الشارع المغاربي – تحرير فلسطين وحتْمية تحرير العقل العربي/ بقلم: خالد عبيد

تحرير فلسطين وحتْمية تحرير العقل العربي/ بقلم: خالد عبيد

قسم الأخبار

26 مايو، 2021

الشارع المغاربي: في البدء كان الوعْد، وفي النهاية حتما أفُوله… تخْتزل هذه الجملة مُجْمل الصراع العربي الصهيوني الذي طال منذ أكثر من قرن، وسيتواصل إلى حين، لكن الثابت لدينا أنّ هذا الاستعمار سينتهي حتما، وأنّ الشعب الفلسطيني سيستردّ يوما أرضه السليبة، لا ندري إن كانت فلسطين التاريخية أو الجزء الأكبر منها، هناك إرادة يعجز كلّ طغاة العالم أن ينهونها، إنّها إرادة الشعوب في الحياة، سيّان إن كانت ترزح تحت نير الاستعمار أو الاستبداد، فكم من حاكم طغى وتجبّر إلاّ وزال واندثر، وكمْ من مستعمر محتلّ عزم على الاجتثاث إلاّ واقْتُلِع.

تلك هي حتمية السيْرورة الزمنية لِمَن يتدبّر في معانيها، لذلك، قناعتنا راسخة بأنّ فلسطين ستتحرّر يوما، لكن كيف؟ ومتى؟ نترك ذلك للزمن فهو الكفيل بذلك!

والفرق شاسع بيْن من يهبّ لتحرير أرضه من الاحتلال، وبيْن من يتصدّى له بصفته كمحتلّ لهذه الأرض، حتى وإن أفهموه أنّها هي أرضه أيضا..

في الأثناء، هل هي ستتحرّر بالشعارات الطنّانة والخطابات الرنّانة والهسْتيريا الجماعية؟ أم بالبيانات التنديدية والمطالب الاسْتجدائية لدى قوى هي التي زرعت الاستعمار الصهيوني في أرض فلسطين وحَمَتْه؟

الجواب: قطعا لا!

ولكن هل تكفي المقاومة المسلّحة كي تُنْهي هذا الاحتلال؟ ألم تتشكّل قوى فلسطينية متعدّدة منذ عقود وحملت البندقية وكان بعضها مسلّحا جيّدا؟ وما زال يحمل السلاح إلى الآن، وتشكّلت قوى أخرى على الأرض هي التي نراها الآن تحاول جاهدة تحقيق ما سمّي “توازن الرعب”؟

الجواب بالتأكيد لا!

وذلك، لأنّنا شعوب تعشق هدْر الإمكانية وعدم اقتناص اللحظة، ولأنّنا شعوب عاطفية ومزاجية نهيج بسرعة وننطفئ بسرعة أكبر، ولأنّنا شعوب لا تُراكم المكاسب ولا تبني عليها، ولأنّنا شعوب تعتقد واهمة بأنّ الله معها حتى وإن كانت خانعة مستسلمة وساكنة، وبأنّ الله سينصرها حتما على الأعداء حتى وإن اكتفت بالدعاء، وهذا الوهم موْقور في اللاوعي الجماعي لهذه الشعوب، لأنّها تعتقد ساذجة دون أن تعلنها صراحة بأنّها هي شعب الله المختار بينما الآخرون مجرّد تقليد.

ولله دَرّ الشعب الفلسطيني ما أنْبَلَه! غَدَر به أشقاؤه العرب أكثر من مرّة، وطعنوه، بل وأثخنوا فيه تقتيلا، بينما هو لم يفقد أمله فيهم بعد وفي نجدتهم له!

وكان يُظنّ أنّ “الربيع العربي” سيكون تتويجا لمسار تصفية القضية الفلسطينية وشطْبها نهائيا، وذلك بعد أن هيّأت معاول الصهيونية ذلك منذ ما بعد الانتفاضة الفلسطينية في سنة 2000، عندما دأبت على تقطيع أوصال ما تبقى من أراض فلسطينية في الضفّة الغربية لإنهاء الحلم بتكوين كيان فلسطيني مستقل قابل للحياة، ونفثت في روح الخلاف المستشري بين حركتيْ فتح وحماس.

في اعتقادنا، ما حدث هذه الأيّام أنهى كلّية هذا المسار التصفوي، بل، وأنهى استتْباعات ما سمّي “صفقة القرن”، وأرجع إلى الواجهة دوليا وبقوّة ضرورة الحلّ القائم على دولتين وهو الذي ترتضيه كلّ القوى الفلسطينية، بعد أن أصبح الأمر مقتصرا فقط خلال الأيّام الأخيرة لترامب على كيفية النظر بعين الشفقة والرحمة إلى شتات مجموعات فلسطينية متناثرة هنا وهناك بفعل التقطيع المنهجي والدؤوب للأرض الفلسطينية.

وقد حدث هذا المكسب بفضل اكتشاف القوى الفلسطينية أنّ العدوّ الصهيوني يتمعّش من خلافاتها وانقساماتها، إلى درجة أن بات راسخا للبعض أنّ غزّة هي فلسطين والعكس غير صحيح، لذلك توحّدت القيادة الميْدانية في هذه المواجهة، وأيضا بفضل الجيل الشبابي الجديد في الضفّة الغربية وقطاع غزّة وفلسطينيي الداخل الذين ضمّوا قسرا إلى كيان اسرائيل في 1948، وهذا الجيل بالذات هو الذي سيتمكّن حتما من تحقيق ديمومة القضيّة الفلسطينية وراهنيتها فتصبح الرقم الصعب لأيّة معادلة اقليمية جديدة في الشرق الأوسط وتنهي بصفة باتة مجرّد التخمين في شطبها نهائيا، وهذا الجيل بالذات أيضا هو الذي سيفرز حتما قيادة فلسطينية جديدة على أنقاض كلّ القيادات الحالية التي انتهت صلاحيتها التاريخية، بما فيها تلك التي تعتقد أنّ تحرير فلسطين تعني أخْوَنتها في مواجهة التهويد!

وقد تمكّن هذا الجيل من أن يُعرّي زيْف التفوّق الصهيوني من خلال صموده، وقد اكتشف في الأثناء، أنّ العدوّ في استعماله الأقصى للبطش إنّما يسرّع في وَهَنِه وسقوطه الحتمي، لأنّه، لا يمكن لهذا العدوّ الصهيوني المتفوّق عسكريا وتقنيا أن يستعمل كلّ إمكانياته التسليحية في حيْز ترابي صغير جدّا دون أن ترْتدّ عليه، وهنا مُنْتهى المأزق الصهيوني، وهذا ما استوعبه جيّدا هذا الجيل الشبابي وراهن عليه من خلال الدفع نحوه، فقد أدرك بِتَرَوٍّ أنّ كلّ هذا التفوّق يُخْفي هشاشة هيْكلية كامنة فيه، وكلّما تمّ استدراجه إلى منطق استخدام القوّة واستعراضها، إلاّ، وتمّ التسريع في وتيرة هذه الهشاشة إلى أن تستفحل يوما ما فيحدث “الانفجار” المرجوّ من الداخل.

وقد أثبت هذا الجيل الفلسطيني الجديد أنّه يعتمد على نفسه عكس أسلافه، وأنّ ضعفه قوّة، وما رأيناه في هذه الأيّام من “بروفات” زحف جماهيري من بعض الدول العربية الدائرة بأرض فلسطين التاريخية، إلاّ دليل جديد على هذه الهشاشة الهيكلية لكيان اسرائيل الذي لن يقدر أبدا على التصدّي إلى هذه المجموعات البشرية لو قرّرت يوما اجتياز الحواجز والحدود، وحتّى إن فكّر في استعمال القوّة النارية فسترتدّ عليه حتما وهنا منتهى عبثية وجوده.

وبذلك، نفهم لماذا حاول هذا الكيان جاهدا منذ عقود أن ينهي مسألة حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم التي أطردوا منها، وذلك لأنّه يدرك جيّدا أنّ الملايين من الفلسطينيين العائدين يوما ما سيُنْهُون عدديا وإلى الأبد هذا الكيان.

وهذا ما استوعبه جيّدا الزعيم الحبيب بورقيبة عندما طرح مبادرته في أريحا سنة 1965، والداعية إلى تطبيق الشرعية الدولية في هذا الصراع من خلال اعتراف الفلسطينيين بالقرار الأممي رقم 181 الصادر في 29 نوفمبر 1947 الذي ينصّ على تكوين دولتين في أرض فلسطين، لكن في الواقع، تكوّنت الثانية فقط وهي دولة اسرائيل بمقتضى هذا القرار وعلى أنقاض أراض أخرى قضمتها من أراضي دولة فلسطين المرتقبة، والتي لم يتسنّ لها أن تتكوّن على خلفية تداعيات انكسار الجيوش العربية في حرب ماي 1948.

ومنذ هذا التاريخ، أصبح هناك توجّه واضح من أجل تصفية القضيّة الفلسطينية من خلال شطب مسألة تكوين الدولة الفلسطينية وفق الشرعية الأممية واختزال القضيّة برمّتها في مسألة اللاجئين وكيفية رعايتهم والأخذ بيدهم لا غير، لذلك دعا الحبيب بورقيبة الفلسطينيين وقتها إلى إعادة طرح قضيتهم من خلال المطالبة بدولتهم المشروعة التي لم تر النور، وجُوبه وقتها بسيل من التهييج الجماهيري والخطابات الهوجاء، ورفض الفلسطينيون هذا التوجّه آنذاك، وها هم قبلوا به بعد عقود من ذلك، بل قبلوا بأقلّ منه، وذلك عندما باتوا يطالبون بضرورة تكوين دولة فلسطينية على أراضي ما قبل عدوان 1967، بينما الدولة الفلسطينية التي دعا إليها الحبيب بورقيبة في خطابه هي على أراضي ما قبل عدوان ماي 1948 والفرق كبير وواضح في المساحة بينهما!

وقد كان الحبيب بورقيبة يعتقد وقتها، أنّه عندما يكون للفلسطينيين المشتتين موْطئ قدم في أرضهم وعلى دولتهم التي تكفلها الشرعية الدولية، فإنّ ذلك يعني نهاية دولة اسرائيل على المدى المتوسّط، لأنّه كان يدعو أيضا إلى ضرورة عودة اللاجئين الفلسطينيين المهجّرين قسْرا من أراضيهم منذ ما قبل حرب 1948 وما بعدها، وهذا يعني حتما وجود تفوّق عددي فلسطيني على الأرض “سيبتلع” حتما الشتات الصهيوني الوافد على فلسطين، وهذا ما حاولت القيادة الفلسطينية البدء في تجسيمه بعد ثلاثين سنة من مبادرة الحبيب بورقيبة، لكن، في نسخة مشوّهة وغير قابلة للتجسيم عبر اتفاقيات أوسلو التي لم يعد لها أيّ معنى منذ مدّة.

ولا يمكن فهم الموقف الحقيقي للحبيب بورقيبة من الصراع الفلسطيني الصهيوني، إلاّ عندما ندرك جيّدا أنّه يعتبر الوجود الصهيوني في أرض فلسطين مثل الوجود الفرنسي في أرض الجزائر، ليس ثمّة أيّ فرق بينهما، ما دام كلاهما يقوم على إلغاء الآخر واجتثاثه، فالاستعمار التوطيني لا يمكن أن يكون إلاّ بإجلاء صاحب الأرض.

وتتمثل قناعة الحبيب بورقيبة الراسخة وقتها، -والتي سبق أن صرّح بها-، في أنّ الاستعمار الفرنسي للجزائر استمرّ أكثر من 130 سنة، وفي الأخير، اضطرّت فرنسا أن تخرج من الجزائر صاغرة مستسلمة بالرغم من أنّ موازين القوى العسكرية لصالحها تماما مثل الكيان الصهيوني الذي سيضطرّ آجلا أو عاجلا إلى الانسحاب من أرض فلسطين بالرغم من تفوّقه العسكري، ولذلك، رأى بورقيبة وقتها ضرورة تهيئة الأسباب لتحقيق هذه الغاية، وذلك من خلال تطبيق السياسة الغالية عنده، وهي “سياسة المراحل” والتي تبدأ هنا بالاعتراف المتبادل بين الفلسطينيين والاسرائيليين بالدولتين التي قرّرتهما منظمة الأمم المتحدة في انتظار “ابتلاع” الدولة الفلسطينية للدولة الهجينة الأخرى.

لكن، ومثلما أسلفنا، نحن شعوب نعشق من يهيّجنا ويُدَغْدغ مشاعرنا ويتلاعب بسذاجة بعضنا، فَنَتَفنّن في هدْر اللحظات الفارقة، ثمّ نبْكي على أطْلال خَاوية كَبُكَاء الصهاينة على حائط مبكى مزعوم، لكن الفرق بيننا وبيْنهم، أنّهم جعلوا من هذا البكاء تحْفيزا دائما لهم كي يتشبثوا بما اغتصبوه من أرضٍ ليست أرضهم، بينما جعلنا نحن من بُكائنا مناسبة كي نصبّ جام غضبنا ولفْظنا وصراخنا على عدوّ خلقناه نحن، وصوّرناه في صورة الذي لا يُقهر، منتظرين معجزة من السماء كي تريحنا منه فنَنْعم بالخمول والتواكل، بينما هو أوْهن من خيط العنكبوت، وهذا ما فهمه جيّدا هذا الجيل الشبابي المقاوم الجديد، فهل سيستغلّ الظرفية لتحقيق ما عجز عنه من سبقه؟ أم أنّه سيواصل على غرار أسلافه هدْر الفرص المتاحة وخُسْران الحرب الإعلامية التي يتقنها جيّدا هذا العدوّ المحتلّ؟ أم أنّه سيقع إنهاء وجوده كما فعل بعض الأشقّاء العرب بمن كان قبلهم في ميدان الشرف؟

أسئلة واخِزة تنتظر إجابات تَخِز الضمير العربي الغائب..

نُشر يأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 25 ماي 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING