الشارع المغاربي – تونس تلج أسفل ترتيب مؤشرات الحوكمة الجيّدة: الصورة في منتهى القتامة، فما الحلّ؟

تونس تلج أسفل ترتيب مؤشرات الحوكمة الجيّدة: الصورة في منتهى القتامة، فما الحلّ؟

قسم الأخبار

21 مايو، 2022

الشارع المغاربي-معز زيّود: حازت تونس الرتبة 72 عالميّا من ضمن 104 دولةً في “مؤشّر الحوكمة الجيّدة” الصادر مؤخرا عن معهد شندلر للحوكمة بسانغفورة، غير أنّها تردّت إلى حافّة القاع في مؤشر “جاذبيّة السوق المحليّة” وفق هذا التصنيف ذي المصداقيّة العالية في العالم. صورة قاتمة أخرى تُنبئ بقرب مواجهة البلاد لأيّام جدًّا عسيرة…

قبل الثورة لم نكن نأخذ كثيرًا بالتصنيفات والمؤشرات الدوليّة للحوكمة الجيّدة ومقاومة الفساد والقدرة على استقطاب الاستثمارات الخارجيّة، وذلك بالنظر إلى أنّ النظام السابق كان يعمل ليلا نهارا على تلميع صورته بهدف إخفاء طبيعته الاستبداديّة. أمّا اليوم فقد تبيّن أنّ البلاد قد تعرّت تمامًا أمام المؤسّسات الدوليّة فتهاوت كلّ مؤشّراتها، إلى درجة انتفاء ما يمكنها أن تُلمّع به صورتها أصلا جرّاء سياسات متذبذبة وقرارات غير صائبة تتحمّل مسؤوليّتها بدرجات متفاوتة كافّة الحكومات المتعاقبة على امتداد 11 عاما إلى حدّ اليوم.

وبدلا من الانكباب على تبصّر تلك التصنيفات والمؤشرات المتراجعة بشكل تصاعدي من أجل معالجة الأوضاع المتدهورة على كافّة الأصعدة، أوغلت السلطات التونسيّة في قبر رأسها في التراب عملا بسياسة النعامة. وبلغ الأمر في نهاية المطاف حدّ السخرية المعلنة من مؤسّسات التصنيف الدوليّة من قبيل وصف رئيس الجمهوريّة لها بـ”أمّك صنّافة”. واليوم تجد تونس نفسها على شفا الهاوية، وربّما تتقدّم خطوة أخرى إلى الأمام، كما قال الرئيس الجزائري الراحل الشاذي بن جديد. ومثلما أجاب الأشقاء الجزائريّون رئيسهم يومها، نقول اليوم: شكرا سيادة الرئيس، فقد أوقعتنا خطوتك في هول تلك الحفرة!.

نسوق هذا المثال بمرارة لأنّه لا يمكن لمراقب رصين أن يُشكّك في مؤشّرات مؤسّسات دوليّة معروفة بمصداقيّتها وبصرامتها العلميّة في صياغة مؤشّراتها، على غرار معهد شندلر للحوكمة بسانغفورة المعروف باعتماد “مؤشّر شندلر للحوكمة الجيّدة”Chandler Good Governance Index (CGGI) . وهو ما يُعدّ دوليّا المؤشّر الأكثر اكتمالا في مجال تقييم العمل الحكومي على أصعدة متعدّدة، باعتباره يضمّ سبعة مقاييس تُحيل بدورها إلى 34 مؤشرا فرعيّا. وتتوزّع أسس التقييم السبعة تلك على: 1- مؤسّسات قويّة، و2- سياسات وقوانين متينة، 3- القيادة والقدرة على الاستشراف، 4- التصرّف في الماليّة العموميّة، 5- جاذبية السوق المحليّة، 6- السمعة والتأثير العالمي، 7- القدرة على تعزيز ارتقاء السكّان. ويُعدّ مؤشر الحوكمة الجيّدة عموما أداة عمليّة تُتيح للحكومات فهم قدراتها ومدى فعاليّتها ومقارنتها بالبلدان الأخرى.

ما وراء المؤشّرات العامّة!

على الرغم من أنّ تونس التي حازت الرتبة الـ72 جاءت وفق هذا المؤشر بعد كلّ من المغرب والأردن مثلا، فإنّ الإشكال الأخطر لا يكمن في هذا الترتيب العام وإنّما في بعض المؤشّرات الفرعيّة المرافقة. فلئن حصلت المغرب على ترقيم مشرّف بـ0.62 في مؤشر “جاذبية السوق المحليّة”، فإنّ تونس سجّلت ترقيما متردّيا جدّا لم يتجاوز 0.44 ممّا جعلها تتهاوى إلى كوكبة الدول العشر الأخيرة في هذا المؤشر، بالنظر إلى إدراجها في الرتبة الـ94 من ضمن 104 دولة. وحتّى نستوعب هذا الترقيم بشكل تقريبي أكثر وضوحا، فإنّ لبنان التي تشهد حالة إفلاس خلال الفترة الأخيرة قد حصلت على ترقيم أفضل من تونس يصل إلى 0.54 وهو ما يجسّد خطورة ما آلت إليه صورة تونس في الخارج، بدليل تصنيفها في ظلّ أوضاعها الحاليّة ضمن الدول الأقلّ قدرة على جذب الاستثمارات الأجنبيّة. أمّا المؤشر الرديء الثاني، فيتعلّق بمؤشر “التصرّف في الماليّة العموميّة”، إذ حازت تونس الرتبة الـ83، في حين أتت في الرتبة الـ77 بالنسبة إلى مؤشر “السمعة والتأثير العالمي”. وهكذا فإنّ معظم المؤشرات المتعلّقة بصورة تونس في الخارج قد باتت متأبّطة بآخر ترتيب دول العالم في المجالات المتعلّقة بالحوكمة الرشيدة.

يؤكّد كمال العيّادي رئيس “المركز العالمي لمحاربة الفساد” والمستشار لدى المؤسّسة السنغافورية التي أصدرت هذا التقرير، في تصريح لـ”الشارع المغاربي”، إنّ “هذه المؤشرات السلبيّة الخاصّة بتونس لم تُفاجئن حقيقة، ولم تتجنّ علينا لأنّها تعكس واقع البلاد، في ظلّ ما تشهده من تردٍّ على مختلف الأصعدة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة”. كما أكّد أنّ لتلك المؤشرات تأثيرا مباشرا على رؤية المستثمرين الأجانب وعلى فرص الشراكة الاقتصاديّة، مبيّنًا أنّ هناك اليوم شراكة بين القطاع الخاص ومثل هذه المؤسّسات البحثيّة في إنتاج المؤشرات لأنّها تشكّل مرآة حقيقيّة لأوضاع الدولة على مختلف الأصعدة. ولتبسيط الأمر، أوضح العيّادي أنّه مثلما تلتجئ الدول إلى سفاراتها للحصول على معلومات وتقارير لمعرفة أوضاع هذه الدولة أو تلك، فإنّ القطاع الخاص المتمثّل في الشركات الاستثماريّة العالميّة تُعوّل على مثل هذه المؤسّسات المستقلّة في معرفة الأوضاع الحقيقيّة لمناخ الأعمال في دولة ما بهدف استشراف مآل استثماراتها قبل المغامرة بالاستثمار فيها.

بوصلة للاستثمارات الأجنبيّة

كمال العيّادي الذي سبق له رئاسة الاتّحاد العالمي للمنظمات الهندسيّة (WFEO) شدّد أيضا على أنّ شركات القطاع الخاص لا تكتفي برصد المؤشّر العام وترتيب الدول، بل غالبًا ما تهتمّ بالتفاصيل وتُجري قراءة عميقة لتلك المؤشّرات الفرعيّة وتدرس كيفيّة احتسابها لأنّها تقدّم تشخيصا أكثر دقّة وتفصيلا عن حقيقة الأوضاع القائمة.

وفي المقابل، فإنّه من المؤسف ألّا يكون هناك اهتمام بمثل هذه المؤشّرات في تونس، على الرغم من أنّ هذه المؤسّسات على غرار “معهد شندلر للحوكمة” تُعطي للدول إمكانيّة للمراجعة لأنّها تحرص على توخّي أقصى ما يمكن من الدقّة العلميّة حتّى تعكس مؤشّراتها الوضعيّة الحقيقيّة التي يشهدها بلد معيّن، كما هو الحال بالنسبة إلى تونس التي سجّلت ككلّ مرّة حضورها بالغياب. والحال أنّه كان بإمكان الحكومة التونسيّة الوقوف على مسبّبات تلك المؤشّرات السلبيّة وتبصّر دلالاتها والاشتغال عليها من أجل تغييرها وتحسين ترتيب البلاد مستقبلا، لاسيما أنّه يعكس صورة الوجهة التونسيّة في الخارج ويُؤثّر في تحديد نصيبها من الاستثمارات الأجنبيّة. ويكفي للوعي بأهميّة هذا الطرح إجراء مقارنات بسيطة بين حجم الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة المتدفّقة على المغرب والأردن مثلا وتلك التي تتعثّر في الوصول إلى تونس.

مقاربة دغمائيّة

هناك شبه إجماع في تونس اليوم على أنّ الخطاب الرئاسي المشحون بالتهديد والوعيد، دون تسجيل أيّ نتائج فعليّة ملموسة على مستوى الحوكمة الرشيدة ومحاربة الفساد، قد أدّى إلى نتائج عكسيّة بل وتسبّب في إيقاف حال البلاد وشلّ أوصالها. ولا أدلّ على ذلك من التراجع السلبي الرهيب لكافّة التصنيفات والمؤشرات الدوليّة الراصدة للاوضاع السياسيّة والاقتصاديّة في تونس.

في هذا المضمار، يذهب كمال العيّادي إلى أنّ المقاربة المعتمدة في مكافحة الفساد المستشري أضرّت بصورة تونس كثيرا. فقد بتنا نعتمد مقاربة دغمائيّة في مقاومة الفساد، بل وجعلنا منها عقيدة. وأصبحنا نتحدّث عن مكافحة الفساد أكثر ممّا يلزم. وهو ما يؤثّر في صورة البلاد دون فعل أو تغيير حقيقي. ومن ثمّة بات الخطاب السياسي حول مقاومة الفساد أكبر بكثير من مقاومة الفساد نفسه.

لا يتعلّق الأمر هنا بمجرّد تحاليل وقراءات شخصيّة للوضع السائد، بل يعكس مضامين دراسة مسحيّة تصدر قريبا أعدّها رئيس “المركز العالمي لمحاربة الفساد”، وتستفتي حوالي 300 إطار سامي للدولة ممّن أحيلوا إلى التقاعد، وهم شخصيات من وزراء قدامى ورؤساء مديرين عامين ممّن لديهم تجارب كبرى في التصرّف العمومي. هذه الدراسة أظهرت أنّ قرابة 90 بالمائة من هؤلاء المستجوبين يُقرّون بأنّ كلفة محاربة الفساد اليوم أصبحت أكبر من الفساد في حدّ ذاته. فمن المفارقات أن يصبح الفساد أكثر رفقا بالبلاد من مكافحة الفساد بالشكل الذي يجري به الآن. ويعود ذلك إلى عوامل عدّة في مقدّمتها تشديد ترسانة القوانين إلى درجة تعطيل التصرّف العمومي. كما أنّ طرق التعاطي مع قضايا الفساد باتت تؤثّر على معنويّات المسؤولين وجعلتهم يخشون من تبعات اتّخاذ القرار وأدّت إلى شلّ قدرتهم على المبادرة.

وتفيد أحد المصادر أنّ بعض المؤسّسات العموميّة تكبّدت خسائر بملايين الدينارات جرّاء عدم تنفيذ صفقات عموميّة في وقتها بسبب الزيادات في الأسعار المتعلّقة بالشراء العمومي. ويرجع ذلك إلى أنّ المتصرّف العمومي يمتنع عن القيام باجتهادات لاحترام الآجال، خشيةَ أن يجد نفسه مورّطا في قضيّة فساد إداري لا ناقة له فيها ولا جمل. وهو ما يعني أنّ المسؤول اليوم قد يُحاسب على مخالفة إجراء بسيط ولا يُحاسب في حال تسبّب في خسارة الدولة بمقدار 5 مليون دينار كما حدث فعلا.

ويُحيل التوجّه السائد في البلاد اليوم إلى تسبّب السلطات في تكريس عقليّة إداريّة لا تُشجّع على الاجتهاد لضمان مصالح الدولة، جرّاء تعقيد الإجراءات بحثا عن النزاهة والشفافيّة الشكلانيّة الظاهرة. يقول كمال العيّادي، في تصريحه لـ”الشارع المغاربي” أنّ الخطاب الرسمي أضحى مخيفا، إذ لا يستثني أحدا ولا يُميّز بين شخص ارتكب خطأ أو خالف إجراء بسيطا من باب الاجتهاد وشخص آخر ضالع في الفساد. فقد بات الهدف احترام الإجراءات وليس تحقيق الغاية المنشودة من السياسات العموميّة. وهو يستدعي إجراء وقفة تأمّل عميقة من أجل الخروج من هذا المأزق الحقيقي، وخاصّة من هذه المقاربة الدغمائية لمكافحة الفساد، وفق تسمية العيّادي. والحال أنّ مقاومة الفساد تحتاج قبل كلّ شيء إلى مقاربة اقتصاديّة ورصانة سياسيّة ورؤية إستراتيجيّة واضحة.

ومن ثمّة فإنّ تعقيد المناخ العام بخطاب مغرق في السلبيّة ومشحون دائما بالتهديد والوعيد، لم يؤدّ إلّا إلى مزيد تعكير أوضاع البلاد ورسم لها صورة قاتمة تُجسّدها مؤشرات المؤسّسات الدوليّة، لاسيما أنّها لم تُحقّق الحد الأدنى من نتائجها الفعليّة المشتهاة. كما أنّ فرض إجراءات إداريّة متشعّبة وخانقة من أجل الوصول إلى نسبة صفر فساد قد أدّى إلى تعقيد عمليّة التسيير والتصرّف العموميّين، فباتت نتائج الحرب على الفساد أسوأ بكثير من الفساد في حدّ ذاته!..

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 17 ماي 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING