الشارع المغاربي : يبدو أنّ «الدخان» لم ينقشع بعد من قصر قرطاج ولم يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود  في «المسألة اللّيبية» التي تتّجه نحو مزيد من التعقيد الخطير لا سيّما عشيّة وطأة أقدام العساكر التركية الأراضي اللّيبية. لقد سبق أن نفى الرئيس قيس سعيّد حصول اتفاق مع نظيره التركي رجب طيّب إردوغان معلنا عدم انحيازه إلى أيّ طرف على حساب آخر خلال لقائه بالضيف التركي في زيارة غير معلنة لاردوغان نهاية ديسمبر المنقضي…النفي الرسمي التونسي جاء حينها كرد فعل على إعلان إردوغان من تركيا قال فيه أنّه اتفق مع نظيره التونسي على دعم حكومة السرّاج. هل كذب إردوغان أم تراه قد استعجل الأمر بعد أن عاين “دخانا” في القصر وتذبذبا وارتباكا تونسيا رسميا، أم أنّ التزام سعيّد مع إردوغان كان في الخفاء مع تراجع وتنصّل “بعدي” في العلن على إثر ضغط شعبي داخلي ؟

تتسارع الأحداث في ليبيا متّجهة نحو مزيدا من التعفّن: المصريون ينجزون أكبر مناورات بحرية بالذخيرة الحيّة في المتوسّط، الأتراك يرسلون الطلائع الأولى من جيشهم إلى طرابلس، السلطة الجديدة الجزائرية المنتخبة أخيرا تأمر مجلس الأمن القومي بالانعقاد الدائم وتستنفر الجيش على الحدود مع الجارة ليبيا…في الأثناء حالة من “البهتة” والضبابية والضمور الديبلوماسي تُميّز الموقف الرسمي التونسي وعدم الوضوح في التعاطي سياسيا مع حدث دقيق وخطير في حجم تدخّل عسكري أجنبي على حدودنا الجنوبية يمكن أن يجرّ المنطقة برمّتها إلى أتون حروب لا تنتهي.

دخان…دخان.. ولا شيء غير الدخان !

يطفو السؤال من جديد على السّطح بعد مصادقة البرلمان التركي على مذكّرة رئاسية تُفوّض الحكومة بإرسال قوّات عسكرية إلى ليبيا وانطلاق الاستعدادات لطلائع من الجيش التركي للتوجّه نحو طرابلس : هل كذب إردوغان على قيس سعيّد حين أعلن فور وصوله إلى بلاده بعد زيارة خاطفة وغير معلنة لتونس أنّه اتفق مع نظيره الرئيس قيس سعيّد على دعم حكومة الوفاق الوطني أمام الهجوم الذي تتعرّض له العاصمة طرابلس ؟.

نفت حينها رشيدة النيفر المكلّفة بالاتصال في رئاسة الجمهورية حصول اتفاق بين الرئيس قيس سعيّد والرئيس التركي رجب طيب إردوغان على دعم رئيس حكومة الوفاق اللّيبي فائز السرّاج. وأوضحت النيفر أنّ ما تمّ تداوله حول موافقة السلطات التونسية على فسح المجال أمام الطيران العسكري التركي للقيام بكلّ العمليات التي تندرج ضمن دعم فائز السرّاج غير دقيق، واعتبرت أنّ الجانب التركي قد جانب الصواب في نقله لوقائع اللّقاء بين قيس سعيّد وإردوغان لأنّ اللّقاء أبرز دعما تركيا لمبادرة قيس سعيّد للسّلام في ليبيا، مشيرة إلى أنّ الرئيس قيس سعيّد لم يعلن انحيازه إلى أيّ طرف على حساب الآخر خلال لقائه مع الضيف التركي. وجاء توضيح المكلّفة بالاتّصال في رئاسة الجمهورية تعليقا على تصريحات الرئيس التركي رجب طيب إردوغان التي قال فيها إنّه اتفق مع تونس على دعم حكومة طرابلس في ليبيا وكرّر تصريحه بأنّ تركيا سترسل قوّات عسكرية إلى ليبيا في حال طلبت حكومة السرّاج، وذلك بعد يوم واحد من زيارته لتونس ولقائه قيس سعيّد.

اليوم وبعد مرور أسبوعين أو أكثر على الزيارة “الملتبسة” لأردوغان الى تونس ولقائه بسعيّد وبعد الجهد الرسمي التونسي في التبرئ ممّا أعلن عنه الرئيس التركي فور وصوله إلى بلاده، لنا أن نسأل ماذا حصل تحديدا بين الرجلين أيّاما قبل مصادقة البرلمان التركي على المذكّرة الرئاسية التي تفوّض الحكومة بإرسال قوّات عسكرية إلى ليبيا ؟. نطرح الاستفهام على ضوء التسلسل والترابط “المنطقي” للموقف التركي والغموض الكبير الذي رصدناه في الرؤية التونسية.

لقد شكّلت الخطوة التركية الأخيرة المتمثّلة في تحرّك ألوية من الجيش التركي نحو طرابلس الغرب تتويجا منطقيا وعمليا لرؤية استراتيجية تراعي المصالح القومية العليا لأنقرة في تأمين حاجات تركيا من الطاقة بعد محاصرتها في شرق المتوسّط باتفاق ثلاثي جمع اليونان وقبرص وإسرائيل. إنّ المقاربة أو الرؤية التركية الجيوسياسية تتقاطع داخلها الأمني والطاقي والاقتصادي والجغراسياسي والتاريخي، إذ تتماهى الخطوة التركية مع نزوع امبراطوري عميق وتاريخي في التمدّد خارج الحدود والغزو خارج الديار بعد أن تحقّقت شروط القوّة في الداخل.

لقد غادر إردوغان تونس إثر زيارة قصيرة، وقدّم مذكّرة تفويض عرضها على البرلمان التركي حملت توقيعه، ونوقشت المذكّرة الرئاسية داخل البرلمان التركي لتتمّ المصادقة عليها رغم معارضة أقلّية كالنّائب أيطون تشيراي عن حزب “إيي” المعارض الذي اعتبر أنّ مذكّرة إرسال قوّات إلى ليبيا “قد تمّ إعدادها على عجل” وأنّ تركيا بهذه الخطوة “ستولّد لنفسها خصوما جددا في المنطقة”. ولكنّها (المذكّرة) فازت في النهاية بأغلبية تصويت مريحة عبّرت عن الرؤية الرسمية سواء في الرئاسة أو البرلمان عبّر عنها بشكل واضح رئيس لجنة الدفاع في البرلمان التركي عصمت يلماز بالقول “إنّ الهدف من المذكّرة هو إحلال الاستقرار ووقف إطلاق النار في ليبيا”. هذا هو إذن التمشّي السياسي التركي : متماه مع المصالح القومية للأمّة التركية ، متناسق ومتصاعد بوتيرة منتظمة بعد اكتمال الصورة وتوضّحها في زيارة أردوغان للبلد الأقرب جغرافيا للعاصمة اللّيبية (تونس) والتحضير والاستعداد اللّوجستي والعسكري والسياسي لكلّ السيناريوهات المحتملة والممكنة لتدخّل خطير ودقيق للجيش التركي جنوب المتوسّط يفترض مشاورات واتفاقات “قبلية” مع الدولة الجارة التي تعدّ أراضيها العمق الوحيد لطرابلس بعد حصار الجيش اللّيبي للعاصمة من الشرق والجنوب.

في مقابل التسلسل السياسي المعقول للموقف التركي نرصد تذبذبا وضبابية لدى الجانب التونسي في التعاطي مع الحرب في ليبيا، وذلك استنادا لمضامين ما جاء على لسان المكلّفة بالاتصال في رئاسة الجمهورية نفسها التي قالت أنّ اللّقاء ( سعيّد- إردوغان) أبرز دعما تركيا لمبادرة قيس سعيّد للسّلام في ليبيا !…فجاء الردّ التركي سريعا ومدعّما لمبادرة سعيّد «السلمية»: عساكر ودبّابات وبوارج وطائرات حربية تنشر أمنا واستقرارا وتبثّ الألفة والتآلف بين اللّيبيين ! . لم نر مبادرة سلام من الرئيس قيس سعيّد وضعت على الطاولة ولم نرصد تحرّكات هنا أو هناك خارج تونس وفي عواصم دول الجوار أو في عواصم الدول المعنية بالحرب في ليبيا تشير إلى إمكانية طرح مبادرة أو مقترح أو رؤية تونسية تحلحل الأزمة اللّيبية…لم نر ولم نلمس موقفا واضحا ودقيقا لتونس ولم نسمع صوتا عاليا يشرح الرؤية الرسمية من التدخّل التركي الخطير جدا على أمننا القومي، ولم نسجّل أيضا ولو إشارة واحدة تدين أو ترفض ولو خجلا هذا الغزو التركي لأراضي بلد شقيق تربطنا به أواصر الدم والانتماء والأرض والتاريخ والمصالح المشتركة.

تضيف المكلّفة بالاتصال أنّ قيس سعيّد لم يعلن انحيازه إلى أيّ طرف على حساب آخر في ليبيا خلال لقائه مع الضّيف التركي، في حين نعلم أنّ رئيس الجمهورية لم يستقبل إلى حدّ السّاعة سوى وجوه تحسب على معسكر “طرابلس”، ولم يلتق أيّة شخصية من الجبهة المقابلة ( جماعة الشرق اللّيبي). هذا إضافة إلى أنّ الرئاسة لم تعمل على مدّ جسور الحوار الدبلوماسي والسياسي مع حلفاء الجيش اللّيبي كمصر والإمارات قصد طرح الأفكار والمقترحات وجسّ النبض حول إمكانات نجاح “مبادرة السّلام” لقيس سعيّد إن وجدت أصلا.

يبدو في المحصلة أنّنا بصدد تذبذب سياسي خطير نتيجة عدم وجود رؤية دقيقة وواضحة للسياسة الخارجية التونسية مع انعدام الشجاعة في اتّخاذ القرارات الصائبة والسريعة في مكانها وزمانها… تونس غائبة ومغيّبة عن المؤتمرات والمشاورات الإقليمية المنعقدة بالتوازي مع حرب ضروس تدقّ طبولها على حدودنا الجنوبية…يبدو من المستحيل وغير المنطقي أن يكون إردوغان قد كذب، لم يقل ربّما كلّ الحقيقة، ولكن وإذا سلّمنا أنّه قال الحقيقة فالأرجح أنّ سعيّد قد التزم في الخفاء وتراجع في العلن، لا سيما وأن التكوين الفكري والميولات السياسية للرجل وتوجهاته العامة قد تكون متماهية مع خيار مساندة “الشرعية” في طرابلس الغرب، وهي أقرب منها إلى “المعسكر الاردوغاني” ومن يحوم حول فلكه من أجرام وأجسام سياسية وايديولوجية محافظة …أمام كلّ هذا الدخان والضباب في قرطاج لا نملك إلّا هذا التأويل الممكن أو الصّبر وانتظار إشارات ربّانية…يقول الله تعالى في كتابه العزيز: « وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر» – البقرة 187-…في انتظار انبلاج الفجر..دخان ..دخان..ولا  شيء غير الدخان !.

صدر في اسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر يوم أمس الثلاثاء 7 جانفي 2020 .