الشارع المغاربي: ماحقيقة ماجرى يوم الخامس والعشرين من شهر جويلية 2021؟ وما جدوى ما تبعه من ”تدابير استثنائية ” يوم22 سبتمبر 2021 ؟وهل من سبيل إلى تجاوز التناقض بين هذين العنصرين الرياديين من ناحية وما استبد بالتونسي من إحساس بغموض المستقبل وتزايد الشعور بهشاشة أوضاعه لاسيما اقتصاديا وسياسيا وصحيا وتربويا من ناحية أخري .تلك أسئلة على غاية من الأهمية لأن نوعية الإجابة عنها تسمح بتقييم ما ترتب عليها .
والحق أنه قلّ من يجادل –إلاّ عن مكابرة او سوء تقدير- في أن غالبية الشعب التونسي قرّر أن يجعل من عيد الجمهورية هذه السنة عيد إجلاء الاستعمار الداخلي، بوضح حد لعشر سنوات من تحطيم الوطن ، بالمكر بثورة شباب مدرسة الجمهورية المطالبة ”بالشغل والحرية والكرامة الوطنية” بصفتها حدثا تاريخيا هيأت له دولة الاستقلال ذاتها كل ظروف النجاح في إطار سعيها الدءوب منذ خمسينات القرن الماضي ، إلى الارتقاء بذاتها إلى مصاف الدولة الوطنية الديمقراطية ’حتى وان لم تع تفاصيل مسيرتها الوعي الصحيح ،ذلك انه لئن سلمنا بأن الشعوب تصنع تاريخها ،فانه لامناص من الاعتراف أنها لا تدرك مباشرة أي تاريخ تصنع .
ولما لم تكن الوطنية ولا الديمقراطية ولا التنمية من اهتماما ت الحاكمين فعليا في تونس منذ عشر سنوات بقيادة الإسلام السياسي ، إلاّ على جهة الدعاية الفجة ، أو التقية الظرفية ،كان من الطبيعي أن يسعى الإسلام السياسي منذ بواكير سنة 2011 إلى إجهاض طموح التونسيين إلى أن يكون غدهم أفضل من يومهم . وسلك فيهم سلوكا استعماريا صرفا ،على معنى أنّ الاستعمار مطلقا إنما هو ضع بشري تشلّ فيه إرادة الأمة فتعجز تماما عن الفعل ، فإذا هي في عداد الموتى وان لم تكرّم بدفن .وقد بلغ هذا الاستعمار الداخلي في تدمير الوطن مبلغا بعيدا يعرف جميع التونسيين اليوم مآسيه وخاطره
وما كانت تلك المخاطر أن تخفى على أي تونسي ذي حس سليم، فضلا عن أن يكون من المختصين في القانون الدستوري أو من يدعى إفراط فطنة وطول خبرة.وما كان لتونسي أن يتحالف مع صناع تلك المخاطر ،في ”وفاق ” قام على الغش والمكر بالوطن .
لذلك كانت الإجراءات التي اتخذها رئيس الجمهورية يوم 25جويلية إجراءات سياسية محض ،وجاءت-وان ببعض التأخير – تلبية لنداء الوطن الجريح ’ونزولا عند مقتضى الارادة الوطنية التي قررت –بعد صبر طويل –استئصال الاستعمار الداخلي الخوانجي ، تماما كما أزالت أمس الاستعمار الخارجي الفرنسي .وبهذا التقدير تكون تلك الإجراءات –في حقيقتها – بادرة سياسية ثورية بامتياز واقعة في أفق معركة تحرر وطني ، حتى وان استفاد منها الاسلام السياسي أيما استفادة ، اذ حمته من غضب شعبي ما كان أحد يقدر عواقبه .
ولما كان الأمر كذلك ، كانت عكاضيات الجدل ”القانوني غير ذات موضوع ،اذ ليس ثمة عمل يكون ثوريا وقانونيا في آن واحد ،كما أنه ليس ثمة دائرة مربعة فذلك من قبيل المدركات المنتفية كما يقول المناطقة Contradictio in adjecto ،على معنى أنه ليس ثمة عمل ثوري يقع طبقا لما توجبه القوانين القائمة ،ذلك أنه انما يقوم العمل الثوري لنفي تلك القوانين ورفض الواقع الذي تعبر عنه وتسنده .لذلك كان الفعل الثوري ”لامعياريا” و”لاقانونيا” ، بل شأنه أن يحاكم الواقع و يعلو على ”القانونية” باسم ما نسميه مع فلاسفةالسياسة في العصر الحديث ” الشرعية” .فالطفل الفلسطيني الذي يرمي المستعمر الصهيوني بالحجارة ، يعلم أنه يأتي عملا ”لا قانونيا” ’ ولكنه على حق حين يعتبر أنه يقوم –في ذات الوقت- بعمل شرعي .وشرعيته لازمة ضرورة عن موجبات التحرر الوطني الفلسطيني .والتونسي الذي هاجم مواضع تمركز الاسلام السياسي يوم الاحتفال الشعبي بعيد الجمهورية الرابع والستين يعلم انه يأتي فعلا لا قانونيا ، ولكنه يعتبر أن حقه في الحياة وواجب الدفاع عن الارض والعرض يجعلان عمله شرعيا بامتياز .
وهكذا فانّ القانونية ترتد إلى الوجود القائم في الأذهان أو الأعيان ’ أو فيهما معا ،في حين أن الشرعية تستشرف ما يحب ان يوجد مستقبلا ، على أن تسنده قوانين تكون معاييرها طموحات سياسية واجتماعية و ونفسانية وأخلاقية واقتصادية . .. وتلك المعايير –مجملة – هي مانسميه مكونات ” الإرادة العامة” التي بها هي وحدها تكون ما يجب ابستيمولوجيا ان يسمى ”الشرعية”’وهي مختلفة بدورها عن ”المشروعية” .
ونعني بالمشروعية Légitimabilité مابه يقوم إمكان البرهنة على ” الشرعية”.ولا تختلف هذه القابلية عن ظواهر أخرى كثيرة في حياتنا اليومية مثل مايسميه العربي المقروئية اي قابلية القراءة قبل أن تحصل فعلا ، او المكتوبية اي قابلية الكتابة قبل فعل الكتابة ذاتها ، والمعدومية اي قابلية الشيء للإعدام .ويدور الامر هنا على بنية قيمية هي الارومة التي منها تستمد “مشروعية” الشرعي .
ذلك ما جعلنا ننبه الى أن الشرعية غير القانونية و المشروعية غير الشرعية .ويعني ذلك أن الشرعية Légitimité أسمى من القانونية Légalité ،وما لم نميز بينهما انسقنا الى القول ”بالانقلاب ”على ”الدستور” حدا أقصى أو الى القول بالتوسع في تاويله دون خروج عنه حدا ادني .والحق أنه ما من شيء -اطلاقا- يمكن أن يحتج به ضد شعب يطالب بحريته باعتبارها القيمة المطلقة الوحيدة التي لاتحتاج الى تعليل أو تبرير أو تفسير’ ذلك انه ليس فوق الحرية فوق وليس تحت الحرية تحت ،وليس لأي كان أن يسائل شعبا أو فردا لماذا الحرية؟وما من اجابة ممكنة الا من قبيل تحصيل الحاصل :نريد الحرية لانها الحرية .لذلك سماها فلاسفة القانون والدساتير من غروتيوس Grotius حتى كانط مرورا بلوك ومونتاسكيو وروسو خاصة ، ”السيادة” ’ وردوها إلى ”الإرادة العامة” .
لذلك بدا لي أنه يجب أن يكون القائلون بأن ماجرى يوم 25جويلية” انقلابا ” أقل التونسيين إحساسا بنبض الأرض ،وأدناهم وعيا بنفاذ صبر التونسي وقد اشتد شوقه الى ذاته والى وطنه ،بعد غربة عنهما امتدت مرارتها عشر سنوات ’كان برلمان 2019 أكثرها مرارة وإذلالا له، بسبب تهور الإسلام السياسي وإصراره على حمل التونسي يسيرا يسيرا على الخلط بين الحرية والفوضى ،وتلك من ضرورات التمهيد لترشيح نظام الحاكمية الإلهية بديلا عن الديمقراطية .وقد كان ما سمّي ”ترذيل البرلمان” جزءا من مخططه لإفشال التحول الديمقراطي ،نزولا عند مقتضى مطمع الخلافة السادسة الذي يوجب النفار من الديمقراطية .
