الشارع المغاربي – النزاع‭ ‬الروسي‭ ‬الأطلسي‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وتداعياته على‭ ‬التوازنات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬العالـم

النزاع‭ ‬الروسي‭ ‬الأطلسي‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬وتداعياته على‭ ‬التوازنات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬العالـم

قسم الأخبار

3 يونيو، 2022

الشارع المغاربي-احمد‭ ‬بن‭ ‬مصطفى‭ – ‬سفير‭ ‬سابق‭ ‬وخبير‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية: الحروب والنزاعات بين القوى العالمية، عادة ما تكون مرآة لحصول تحولات في موازين القوة الدولية وهو ما ينطبق على الحرب في أوكرانيا التي لا تشكل في واقع الامر سوى مرحلة في صراع ازلي للتحكم في مصير البشرية ومقدراتها، وقد ثبت ان هذه المواجهة لم تنته بعد انهيار المعسكر السوفياتي بحكم حرص الكتلة  الغربية على تحويل فوزها في الحرب الباردة الى سيطرة مطلقة وابدية على كافة ارجاء المعمورة ومنطلقا لحروب استباقية لا تنتهي على خصوم البارحة والأعداء الحقيقيين او الوهميين الذين قد يشكلون تهديدا لهذه الهيمنة حاضرا ومستقبلا. وهذا ما يفسر حدة الموقف الأمريكي الأوروبي إزاء روسيا الذي ظل يتميز عموما بالحزم بعد مرور ثلاثة أشهر على اندلاع الصراع في أوكرانيا، وذلك رغم التصريحات الصادرة مؤخرا عن كبار القادة العسكريين الأمريكيين وكذلك عن بعض القادة الأوروبيين الوازنين، وهي توحي بحصول قناعة غربية متزايدة بضرورة العودة الى تغليب لغة الحوار للبحث عن مخرج للنزاع بدلا عن المضي في سياسة المواجهة العسكرية والاقتصادية مع روسيا بهدف الحاق الهزيمة بها وتسليط اقصى الضغوط عليها لحملها على انهاء النزاع في اوكرانيا.

حقيقة الامر ان الموقف الألماني والفرنسي تميز منذ البداية عن الموقف الأمريكي البريطاني ومواقف قيادات الاتحاد الأوروبي المتشددة وذلك بدعوته للإبقاء على جسور التواصل قائمة مع روسيا مع التصدي للغزو الروسي من خلال التضامن مع أوكرانيا والانضمام الى سياسة العقوبات في حدود معينة تسمح باستمرار تزويد أوروبا بالطاقة الروسية، ويعزى هذا التباين في المواقف الغربية الى قناعة فرنسا والمانيا والمجر ودول أوروبية أخرى بان أوروبا لا يمكنها الاستغناء في الأمد المنظور عن الامدادات الطاقية والغازية الروسية. وتتقاطع هذه المواقف مع التصريحات الصادرة في الآونة الأخيرة عن القيادات العسكرية الامريكية العليا التي يجدر التوقف عندها لما تتميز به من عقلانية وواقعية في تقدير تطور موازين القوة العسكرية والاستراتيجية في العالم باتجاه تقلص التفوق الامريكي على الأطراف المنافسة وانعكاس ذلك على مكانتها وقدرتها على الردع وفرض هيمنتها على الصعيد الدولي خاصة في وجه روسيا والصين العازمتين على إعادة تشكيل التوازنات الدولية لصالحهم وانهاء نزعة الهيمنة الامريكية الأحادية على العالم.

إقرار الولايات المتحدة بانتهاء هيمنتها العسكرية على العالم

تجدر الإشارة  في هذا الصدد الى التصريحات الأخيرة الصادرة عن رئيس هيئة الأركان الامريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي بمناسبة تخرج دفعة جديدة من الضباط الأمريكيين لما  تكتسيه من أهمية بالغة من حيث  إقرارها الضمني والصريح  بحصول تحولات كبرى لغير صالح الولايات المتحدة الامريكية في معادلة القوة العسكرية والاستراتيجية وذلك بفعل ما كشفته الحرب الدائرة في أوكرانيا من تقلص كبير في حجم التفوق العسكري الأمريكي الذي ظل قائما منذ الحرب العالمية الثانية وخاصة اثر تفكك المعسكر الاشتراكي وانفراد منظومة العولمة الليبيرالية  بإدارة العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية وفقا لمصالح الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية.

وارجع المسؤول الأمريكي هذا التراجع الى وجود قوى عظمى تسعى لتغيير “النظام العلمي” ما يعني انها عازمة على انهاء ما يسمى بالأحادية القطبية الموالية لسقوط الاتحاد السوفياتي وما ترتب عنها من هيمنة عسكرية واقتصادية أمريكية شبه مطلقة على العالم. وأردف قائلا ان الولايات المتحدة “لم تعد القوة العالمية التي ليس لها منازع، مضيفا “يتم اختبارها في أوروبا من خلال العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وفي آسيا من خلال النمو الاقتصادي والعسكري الهائل للصين وكذلك التهديدات النووية والصاروخية لكوريا الشمالية، وفي الشرق الأوسط وإفريقيا من خلال عدم الاستقرار من قبل الإرهابيين”.

 وفي إشارة الى طبيعة التحديات المطروحة على الولايات المتحدة، أشار الى تزايد مخاطر نشوب نزاعات دولية كبرى في علاقة بتقلص التفوق العسكري الأمريكي امام التقدم الكبير في الطاقات العسكرية الروسية والصينية فضلا عن سياسة التسلح لكوريا الشمالية، وأوضح “إن احتمال نشوب صراع دولي كبير بين القوى العظمى يتزايد، ولا يتناقص. مهما كان التقدم الذي تمتعنا به عسكريا على مدار السبعين عاما الماضية، فإنه ينغلق بسرعة وستكون الولايات المتحدة في الواقع أمام العديد من التحديات في كل مجالات الحرب، والفضاء، والإنترنت، والقوات البحرية والجوية والبري”. وخلص الى أهمية ان تستعد الولايات المتحدة للتحولات الكبرى الحاصلة في طبيعة الصراعات والنزاعات بحكم الأجيال الجديدة من الأسلحة التي ستتغير بموجبها جذريا قواعد الاشتباك والعمل العسكري ومالات الحروب في المستقبل.

والملاحظ انه سبق للجنرال ميلى ان ادلى بتصريحات مماثلة في بداية شهر افريل المنقضي اثناء جلسة استماع امام الكونغرس الأمريكي حيث تعرض أيضا الى محدودية قدرة الردع الامريكية امام روسيا في أوكرانيا موضحا ان السبيل  الوحيد الذي كان متاحا لثني الرئيس بوتين عن حربه ضد أوكرانيا، كان الانخراط المباشر للجيش الأمريكي في مواجهة مع روسيا مضيفا انه يعارض هذا الخيار مؤكدا بذلك انسجام  المؤسسة العسكرية الامريكية   مع قرار الرئيس بايدن الذي أعلن مسبقا عن استبعاد الخيار العسكري للحيلولة دون حدوث حرب عالمية ثالثة. واللافت ان رئيس الأركان الأمريكي أفصح عن انه كان سيعارض أي توجه مغاير للسياسة التي تم إقرارها في مواجهة روسيا والقائمة على دعم أوكرانيا عسكريا مع تسليط اشد العقوبات الاقتصادية على روسيا.  

وتجدر الإشارة في ذات السياق الى الضجة التي اثارتها التصريحات الصادرة عن وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بمناسبة انعقاد مؤتمر دافوس حيث دعا الى تغليب منطق الحوار والتوصل في غضون الشهرين القادمين الى حل تفاوضي يلبي اجمالا المشاغل الأمنية الروسية بما في ذلك التعديلات الترابية على الحدود في الدوم باس والقرم، كما شدد على أهمية روسيا بالنسبة للقارة الأوروبية محذرا من الانعكاسات المدمرة لأية محاولة لعزل روسيا او اذلالها عسكريا لان ذلك سيؤدي الى دفعها لأحضان الصين والهند. والمعلوم ان كيسنجر هو من كبار المنظرين المؤثرين في السياسة الخارجية الامريكية بحكم انتمائه لما يسمى “بالدولة العميقة” الممثلة لقوى المال والاعمال وكذلك لوبيات الأسلحة في الولايات المتحدة الامريكية، وكثيرا ما يقع اللجوء الى مثل هذه التصريحات لفتح باب النقاش حول مدى الجدوى من الاستمرار في سياسات التصعيد في إطار المواجهة مع التحالف الروسي الصيني التي تحولت ضمنيا الى حرب عالمية اقتصادية مرشحة للانزلاق نحو القطيعة والمواجهة المفتوحة والشاملة بين التحالفين.

هل تقبل الولايات المتحدة بحتمية التوجه الى عالم متعدد الأقطاب؟

المعلوم ان إدارة الرئيس بايدن تعطي الأولوية منذ تسلمها السلطة الى سياسة احتواء الصين الشعبية عسكريا واقتصاديا باعتبارها الخطر الاكبر على الولايات المتحدة بحكم انها الوحيدة القادرة على تغيير أسس “النظام” احادي القطب الذي بنيت عليه الهيمنة الامريكية وهو ما كرره حديثا وزير الخارجية الأمريكي انطوني بلنكن في خضم الازمة التي احدثتها تصريحات الرئيس الأمريكي بايدن الاخيرة، المؤكدة على استعداد الولايات المتحدة للدفاع عسكريا عن تايوان ضد أي غزو صيني محتمل. لكن الرئيس الأمريكي، المعروف بزلاته الكلامية العديدة، على غرار توصيفه للرئيس بوتين بمجرم الحرب، سرعان ما حاول التدارك بإعادة تأكيد اعتراف الولايات المتحدة بالوحدة الترابية للصين دون ان يؤدي ذلك الى تهدئة خواطر المسؤولين الصينيين الذين جددوا تحذيراتهم من مغبة التمادي فيما يعتبرونه سياسة عدوانية وتوسعية ما انفكت تمارسها الولايات المتحدة في بحر الصين والمحيط الأمني الصيني، وهي ذات السياسة التي مورست ضد روسيا في أوروبا وكان مآلها الحرب الحالية الدائرة في أوكرانيا.

وهكذا لا يبدو ان القيادات السياسية الحالية للولايات المتحدة مستعدة للإقرار بفقدانها لزعامة العالم الذي تحول فعليا الى عالم متعدد الأقطاب كما ورد في عديد المناسبات على لسان الرئيس ماكرون وهي قناعة تتقاسمها قيادات غربية أخرى من صلب الحلف الأطلسي، هذا فضلا عن الدعم الصيني القوي لروسيا ومواقف عديد القوى الصاعدة في أوروبا وآسيا الرافضة للانسياق وراء سياسة العقوبات القصوى ضد روسيا. وقد حال ذلك دون تحقيق الحلف الأطلسي لأهدافه الأساسية المتمثلة في شل الاقتصاد الروسي وانهاكه للحيلولة دون تمكين روسيا من مواصلة الحرب في اوكرانيا مع السعي لتحويل هذا النزاع الى حرب استنزاف والى هزيمة نكراء قد تؤدي الى الإطاحة بالرئيس بوتين. ويعزى هذا الفشل الى ان الإدارة الامريكية تبدو، بخلاف قيادة الجيش الأمريكي وعديد السياسيين والمختصين الغربيين، عاجزة عن الإقرار بالمعادلات الجديدة الناجمة عن التحولات الكبرى في موازين القوى العالمية ومنها خاصة:

– نجاح روسيا في تطوير جيل جديد من الأسلحة الحديثة القادرة على تحييد   أدوات التحكم والسيطرة العسكرية الامريكية على الأجواء والمحيطات والممرات البحرية ومنها الصواريخ الفرط صوتية القادرة على تدمير حاملات الطائرات والاساطيل البحرية والبنى التحية الاقتصادية والعسكرية من مسافات طويلة ودون حاجة الى مواجهة مباشرة معها، وفي إطار الاستعداد منذ فترة طويلة الى هذا الصراع مع الغرب، تمكنت روسيا من تحقيق تقدم نسبي على الولايات المتحدة في هذه المجالات وهو ما جعل القيادة العسكرية الامريكية توصي بعدم المخاطرة بمواجهة عسكرية مع الجيش الروسي.

– استعداد روسيا الجيد لمواجهة سيل العقوبات الاقتصادية القصوى المسلطة عليها مما مكنها، بفضل تحالفها مع الصين وتنويع أسواقها وشركاتها، من امتصاصها والتقليل الى حد كبير من تبعاتها، بل انها حولت هذا الصراع الى حرب اقتصادية عكسية على الغرب وتحديدا على الدولار الأمريكي وعلى كل ما يرمز الى الهيمنة الغربية الامريكية على المنظومة المالية والمبادلات التجارية العالمية. ولعل هذا هو مصدر الانشغال الكبير للولايات المتحدة التي تدرك جيدا ان المحور الروسي الصيني وحلفائه من مجموعة البريكس عاقدون العزم على اللجوء الى كافة السبل لإنهاء الهيمنة المالية والاقتصادية التي تمارسها أمريكا على العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

– كشف هذا الصراع الذي تحول الى حرب دعائية وإعلامية، ازمة الديمقراطية الغربية في كافة جوانبها المبدئية والقيمية المتصلة بحرية التعبير المهددة بسياسة المعايير المزدوجة وقمع الراي المخالف وتحويل الشعوب المسالمة للقارة الأوروبية وبلدانها الى وقود لحروب مدمرة من اجل استمرارية سطوة منظمة العولمة وقوى المال والاعمال ولوبيات الأسلحة على العالم. ولا بد من الإشارة في هذا الصدد الى الدور الخطير والمشبوه الذي يضطلع به الاتحاد الأوروبي منذ البداية في اذكاء الصراع بدلا من التعاون في أوروبا ومساهمته بقسط وافر في سياسة تمدد الحلف الأطلسي التي أدت الى انفجار النزاع في أوكرانيا. ولا شك ان الدور المماثل الذي يضطلع به الاتحاد الأوروبي في جنوب المتوسط هو الذي ساهم بقسط وافر في ايصال تونس والمنطقة المغاربية الى الأوضاع المزرية التي تتخبط فيها، وعلى قادتنا ومثقفينا وشعوبنا ان يستخلصوا الدروس الواجبة من الصراع الاوكراني في مستوى إدارة العلاقات مع مجموعة السبع والبحث عن شراكات جديدة مع القوى الصاعدة في خضم تشكل العالم المتعدد الأقطاب.

يبقى ان نشير الى ان روسيا، وان كانت بعيدة عن حسم الصراع لصالحها على الميدان، فإنها تمكنت اجمالا من  شل قدرات  الجيش الاوكراني واقتربت من تحقيق السيطرة على المدن والمناطق الاستراتيجية المدرجة ضمن أهدافها بما فيها البحر الأسود وبحر ازوف وهو ما سيجعلها في موقف قوة في اية مفاوضات مرتقبة للتوصل الى حل سلمي للصراع الروسي الأطلسي الدائر في أوكرانيا.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 31 ماي 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING