟
هذا المشروع من شأنه ان يكون مشروعا ناجحا جدا اذ لدينا مسالك حقيقية لانجاح السياحة الروحية وهذا لا يخص البلاد التونسية وحدها بل يهم أيضا الفضاءات المتوسطية بشكل عام لنأخذ مثلا موكب Saint Jacques de Compostelle باسبانيا.. وطبعا لا يهمنا هنا دي كونبوستيل لانه كان يكره العرب، لكن ما يهمنا هو الموكب أي الخروج اليه في كل حين. نحن أيضا لدينا ما يسمى بـ«الخرجة» أيضا ونتساءل هنا لمَ لا يتم تحويلها الى ظاهرة سياحية روحية؟.. لننظر الى اليوغا اليوم تلك الظاهرة الأكثر انتشارية في المجتمعات الغربية والشرقية بشكل عام خاصة لدى النساء، ليست رياضة بقدر ما هي نوع من التداوي.. اتعلمين مثلا ان النيبال اغلى وجهة سياحية اليوم؟ لانها ثقافة مختلفة ولأن السائح يقوم برياضة روحية لمدة أسبوعين.. لسائل ان يسأل فيم تتمثل هذه السياحة خاصة اننا لا نتقن لغة البلاد؟.. ولكن القصدية ليست في اللغة هنا بقدر ما هي في ذلك الطقس وهنا نعود الى جمالية هذه الطقوس .. ما الذي يجعل اليوم اقبال المجتمع الغربي عليها كبيرا ونحن نعلم انه مجتمع فرداني يؤمن بالفرد ويعطيه قيمة له ولحريته؟ لماذا اذن يأخذه الى سياحة روحية اغلب انشطتها جماعية؟.. نحن أيضا لدينا مسالك على غرار منطقة الجريد التونسي التي اختارها الزرقوني لتنظيم تظاهرة روحانيات وهي في الحقيقة بادرة طيبة ولكن المسألة تكمن هنا في دور الفاعلين الثقافيين لو اعتبرنا جدلا ان الزرقوني فاعل ثقافي لكن بالنسبة لي المسألة منقوصة لانه يمكن توفير سياحة روحية وبيئية وسياحة landscapes بمنطقة الجريد بصفة عامة.. اذا قمنا بتجميع كل هذا مع بعضه وأعطيناه ابعادا مختلفة ومتضامنة مع بعضها اضافة الى السياحة الرياضية كل هذا اذا تم تنظيمه وتوزيعه بطريقة ما ستصبح لهذه المسألة معنى مهم جدا.. هناك مثال ثان وهو فكرة تنقل السلطة وهو تقليد اساسي بالنسبة لبلدان المغرب العربي بشكل عام .. كانت السلطة تنتقل دائما بين الفترة الحفصية وحتى فترة الاستعمار داخل الفضاءات ولديها رحلتين صيف وشتاء (باي الامحال) .. لماذا لم نحافظ على هذا التقليد مثلا ففي منطقة الشمال الغربي يمكننا اعادة تركيب هذا تحت مسمّى متحف متنقل وهذا يكوّن فكرة حقيقية بالنسبة للتونسيين وأيضا للأجانب. وهذا يمكّن من إعادة تركيب المشهد من وجهة نظر الأدوار التي يمكن ان تشبّك بين وزارة الثقافة ووزارة السياحة وهذا الامر لم نبتّ فيه بعد لأنه لدينا فكرة راسخة بأن أدوار هذه المؤسسات منحصرة في ما ذكرتِ بينما وجود هذه المؤسسات يمكنه إعادة تركيب علاقتنا بالمجال..
كيف ذلك ؟
عندما ننظم مثلا رحلة للتلاميذ ونأخذهم الى المواقع الاثرية بتونس .. نلاحظ انه لدينا اكثر من 30 ألف موقع ولكن المواقع المهيّئة لا تتجاوز 100.. هنا نتساءل متى تجهز الفضاءات التي تحدثت عنها (الصوفية) وهي فضاءات مخالطة نُتيحها للناس ليس لأنها أماكن تعبّد بل لأنها أماكن اعادت تنظيم الواقع المجتمعي.. نحن لدينا قدرة رهيبة جدا على تحويل البلاد الى ورشات حقيقية تكون فيها اولوياتنا محددة .. نقول مثلا سنشتغل في الخمس سنوات القادمة على تهيئة 200 موقع وسنستغلّها حقيقة.. سترين كيف سيتغير حالنا.. ولكن هذا الامر متى يتم؟ المشكل في ان المجتمع لم يستوعب بعد انه من التقليد تولد الحداثة وليس العكس.. هذا مشهد اسمه تونس وليس اسمه كوبنهاقن. اذا كيف نعيد تركيبه بشكل يؤكد على تجذره في ذاته لكنه في نفس الوقت حديث جدا.. هنا نعود مرة أخرى الى الظاهرة الصوفية لأنها جزء لا يتجزأ من كل هذا العمل.
