الشارع المغاربي: سئل رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر اللواء حسين طنطاوي عن سبب تسليمه الحكم للإخوان المسلمين فأجاب قائلا: “لم أسلّمهم الحكم بل سلّمتهم إلى الشعب المصري”. بعد سنة واحدة خرج المصريون ينادون بسقوط حكم المرشد وأغلقوا قوسا لم نستطع نحن التونسيّون إلى اليوم إغلاقه. والمتأمّل في الساحة الإسلاميّة بتونس يلحظ أنها تحتوي على تشكيلات وتنظيمات وأحزاب لا عدّ لها ولا حصر أقواها على الإطلاق حركة النهضة التي استطاعت لأسباب شتى أن تحكم البلاد لوحدها وإن استعملت بعض الكومبارس للتغطية والتمويه طوال عشر سنوات لم نعرف فيها سوى الاغتيالات والقتل وارتفاع الأسعار والهوان بين الدول الأخرى وتصنيف تونس دولة راعية للإرهاب ومصدّرة للإرهابيين، ممّا أدى إلى تراجع تأثير الحركة وتآكل خزانها الانتخابي وانتشار الغضب الشعبي على السياسات التي انتهجتها. فهل انتهت حركة النهضة اليوم أو أنها غيّرت جلدها مثلما تفعل الزواحف؟.
في تقديري أن حركة النهضة التي عرفناها منذ سبعينات القرن الماضي وبالأسلوب الذي كانت تدار به والشعارات التي كانت ترفعها انتهت إلى غير رجعة. يدلّ على ذلك:
1) تآكل التأثير الذي كان يمتلكه مؤسّسها داخل حركته. فإننا رغم أن القيادات والهياكل جميعها من اختياره وأدّت له البيعة على الولاء والطاعة فإننا شاهدنا في الفترة الأخيرة تنطّعا واستقالات وحديثا في وسائل الإعلام عن مسؤوليّة الغنوشي في ما آل إليه التنظيم من ضعف وهوان خصوصا بعد تغييره قائمات المرشحين في انتخابات 2019 وما سبق ذلك من اللّغط حول تعيين أقاربه وأتباعه في المناصب الوزاريّة دون التفات إلى الكفاءة أو الأحقية الموضوعيّة. فالغنوشي الذي استطاع التخلّص من المؤسّسين جميعهم وأصبح الحاكم بأمره تجرّأ عليه رجال الصفّ الثاني الذين صنعهم ليجد نفسه يوم 25 جويلية وحيدا أمام أبواب برلمان مغلق في وجهه رغم دعواته أنصاره للالتحاق به.
2) التنظيمات الإخوانية جميعها تنأى بمرشدها عن خوض الانتخابات حماية له من أن يكون عرضة للقدح والمساءلة. فهي بذلك تحافظ على قدسيّة منصب يبايعه المنتسبون في المَنْشَط والمَكْرَه وتمكّنه كذلك من أن يكون المظلّة القادرة على التجميع داخل حركته وفي الفضاء الإسلامي عموما. وقد يقول معترضا إن هذه القاعدة خُرقت لمّا ترأّس الترابي البرلمان وجوابنا على ذلك أنها لم تخرق لأنّ الحاكم الفعلي للسودان أيامها كان الترابي الذي وضع عمر البشير رئيسا صوريا. هذه القاعدة حافظت عليها كلّ الحركات الإخوانيّة باستثناء فرعها الموجود لدينا إذ تهافت الغنوشي على الرئاسة ورضي بالبرلمان رغم أنّه كان يطمع في رئاسة الجمهوريّة وهو ما مثّل البداية الحقيقيّة لسقوطه ومن ثم انهيار حركته.
3) استطاعت حركة النهضة أن تحوّل جرائمها إلى نضال استثمرته طوال سنوات السجن والمهجر لتكتسب بذلك تعاطف الداخل ومساندة الخارج ممّا ساعد على وصولها إلى الحكم إلا أنها كشفت ضعفا متناهيا في إدارة الشأن العام وتهافتا على المناصب والمنافع المالية ممّا دفع بمناصريها في الداخل والخارج إلى ملازمة الصمت البليغ لمّا وقع تجميد البرلمان وفتح أبحاث قضائيّة في شأن الوجوه البارزة في قيادتها رغم صدور بيانات باهتة من هذا الطرف أو ذاك.
قال ابن المقفع في إشراقة من إشراقاته: “المُلك سريع الانتقال من أيدي الملوك وليس بعائد إلى من انتقل عنه لأنّ من عجز عن حفظه وهو في يده فهو في إعادته أعجز”، وهو ما ينطبق على حركة النهضة التي توفّرت لها فرصة حكم البلاد ولكنها أضاعتها لأنها لم تضع في اعتبارها أن حكم تونس ليس بالأمر السّهل بل هو من الصعوبة بمكان. فكلّ الذين تولّوا أمر البلاد منذ المنصف باي إلى اليوم عزلوا جميعهم ولم يكمل أيّ واحد منهم مدّته وخرجوا على غير رغبة منهم وهو الدرس الذي يجب أن يتعلّمه حكام تونس حالا ومستقبلا. والسؤال الذي يطرح نفسه هل أن غياب حركة النهضة يعني غيابا للحركات التي تخلط الدين بالسياسة؟ في تقديري أن الأسس العقديّة التي تجتمع حولها كل التنظيمات والحركات الإسلاميّة وتمثل عمودها الفقري تجد الحماية والرعاية من سلطة 25 جويلية 2021 يدلّ على ذلك:
1)السعي لإقامة الخلافة مقصد أساسي وهدف استراتيجي لكلّ التيارات الإسلاميّة وقد قال الغنوشي إنها: “الثمرة الطبيعيّة لعقيدة التوحيد الإسلاميّة، تبقى (الخلافة) هدفا لجهاد الأمة لا يحلّ ولا يصلح لها التنازل عنه بل ينبغي السعي إليه بتدرج عبر أشكال مرنة من التوحّد”(1)، هذا الهدف حاضر اليوم بقوة وبأكثر وضوح وإصرار حيث نشاهد أن حكم 25 جويلية يرعى حزب التحرير ويمكّنه من عقد مؤتمره تحت حماية أمنه وفي نفس الوقت ينكّل بدعاة الحفاظ على الدولة المدنيّة ويمنعهم من إظهار معارضتهم لحزب يستهدف إسقاط دولة الاستقلال حتى يقيم على أنقاضها دولة الخلافة وبول البعير والإماء والجلد.
2)تطبيق الشريعة مطلب يتنادى له كل الإسلاميّين ويرفعونه شعارا لهم في كلّ المناسبات صاغه حكم 25 جويلية في الفصل الخامس من الدستور الذي يفرض على الدولة تطبيق ما سمّاه مقاصد الشريعة التي لا تعني شيئا غير الشريعة لأنه ليس هناك مقاصد خارج ما نصّت عليه الشريعة من رجم وتكفير وإلقاء من شاهق وغير ذلك. جاء في اللائحة العقدية لحركة النهضة التي أجازها لهم يوسف القرضاوي ما يلي: “ومن المهمّ أن نلاحظ أن هذه المقاصد ليست بمعان خارجة عن نصوص الوحي حتى نطلب إدراكها من جهة غير جهة تلك النصوص”(2).
3) الفهم الشكلي والتطبيق الحرفي للنصوص واستبعاد إعمال النظر فيها. جاء في اللائحة المذكورة: “فالنصوص القطعيّة ورودا ودلالة ينحصر عمل العقل في فهمها في إدراك المعاني التي تدلّ عليها واستيعابها وتمثلها كتمثّل الحدود والكفارات”(3) . من ذلك أن أنصبة الورثاء الواردة في آية المواريث يعتبرها عبدة النصوص ممّا لا يجوز التصرّف فيه رغم الحاجة إلى ذلك لقصور في الفهم. فالله حدّد الأنصبة حتى يلجأ إليها الورثاء عند الاختلاف في اقتسام التركة حفاظا على العائلة من التفكّك ولكنه لم يمنع التصرف فيها واقتسام التركة وفق ما يرى الورثاء ويرغبون. فليس هناك مانع شرعي إن تنازل البعض للبعض الآخر عن نصيبه أو تمّ تنفيل أحدهم بما هو أكثر من نصيبه المحدّد شرعا طالما أن ذلك يتمّ بموافقة بقية الورثاء. هذا المعنى يغيّبه كلّ المنتمين للفضاء الإسلامي في إطار معاداتهم للمرأة والالتزام الحرفي بالنصوص دون إعمال النظر فيها تحقيقا للمصلحة، من ذلك أن الرئيس قيس سعيد لمّا سئل إن كان متمسّكا بموقفه الرافض لمشروع قانون المساواة في الإرث قال: “نعم وسأردّ عليهم بأمور علميّة”(4).
4) بعد سنة 2011 عيّنت حركة النهضة نور الدين بن حسن الخادمي وزيرا للشؤون الدينيّة فاستحوذ على الجوامع والمساجد جميعها بتعيين المنتسبين لحركته أيّمة ومؤذنين وغيرهما، وحاصر الأيمّة الذين رفضوا الانصياع لرغبات الوزير الإخواني، ورغم أن القوى المدنيّة جميعها طالبت منذ سنوات بتحييد المساجد عن العمل السياسي فإن شيئا من ذلك لم يحدث وحتى بعد 25 جويلية بقي الحال على ما هو عليه بتعيين وزير يرى أن الغنوشي مفكر ومجدد إسلامي ويشارك في مناقشة رسالة طالب عن ذلك، فضلا عن شكاياته المتكرّرة بالأيمة المعتدلين وبالصحفيين والغريب في الأمر أن هذا الوزير أبقى على خطيب أنصار الشريعة المدعو المختار الجبالي في الإمامة لأنه من أقرب المقرّبين إليه إذ نراه حاضرا في ما يسمى بأنشطة الوزير، فالحكم الذي يعطي المنابر لأنصار الشريعة لا يمكن إلا أن يكون نسخة مشوّهة لحركة النهضة أشدّ يبسا منها وأبعد تطرفا وزيغا عن مصلحة الوطن.
لكلّ ما ذكر أعلاه فإن حركة النهضة وإن غادر بعض قادتها الساحة السياسيّة بعد أن لفظهم الشعب فإنها فكرا وعقيدة ما زالت تمثّل العمود الفقري للتنظيمات الإسلاميّة التي يحميها حكم 25 جويلية ومن بينها بؤرة القرضاوي وحزب التحرير ورابطة تونس للثقافة والتعدّد والمئات من الجمعيات التي تعمل على أخونة المجتمع تحت ستار النشاط الخيري وتعليم القرآن وكيفية تغسيل الموتى.
——————–
الهوامش
1) “الحريات العامة في الدولة الإسلاميّة” راشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى 2011، ص364.
2) “من تجربة الحركة الإسلاميّة في تونس” راشد الغنوشي، دار المجتهد للنشر والتوزيع، طبعة تونس الأولى 2011، ص309.
3) من تجربة الحركة الإسلاميّة في تونس ص310.
4) جريدة الشارع المغاربي بتاريخ 11 جوان 2019.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 30 ماي 2023