ونستبين مما أسلفنا أن مجمل ما جريات يوم 25 جويلية 2021، تشكل في تضافرها بادرة سياسية وطنية تحريرية – مبدأ وغاية- شرعيتها تغني عن كل ضروب النقاش القانوني الصرف بدعوى اختبار مدى ملاءمتها آو انزياحه عن القوانين الجارية بما في ذلك دستور2014 ، لا بحكم ما فيه من غموض وغش أو تلاعب ،بل لثانويته -مكانة ووظيفة- بالإضافة إلى أولية شرعية الفعل السياسي التحريري .
ومما يترتب ضرورة عن هذا التمييز الواضح بين السياسي والقانوني ’أن كل قانونية لاتسند إلى الشرعية لاغية وجوبا لأنها تؤول عاجلا أو آجلا الى ”الفساد” و”الاستبداد”.وهو ماجسمه فعلا حكم الترويكا خلال العشرية البائسة المنصرمة .ولأمر كهذا كان روسو’ شيخ الدستوريين المحدثين يفضل ”الدستور الناقص” على ”الأمير الصالح ” ،تقديرا صحيحا منه أن الحكم الفردي المطلق مفسدة مطلقة ، كما كان الفقيه رضي الدين علي ابن طاووس رحمه الله يفضل في حضرة الطاغية هولاكو الامير الكافر العادل على الامير المؤمن الظالم لسبب بسيط وهو أنّ عدل الأمير لصالح عموم ”الرعية” أما إيمانه او كفره فيعنيه وحده.
ولكن الشرعية بلا قانونية عاجزة كليا عن تحقيق قيمها في غير لجوء الى القوة فضلا عن العنف الذي يبقى مرفوضا حتى ولو كان واعدا بالجنة.لذلك كانت كل شرعية تشفع ضرورة ببنية من القوانين الناجزة في تدبير الشان العام .وبذلك نتبيّن ان التقنين والإجراءات والشكليات من توابع الشرعية لا شاهدة لها أو عليها فضلا عن ان تكون لها القيادة .وذلك هو الخطأ الفادح الذي كرسته ما سمي توهما ”بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي”.
ويبدو ان ذلك ما فعل رئيس الجمهورية حين اصدر لائحة 22 سبتمبر 2021 المتعلقة ”بالتدابير الخاصة بممارسة السلطتين ”التشريعية” و”التنفيذية ” على النحو الذي يقتضيه تحرير الوطن من الوضع الاستعماري الذي وقع فيه.
غير أن صحة المنطلقات وسلامة الغايات ، وحسن النوايا ،لا تكفي وحدها –على أهميتها – لاستقامة منهج تدبير الشأن العام .وليس لأي وطني واع بخطورة أوضاع الوطن أن يسلم لأي كان ، بإمكان التفرد بتدبير مستقبل الوطن ، حتى لو ادعى- في زمن اليتم السياسي – أنه المسيح المنتظر .وليس أدل على إرادة التفرد تلك من أن رئيس الجمهورية حمّل نفسه ما لا يمكنه ان يتحمّله حتى لو أوتي قوة أربعين منّا ،وذلك حين استأثر ببدعة الجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في حين أن لاشيء يدفعه –راهنا-إلى مثل هذا الاختيار – اذ من المكن اليوم إعادة البرلمان إلى سالف نشاطه باستثناء الأحزاب او الأفراد الذين بينت محكمة المحاسبات أن فوزهم في الانتخابات لم يكن سليما ، إضافة إلى من تعلقت بهم قضايا مدنية أمام المحاكم التونسية .ولمن تبقى من أعضاء المجلس المعلق أن يقرروا إما حل انسفهم بأنفسهم وإما البقاء في شكل برلمان مصغر اغلب أعضائه من القوى الوطنية التي يمكن التعويل عليها في ايجاد ما تحتاجه المرحلة من التشريعات بما في ذلك تغييربعض أحكام الدستور الحالي . ومهما كانت عيوب هذا التمشي، فانه افضل من المسار الذي تخيّره الرئيس ، لانه يجنبه بكائيات المتحسرين على دستور اتخذ آلة لتحطيم الوطن وتهديم الدولة ، وانتقادات الأصدقاء في الداخل والخارج الذين يفضلون –محقين –دستورا سيئا على سلطة مطلقة دون رقابة ولا معرضة رادعة وقتية ،وهو أشنع ما يصيب الأمم .
ومما يزيد الأمر غموضا ان ”صحيفة التدابير المؤقتة ” خلطت خلطا مؤسفا بين الضروي العاجل مثل الموافقة على المعاهدات والقانون الانتخابي والتصريح بالمكاسب والقانون الأساسي للميزانية من ناحية أولى ، والزائد عن الحاجة راهنا من ناحية ثانية مثل ”الأحوال الشخصية ” ،وما لايقع تحت سلطان الرئيس ثالثا ، مثل تحديد ”الواجبات الأساسية للمواطنة” أو ”تنظيم الإعلام والصحافة والنشر ”او النقابات والهيئات المهنية الخ .وشان هذا الغموض ان يدفع الى الخوف على المستقبل ’ وأن يتخذ حجة للتنديد بالاستبداد الزاحف .
وهكذا يجعلنا السيد الرئيس امام بادرة وطنية تاريخية ،لكنها تنفتح على مستقبل غامض يكاد يعصف بها كليا .فالمواطن لا يفهم لم يسكت السيد الرئيس عن جرائم الإسلام السياسي التي يعاقب عليها القانون الحالي مثل الاعتداء السافر على مدرسة الجمهورية بفتح ”مدارس ”موازية لتفريخ الإرهاب ’في مقدمتها قرضويات مايسمى ”الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” .وما من أحد يصدق أن مراقبة تصنيع حديد البناء او تقنيات تخزين البطاطا مثلا -على أهميتهما –أكثر تأكدا من تحصين أجيال تونس من مخاطر خلخلة إيمانها بذاتها وبوطنها وإفساد وجدانها .ولن تجد من التونسيين من يصدق أن الضغط الاسمي على الأسعار أجدر بالعناية من فتح ملفت التوريد الذي اضر بالاقتصاد الوطني ’أوملفات تمويل الأحزاب والجمعيات وتسفير أبنائنا الى مواضع التقاتل ، وكذلك ملفات القروض والهبات الى تحصلت عليها تونس خلال العشرية الماضية، فضلا عن ملفات جروحنا النازفة على الدوام ،انها ملفات الاغتيالات السياسية والاعتداء على قواتنا المسلحة ،وملفات ما عرف بالتنظيم السري وغيرتلك المصائب كثير…
كيف للسد الرئيس ان يقنع التونسيين بصحة عزمه على مقاومة الخطر الشامل ”الجاثم ”فعلا على صدر الوطن ،دون أن يصارح التونسيين بما تعرضوا له من اعتداءات لا تحصى من الذين حكّموهم في رقابهم ، ولكنهم كانوا أبعد ما يمكن من حفظ الأمانة والبر بالوطن؟ وكيف للسيد الرئيس أن يعزل نفسه عن تنظيمات المجتمع المدني والأحزاب الوطنية في حين ان له أن يجد فيها أكبر عون على تحرير الوطن من وضعه الاستعماري؟
وقد كنت في هذا المنبر ذاته ، ذكّرت باقتراح بعث ائتلاف اجتماعي وطني ،تكون العمدة فيه على الاتحاد العام التونسي للشغل ، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة ،واتحاد الفلاحين ونقاباتهم ، والاتحاد الوطني للمرأة التونسية ، والهيئات المهنية القائمة ’فنانين وحقوقيين واطياء ومهندسين وصيدلانيين.ولا ريب أن الرئيس سيجد في هذا الائتلاف خير ضامن لسلامة تطبيق غايات بادرة 25 جويلية 2021 حتى تحرير الوطن من جميع آفاته .ولا ريب أيضا أن من شأن هذا الاختيار أن يطمئن التونسي على مستقبل تلك البادرة ، وأن يشجع الإطراف الخارجية على مواصلة التعاون معنا كدولة مستقلة ذات سيادة رغم مصاعبها الاقتصادية والصحية الخانقة .والاهم من ذلك كله ان نتجاوز التناقض القائم اليوم بين بادرة ثورية رائدة ومستقبل غامض .
ولا ارى اي مستقبل للاعتداء على دولة الاستقلال كما أرساها المجاهد الأكبر رحمه الله وتغيير نظام الحكم فيها لتكون ”جماهيرية شعبوية”،بل المطلوب اليوم الارتقاء بالدولة الوطنية الى مصاف الدولة الوطنية الديمقراطية. وهو المطلب العالي الذي رفعه أبناء مدرسة الجمهورية في ”الشغل والحرية والكرامة الوطنية ”.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 28 سبتمبر 2021