ليس بمتصوّفة اليوم؟
طبعا لا… عندما تتغير الوظائف يتغير الفاعلون.. القضية قضية جمالية . الى أي حد يمكن اعتبار الفاضل الجزيري متصوف؟ والى أي حد يمكن اعتبار الفة يوسف متصوفة؟ مجرد امثلة طبعا.
ولكن المتصوفة «الاخرين» لا يعترفون بـ«تصوف» ألفة يوسف؟
لدي احترام كبير للناس الذين يشتغلون ولا اعتبر من لا يشتغل.. ألفة وغيرها هي ظواهر نوعية بينما انا أريدها ظاهرة كمّية.. واقصد بالظاهرة النوعية انه عندما نفقدها لا نعوضها مثل ظاهرة هشام جعيط في المعرفة التاريخية هي نوعية وهذا امر مخيف.
ومحمد الطالبي ؟
انت قلت.. انا ذكرت أسماء اعتبرها ظواهر نوعية .. جعيّط لم يُدخل المجتمع التونسي في لُبس مثل الطالبي.. بينما تكمن أهمية يوسف الصديق في اعادة ترتيب معرفته من وجهة نظر نقْلها الى التونسيين .. يمكنك رفضها او قبولها ولكن علاقته بالنص القرآني مفيدة جدا للمجتمع التونسي وليس كالطالبي .. علاقة الطالبي كانت صدامية مع المجموعة العالمة ومع المجتمع.
اشتغلت أيضا على التراث.. ماذا قدمنا لقراءاتنا الموسوعية؟
في اعتقادي مازال لدينا الكثير لتقديمه رغم أهمية وقيمة موسوعتنا.. تلك حدودنا.. ولكن ما هو ثابت لدي هو المراكمة لما انجزنا من محتويات . بالنسبة للجزأين موجودين رقميا وورقيا .. نرْنو الى توسيع هذه المراكمات.. ونبحث عن طبيعة مراكماتنا في العلوم الصحيحة وعلاقتنا بها ومن هي الشخصيات الاعتبارية في هذا المجال؟ وما هو الشيء الذي يمكننا مقاسمته؟ .. نحن نعرف مثلا شخصيات اعتبارية في العلوم الإنسانية والدينية والفكرية والأدبية والفنية ، ولكن هل نعرف من هي الشخصيات الاعتبارية في الفيزياء وفي الكيمياء وفي الرياضيات مثلا ؟
وانت المؤرخ المختص في التاريخ الثقافي كيف تشخص واقع الثقافة اليوم؟
التونسيون بطبعهم ضعيفو العلاقة بالمكتوب وهذا ليس جديدا وهي مراكمة لسنوات .. لدينا علاقة بالكتاب ضعيفة جدا حتى لا نقول مخجلة حتى داخل المدارس.. قضية المحمول لا تهمني لانني مثلما استعمل المحمل الرقمي استعمل الحامل الورقي .. ما يهمنا هو ان المتقاسم الجمعي الذي نتقاسمه من وجهة نظر فكرية يرتقي بنا الى مصاف الامة المواطنة وهذا ما تحدثه الثقافة بمعنى انها تخلصنا من كثير من الأسباب التي تؤدي بنا الى التعامل بوجدانية مع اليومي..
وماذا عن الواقع السياسي؟
المراكمة التي تمت على مستوى الفضاء السياسي «فيها وعليها» لكن ما يهمنا في اخر الامر هو ان كل المواضيع طرحت.. بأي شكل؟ تلك قضية أخرى. الفاعل السياسي التونسي ليس لديه ثقافة سياسية..
حتى قيس سعيّد؟
حتى قيس سعيّد؟؟؟ !!! .. لا اعتقد أن الرئيس الحالي جزء من المشهد السياسي ولا طرفا فيه.. عندما تكوّنت الحكومات المتعاقبة حتى لا نقول المتناوبة بنيت على ثقافة التوافق وهو ما يبنى على إعادة صياغة الثقافة السياسية من وجهة نظر حاجيات البلاد التونسية بعد 2011 ..لا يمكنني اقحام اشخاص مثل قيس سعيّد في هذا المشهد على علاته الكثر لأنهم بالنسبة لي لا يجيبون عن أسئلة اعتبر انها حَرِيّة بأن تطرح داخل المشهد السياسي المحتاج الى ثقافة سياسية عالية لفاعليه بقطع النظر على التيارات السياسية التي ينتمون اليها.. لنأخذ مثلا فاعل سياسي مثل لطفي زيتون هو ينتسب الى النهضة ولا يمكن ان نقول انه لا ينتمي للنهضة وهو فكر نهضوي ولديه علاقة بالإسلام السياسي في مستوى شفرة ثقافته وتكوينه. هي شيء أساسي لكن مع بعض الفوارق.. ميركل زعيمة سيديرو هي زعيمة حزب سياسي ديني قضت 16 سنة في دولة مدنية وفيديرالية.. ولن اطرح قضية النجاح والاخفاق لان الجميع يعرف ولكن ما يهمني ان القضية الدينية ليست مشكلة بالمعنى الذي نطرحه على انفسنا لأن علاقتنا بالإسلام السياسي علاقة مرضية وليست صحية ..
وماذا عن الشعبوية؟
اليوم تم جهر الفضاء السياسي ووضعه في الحد الأدنى.. لكن ما هي الخطوة القادمة؟ يجب ان تكون اعلى مما عشنا بقدر النظر عن «تخلويضنا» يعني ان نتاج تجربتنا السياسية التي أدت بنا الى عدم القدرة على جلب الامصال والاوكسيجين للتونسيين وضعنا في وضعية مزرية امام العالم وهذا عشناه في بلاد لا تتجاوز 11 مليون ونصف ساكن يعني اننا لم نقدر على التصرف في حد ادنى من السكان بطريقة تسمح بحفظ ماء الوجه إضافة الى مشهد صيف قيس سعيّد وتبعات 25جويلية.. القضية اذن ليست في قيس سعيد بقدر ماهي في الفشل الذريع للفاعلين السياسيين في انهم يقومون بفرز انفسهم من وجهة نظر علاقتهم باحتياجات التونسيين.. وسنتحدث هنا عن تجربة يوسف الشاهد التي تحيلنا على نداء تونس الذي تشكل من اطراف وفاعلين متعددين والهدف من وجودها بالنسبة للباجي هو انتخابي وللتونسيين هدفها تجاوز الفكر الظلامي . هذه التجربة لو بني عليها نوع من الالتقاء بالأطراف التي تدّعي انها تنتسب الى نفس الفكر بما في ذلك المتنورين من الإسلاميين دون الدفع بهم او اخراجهم اقاموا مسافة بمفردهم بينهم وبين تلك المنظومة وبنينا بها مشروعا جديدا يتوافق تماما مع حاجيات التونسيين لكان موقع يوسف الشاهد كفاعل سياسي موقعا ارفع بكثير من موقع اللهث وراء الانفراد بمنصب رئيس الجمهورية.. ثم ان الانطباع الذي حصل لدى التونسيين هو ان المشهد تجمد ولم يعد ثمة إمكانية لتغييره واصبح مؤثرا على المشهد الاقتصادي وهو مشهد حيفي لأنه بالنسبة للتونسي مسألة النماء لها علاقة بالمجموعة ويرون ان عملية النمو اذا لم تشمل ثمانين بالمائة من السكان ليس لها أي معنى وهذا يصعب تحقيقه في اغلب الدول بقطع النظر عن وضعنا الحالي .. لذلك لم يفهم الفاعلون السياسيون ان المسألة مرهونة بكل هذا وأن ربط السياسي بالرفاه مسألة مهمة في البقاء سياسيا بما في ذلك لسعيّد.. لان سعيد يمثل بالنسبة لي شكلا من الإحياء بعد الثورة كأننا وجدنا أنفسنا امام لويس الثامن عشر .. طبعا هذا للتندر لكن الحقيقة تكمن في مضمون الاستعادة.. هل اننا تجاوزنا واقع 2011 ام اننا سنعود الى ما دونه..
هل تجاوزنا مرحلة 25 جويلية ؟
ليست بالبساطة التي نتصور.. اعتقد اعتقادا جازما ان هذه المسألة ليس لها أفق.. وفي اعتقادي رسم الأفق اهم بكثير من محاربة الفساد.
كمؤرخ من هي الشخصية التاريخية الأقرب لقيس سعيّد؟
روبيسبير Robespierre رغم ان سعيد لم يعدم أحدا ولم يرمِ بأحد في المقصلة مثلما فعل روبيسبير لكن طريقة أدائه توحي بضيق الأفق بينما يحتاج التونسيون الى فتح هذا الأفق وليس العكس.. لأن القضية في اخر الامر وحسب المنجز الذي قام به هو ان الأداء العام للحكومة السابقة غير قادر على توفير حاجة انية للتونسيين فانخرط سعيّد في هذه الحاجة الانية ووفرها لهم بالشكل الذي يسمح لهم بعيش شكل من التهدئة والترضية.. وهذا طبيعي وصحيح ..
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 16 نوفمبر 2021