الشارع المغاربي : في خضم ما يجري من أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة وخطيرة لم تشهد لها تونس مثيلا منذ الاستقلال وفي خضم ما يتنزل يوميا من مؤشرات اقتصادية واجتماعية سلبية أرهقت وأفزعت كل الفئات الاجتماعية وفي الوقت الذي كان يترقب فيه الشعب التونسي بكل مكوناته الوطنية تدخلا من طرف أعلى هرم السلطة من شأنه أن يبعث الطمأنينة ويطرح بدائل تُمكّن البلاد من الخروج من هذه الأزمة تطل علينا “لجنة الحريات الفردية والمساواة” بتقرير يطرح اقتراحات مُسقطة بتبريرات هزيلة خارجة عن سياق الزمان والمكان يسعى لتحويل وجهة الرأي العام عن أمهات مشاغل ومشاكل البلاد الحقيقية علاوة على أنه يُكرّس التدخل الخطير للاتحاد الأوروبي في شؤوننا الوطنية لبعث الفتن داخل المجتمع التونسي بقدر ما يُمهد لأجندا انتخابية قادمة بعنوان قديم جديد.
البرلمان الأوروبي يفرض نفسه كمصدر أساسي للتشريع التونسي
يقول عالم المستقبليات المغربي المهدي المنجرة المُلقّب “بالمنذر بآلام العالم” والذي اختير للتدريس في عدة جامعات دولية منها فرنسا وإنكلترا وهولندا وإيطاليا واليابان، وشغل باليونسكو مناصب قيادية عديدة (1961-1979) وأسهم في تأسيس أول أكاديمية لعلم المستقبليات، وترأس بين 1977 –1981 الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية. أردنا التأكيد عل أهمية هذا الأكاديمي الشهير حتى نعي أهمية ما أنذر منه عندما قال:
“إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فعليك بهدم الأسرة، وهدم التعليم، وإسقاط القُدوات والمرجعيات، ولكي تهدم الأسرة عليك بتغييب دور الأم، اجعلها تخجل من وصفها بربة بيت، ولكي تهدم التعليم عليك بالمعلم، لا تجعل له أهمية في المجتمع، وقلل من مكانته حتى يحتقره طلابه، ولكي تُسْقِطَ القدوات عليك بالعلماء، اطعن فيهم، قلل من شأنهم، تشكك فيهم، حتى لا يَسْمَعَ لهم ولا يَقْتَدِي بهم أحد، وإذا اختفت الأم الواعية، واختفى المعلم المخلص، وسقطت القدوة والمرجعية، فمن يربي النشئ على القيم؟؟“
بالرجوع إلى مسألة هدم الحضارة في علاقة بتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة يجب علينا التذكير “بقرار البرلمان الأوروبي الصادر بتاريخ 14 سبتمبر 2016 حول علاقات الاتحاد مع تونس في الظروف الإقليمية الحالية“ (انظر الرابط *) وقد اتخذ هذا القرار صيغة قانونية بحتة حيث تم تقديمه بعد سرد 14 حيثية وكأننا بالبرلمان الأوروبي يسعى إلى تذكير الحكومة التونسية بأن القرار الذي اتخذه مبني على التزامات الطرف التونسي التي اتخذتها الحكومة بدون تفويض من مجلس نواب الشعب كما تم تقديمه بعد سرد 16 عنصر اعتباري غالبيتها تبدو موجهة لتخدم الصالح الأوروبي بقدر ما تبدو أيضا سطحية إن لم نقل ساذجة أحيانا لهزليتها وضعفها في تبرير هذا القرار الذي يحتوي على 70 فصل يطالب البرلمان الأوروبي من حكومة الجمهورية التونسية بتطبيقها.
و قد استهل البرلمان الأوروبي فصوله الأولى بمباركة كل الخطوات التي طالب بها سابقا والتي نفذتها الحكومات التونسية المتتالية في فترة ما بعد الثورة كما جاء بالفصل الثالث:
• أن البرلمان الأوروبي يعتقد أنه بالرغم من الوضع الاقتصادي والاجتماعي الكارثي (هكذا بالحرف الواحد) فإن الانتقال الديمقراطي التاريخي في تونس يتطلّب شراكة بين الاتحاد الأوروبي وتونس أكثر طموحا لتتعدى المستوى المتعامل به حاليا ” في تلميح واضح للمطالبة بضرورة التوقيع على مشروع اتفاق منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق لتتجاوز العلاقة اتفاق الشراكة الموقع في سنة . 1995
كما جاء بالفصل الرابع عشر من هذه القرار بصيغة الأمر وهنا مربط الفرس أن البرلمان الأوروبي
– ” يدعو الحكومة التونسية إلى ضرورة توفير المساواة بين الرجل والمرأة خاصة بتنقيح مجلة الأحوال الشخصية عبر إلغاء القوانين التي تُكرّس النيل من حقوق المرأة منها تلك المتعلقة بالإرث والزواج….
كما جاء بالفصل 21 بنفس صيغة الأمر أن البرلمان الأوروبي:
– يدعو إلى إصلاح المجلة الجزائية (التونسية طبعا) وخاصة إلغاء الفصل 230 الذي يجرم المثلية الجنسية عبر تسليط عقوبة بثلاث سنوات سجنا…
هذه القرارات التي جاءت في تقرير لجنة الحريات الفردية هي إذا قرارات مُسقطة تم إقرارها من طرف البرلمان الأوروبي في صيغة أوامر بسعي من جهات تونسية وتبنتها السلطة التونسية لتقدمها للشعب التونسي في صيغة إنجازات ثورية لصالح المرأة التونسية ولصالح الحريات الفردية كما تبين من خطاب رئيس الجمهورية بتاريخ 13 أوت 2017 بمناسبة عيد المرأة حيث وعد بطرح مسألة المساواة في الميراث وحرية زواج المرأة المسلمة من غير المسلم لتقديمه كمشروع رئاسي لتكريس حقوق المرأة. غير أن غالبية الشعب التونسي لم تكن تعرف مصدر هذه الوعود التي أقرها البرلمان الأوروبي قبل سنة تقريبا من خطاب الرئيس التونسي.
و بقطع النظر على محتوى القرارات التي اتخذها البرلمان الأوروبي بصفة الأوامر يجب التأكيد أن هذه المسائل تبقى أولا وأخيرا مسائل وطنية داخلية لا تهم الطرف الأوروبي بقدر ما تهم الشأن الوطني التونسي في إطار حق الشعوب في تقرير مصيرها وهو حق مكتسب تقره الأمم المتحدة ولا يحق لأي طرف خارجي التدخل فيه. كما يحق للشعب التونسي اختيار توقيت طرح مثل هذه المسائل بطريقة من شأنها أن لا تزعزع الوحدة الوطنية بصفتها صمام أمان لضمان الاستقرار والأمن في البلاد خاصة في خضم ما يجري في المنطقة العربية برمتها من تدخل لتأجيج الفتن عبر الاغتيالات وإشعال نار الحروب الأهلية باستعمال إرهاب“الدواعش” الذي انتشر في عديد البلدان بما فيها تونس.
كما يحق لنا أيضا أن نتساءل عن قوانين الميراث في الديانات الأخرى كالديانة العبرية مثلا لنكتشف مدى تناقضها مع ما يطالب به البرلمان الأوروبي من مساواة في المجتمع التونسي ويتغاضى عن المطالبة بنفس الحقوق في المجتمع العبري وهو بذلك كيل بمكيالين كعادته.
حيث جاء في التوراة “أنه في ميدان الميراث كما في عديد الميادين الأخرى لا توجد أي مساواة بين الرجل والمرأة. من ذلك فإن البنات والنساء المتزوجات ليس لهن أي نصيب من الإرث إلا في حالة عدم وجود إخوة ذكور بالنسبة للبنات فهي في هذه الحالة الوحيدة التي ترث أما بالنسبة للمتزوجة فهي لا ترث تقريبا أبدا لأن الأولوية تكون للأبناء الذكور أو للبنت إن وجدت أو لإخوة الزوج إن لم توجد أو لأعمام الزوج إن لم يكن له إخوة.
طبعا يحق للمجتمع العبري أن يقوم بما يراه صالحا لتغيير ما يريد تغييره ولكن يبقى أيضا من حقنا أن نتساءل لماذا تغافل البرلمان الأوروبي عن هكذا انتهاكات ولم يصدر قرارات للسلطة العبرية لكي تعجل بتغيير مجلة الأحوال الشخصية وتنتهك ما جاء بالتوراة مثلما يفعل مع الشأن التونسي.
للجواب على هذا السؤال الهام نذكر أن عديد المسائل المطروحة في الديانة العبرية والتي كثيرا ما تؤرق المواطنين مثل منع إشعال النار واستعمال الكهرباء يوم السبت وطريقة التعامل مع المرأة الحائض غير أنه رغم ذلك لم يطرح أي حزب إسرائيلي ضرورة تغييرها وذلك حسب أحد رجال السياسة الإسرائيليين لسبب أساسي حسب قوله “لا نريد إشعال حرب أهلية في الوقت الذي نحن في حاجة أكيدة لجبهة داخلية قوية“.
فما أحوجنا لمثل هذه المواقف في الوقت الحاضر وما أحوجنا لجبهة وطنية متراصة. لهذه الأسباب المبدئية والهامة اخترنا عدم الخوض في مضمون الاقتراحات التي جاءت بتقرير اللجنة بقدر ما تم التركيز على خطورة التدخل الخارجي في شؤوننا الوطنية والكيل بمكيالين وعلى خطورة مواقف بعض التيارات التونسية التي تحرض على هذا التدخل منذ الاستقلال إلى اليوم عبر آلية الإستقواء بالقوى الأجنبية بما فيها المستعمر القديم الجديد لفرض أرائه على الشعب التونسي أو حتى للتمسك بالسلطة كما نلاحظ انعدام روح المسؤولية لدى أطراف السلطة لإقدامهم على طرح مثل هذه المواضيع في هذا الوقت بالذات نظرا لما يحتويه الأمر من مخاطر تهدد في الصميم الوحدة الوطنية بقدر ما لا تستجيب لأي من مشاغل الشعب التونسي السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تُهدد بالانفجار لا سمح الله.