الشارع المغاربي – العربي الوسلاتي : في الوقت الذي تتسابق العيون على رصد كلّ كبيرة وصغيرة عن هذا العالم المليء بالتطورات والمتغيّرات. وفي الوقت الذي تتهافت التلفزات بشقيها العام والخاص على أسر المشاهدين داخل إطارها السحري تتواصل «الأشهر الحرام» داخل مؤسسة التلفزة التونسية ويتواصل “الصيام” عن نقل مباريات كرة القدم وخاصة مباريات بطولة الرابطة المحترفة الأولى التي بالكاد التهمت شطرها الأوّل تحت جنح الظلام.
في 2022 ونحن على مشارف عهد التكنولوجيات والمنصات والتطبيقات الحديثة المارقة عن التقاليد والنواميس والأعراف يتم حرمان جماهير كرة القدم التونسية من مواكبة مباريات فرقها ومنتخبها في سابقة هي الأولى من نوعها منذ انطلاق البطولة ومنذ اقتحام التلفزة حرمات البيوت.
الأسباب كثيرة والتبريرات أكثر والمتهمون معروفون. فملف النقل التلفزي موضوع منذ مدّة طويلة على طاولة النقاش بين مرفقين عموميين من المفروض أنهما يسهران على توفير أبسط مقومات الرفاهية لشعب يكاد يتسوّل الأكسيجين ليعيش. الحديث هنا عن الجامعة التونسية لكرة القدم ممثلة في شخص رئيسها وديع الجريء ومؤسسة التلفزة التونسية ممثلة في كلّ العاملين المنتسبين اليها بدءا بحارس «المملكة» وصولا الى الرئيس المدير العام الجالسة على كرسيّها «الهزّاز».
البعض يحاول تصوير الخلاف القائم بين المرفقين على أنه قضيّة مبدئية لا تتجزّأ ولا نقاش ولا جدال فيها. والبعض الآخر يحاول ايهام البقيّة بأنّ طرفي النزاع لا ناقة لهما ولا جمل بما يحدث من مدّ وجزر في بحر المفاوضات والنقاشات ويحاول الزجّ بملف حقوق الأندية وبعلوية النصوص القانونية في جوهر الخلاف. جامعة كرة القدم وفي آخر تحديث لمواقفها ولبلاغاتها أعلنت يوم الاثنين 21 فيفري 2022 ان المكتب الجامعي برئاسة وديع الجريء قرر اثر اجتماعه الدوري الأخير مكاتبة وزير الشباب والرياضة كمال دقيش قصد تحديد موعد في غضون الأسبوع الذي زامن البلاغ وذلك لعقد جلسة عمل تجمع الوزير برئيس الجامعة ورؤساء أندية الرابطة المحترفة الأولى والمكلفة بتسيير مؤسسة التلفزة الوطنية لمناقشة موضوع البث التلفزي والتعرّض لمختلف الصعوبات التي تعترض الأندية والتباحث بشكل تشاركي في الحلول المتاحة والممكنة.
وكعادتها لم تتحرّج الجامعة وهي الطرف الأوّل المتهم بحرمان الجمهور من حق النفاذ الى «الصورة» بأنها “لم تمنع التلفزة الوطنية من التصوير ومن بث المقابلات الرياضية” وبأنها “لم ترفض مبدأ التقسيط “مؤكدة انها “لا تسطيع من تلقاء نفسها مراجعة عقد أو اتفاقية ممضاة منذ 3 سنوات مضمونها يهم بالأساس الفرق الرياضية” وانه “سيترتب آليا عن أية مراجعة في معلوم نقل المقابلات الرياضية التخفيض في عائدات الأندية” مشيرة الى ان ذلك “يستوجب موافقة الأندية».
بالنسبة لمؤسسة التلفزة التونسية التي تسيّر حاليا بقدرة قادر بحكم الضغوطات الكبيرة المفروضة على رئيسها المدير العام عواطف الدالي الصغروني في ظلّ هذا الوضع السياسي المتقلّب الذي تعيشه البلاد لم تحرّك ساكنا تجاه بلاغ الجامعة رغم انها حرصت في الفترة الماضية وخاصة في الفترة التي تلت 25 جويلية على الردّ على كلّ بيانات وبلاغات الجامعة ترى أنه من واجبها الدفاع عن المال العام وبأنّه لا يمكن بأيّة حال من الأحوال الاستمرار في التعامل بعقد تمّ توقيعه تحت الضغط حتى لا نقول تحت التهديد. فالجميع يعلم ان العقد المبرم بين الجامعة التونسية لكرة القدم والتلفزة كان بتعليمات شخصية من رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد الذي أجبر التلفزة على الرضوخ لإملاءات ومساومات الجامعة. لهذه الاعتبارات ترى إدارة التلفزة أنه لم يعد بالإمكان المواصلة في هذه العلاقة التعاقدية التي تضّر بالمؤسسة وعلى ما يبدو فإن موقفها هذا يتوافق تماما مع رؤية الحكومة الحالية التي تلتزم الصمت تجاه حالة «الصيام الكروي» المتواصلة داخل كاميروات وأروقة التلفزة.
وقبل التمعّن أكثر في طبيعة المواقف بين الطرفين والحديث طبعا عن التلفزة والجامعة وجب التأكيد على أنّ آخر التطورات المحيطة بهذا الموضوع تفيد بأنّ جلسة مرتقبة كانت ستجمع وزير الشباب والرياضة كمال دقيش ووديع الجريء رئيس الجامعة التونسية لكرة القدم وعواطف الدالي الصغروني الرئيس المدير العام للتلفزة الوطنية. هذه الجلسة كانت ستخصص بطبيعة الحال للنظر في ملف النقل التلفزي. وكان الاتجاه يقضي في صورة التوصّل الى اتفاق بعودة الحياة الى قسم الرياضة بالتلفزة والى عودة برنامج «الأحد الرياضي» للظهور منذ الأحد الماضي ولكن لم يحصل أيّ شيء من هذا وتواصل نوم «الجامعة والجماعة» في العسل وكأن شيئا لم يكن.
مصادر موثوقة كشفت لـ«الشارع المغاربي» أنّ وزير الشباب والرياضة لم يتلق الى حد الآن التعليمات أو التوصيات التي تجعله يقبل الجلوس الى وديع الجريء بعد أنّ كان الوزير بالأمس القريب وتحديدا قبل بزوغ فجر «التغيير» الذي لا نعرف الى حدّ اللحظة ان كان مجيدا أو لا هو الذي يدعو الجريء للجلوس الى طاولته. وفي سلوك الوزير وتجاهله دلالة واضحة على موقف السلطة تجاه الجريء بما أن الجميع يدرك أنّ الوزير لا ينطق عن الهوى ولا يتحرّك فقط وفق رغباته أو قناعاته ولكن بأوامر فوقية من رئيس الجمهورية الذي يعرف جيّدا هو الآخر أنّ ملف النقل التلفزي لمباريات البطولة هو أشبه بملفّ أمن قومي فالكرة في معجم الفقراء والمجانين أشبه بالخبز وحرمانهم من هذه «النعمة» يرتقي لجريمة «التجويع». مع ذلك لا يبدو رئيس الجمهورية منزعجا جدّا لانزعاج هذا الشعب الكريم ولحرمانه من أبسط حقوقه… قد تكون الحروب المفتوحة التي يخوضها «الرئيس» على أكثر من واجهة تشغله عن الخوض في هذه المسائل الحياتية «التافهة» مثلما يراها حسب تقديره وقد يكون الملف برمّته لا يرتقي إلى مرتبة القضايا المتراكمة والملقاة على طاولته الكبيرة من وجهة نظر مستشاريه لكن ماذا لو كان الأمر متعمدا ومفتعلا لغاية في نفس يعقوب الذي يميل هذه المرّة على ما يبدو لهدم البناية برمّتها قبل التفكير في إعادة ترميمها وهذا ربّما أصل البليّة.
اليوم وبعيدا عن رمي الخصوم المتلاعبين بالنصوص وبالأعراف بالتهم الجزاف والخوض في النوايا العجاف ودون الغوص أكثر في تفاصيل معركة ليّ الذراع المتواصلة بين الطرفين بل بين كل الأطراف جامعة وتلفزة ووزارة يبدو أنه آن الأوان لهذه المهزلة ان تنتهي. اليوم لم يعد يليق بهذه البلاد المترنحة فوق صراط الفوضى والانفلات أن تبقى سجينة حماقات وسخافات بعض المراهقين الذين قادتهم الصدفة وحدها لا غير نحو واجهة الأحداث. اليوم لا بد لهذه العتمة ان تنجلي ولا بدّ لهذا القيد أن ينكسر وتعود الحياة الى طبيعتها. ما يجب أن يفهمه رئيس الجمهورية اليوم هو أنّ كرة القدم ومتابعة مباريات البطولة المحلية على التلفاز هي من أبسط حقوق المواطن بل هي من أدنى شروط المواطنة. وعلى الرئيس أن يعي وقبل فوات الأوان أنّ منسوب الاحتقان داخل النفوس والصدور يرتفع يوما بعد يوم والحرمان من متعة الكرة يضاهي في الآن نفسه مرتبة الحرمان من الخبز والزيت والبيض وبقيّة مستلزمات الحياة التي صارت اليوم للأسف مكتسبات لمن استطاع اليها سبيلا… فهلاّ لم يحن الأوان بعد لضرب المدفع وتفريق الخصوم الواقفين على تخوم مبنى التلفزة؟ ألم يحن الأوان بعد ليُقحم رئيس الجمهورية نفسه في ملف شائك وعالق بات يزعج كل التونسيين دون استثناء؟ أو ليس التدخّل أو الحسم في خلاف بين جامعة رياضية ما وتلفزة عمومية أوهن وأيسر من هدم قبة البرلمان أو حلّ مجلس القضاء بمن فيه؟؟؟
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 1 مارس 2022