الشارع المغاربي : ذكر “متيو قالتيي” مراسل مجلة جون أفريك بتونس بتاريخ 12 أكتوبر 2018 تحت عنوان “كيف اقتربت تونس من العجز عن تسديد الدين” أن تونس كانت مطالبة بدفع مبلغ 571,153 مليون دينار بتاريخ 12 أكتوبر اجل سداد دين في شكل سندات للخزينة العمومية.
غير أن أنه إلى يوم 8 أكتوبر 2018 الحساب الجاري للخزينة العمومية التونسية لا يوجد في رصيدها إلا 1,29 مليار دينار وهو ما يمثل تقريبا أجور الوظيفة العمومية الشهرية التي تساوي تقريبا 1,25 مليار دينار لكل شهر.”
كما يضيف وهو ما نبهنا منه في عديد المناسبات” أن تونس و نتيجة لنقص المداخيل الجبائية أصبحت تلتجئ باستمرار إلى سندات الخزينة لتتمكن من سداد الديون و دخلت بذلك في دوامة جهنمية عبر التداين لخلاص الآجال الديون المتواترة.
غير أن الصحفي ذكر أن الحكومة نجت في هذه المرة من تخطي هذه المحنة حيث تمكنت وزارة المالية بتاريخ 9 أكتوبر 2018 من الحصول على قروض بنكية جديدة بقيمة 500,5 مليون دينار عبر سندات الخزينة جديدة تم اكتتابها من طرف البنوك التونسية”.
طبعا بنسبة فائدة عالية جدا لا تقل عن 10 بالمائة حسب اعتقادنا خاصة و أن البنوك التونسية تعاني كثيرا من شح السيولة و هذا ما سيدفع نحو التقليص في تمويل المؤسسات الخاصة و العامة الذي بدوره سيؤثر على الدورة الاقتصادية وهي التي تعاني بركود شبه تام من أصلها”.
و السؤال الذي يطرح نفسه بقوة كيف يمكن الوصول إلى هذا الوضع الكارثي و الحال أن كل الحكومات المتعاقبة التزمت بتطبيق تام لإملاءات صندوق النقد الدولي و الذي يحركه الاتحاد الأوروبي و البنك الدولي؟
إملاءات الاتحاد الأوروبي و صندوق النقد الدولي : دمار مستمر للاقتصاد الوطني :
منذ سنة 2012 و بداية من سنة 2013 دخلت تونس تحت إملاءات صندوق النقد الدولي بإيعاز و تنسيق من الاتحاد الأوروبي و البنك الدولي و بتأطير تم تحديده في قمة السبعة بمدينة “دوفيل” الفرنسية في ماي 2011. لقد تم استدعاء رئيس الحكومة التونسية آنذاك لهذه القمة سعيا لاحتواء الثورة التونسية و تكريس الرهان الإستراتيجي للاتحاد الأوروبي و البلدان الغربية بصفة عامة في المنطقة.
و كان لابد من وضع البلاد تحت جبة صندوق النقد الدولي بوصفه الذراع المالي المسلط على كل بلد يمر بصعوبات مالية. لقد بينا بالحجة في مقال سابق أن الحكومة التونسية في سنة 2011 رفضت عرض صندوق النقد الدولي للتدخل. و قد جاء ذلك على لسان المديرة العامة للصندوق في الندوة الصحفية التي نظمتها في تونس بتاريخ 12 فيفري 2012 بحضور محافظ البنك المركزي آنذاك.
غير أنها أضافت أن صندوق النقد الدولي يعيد عرضه من جديد و يعلن على استعداده لتقديم ما تطلبه الحكومة التونسية الجديدة (الترويكا) في إطار برنامج يتم الاتفاق عليه بين الطرفين.
لقد نجحت كريستين لقارد في ترويض الحكومة و إدخالها في فخ التداين و الإملاءات التي لا تنتهي خاصة عندما تعلق الأمر بحكومات فاقدة لمشروع تنموي وطني و فاقدة للخبرة و الحنكة للتعامل مع هذه المؤسسة المالية العالمية الخطيرة التي تقف وراءها أهم القوى العالمية و الإقليمية لتكريس هيمنتها السياسية و لفسح المجال لشركاتها العالمية التي تتصيد مثل هذه الفرائس للاستيلاء على ثرواتها و مؤسساتها المربحة.
هذا المشهد تتبين ملامحه المُفزعة على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي للبلاد من سنة إلى أخرى خاصة عند سن القوانين المالية السنوية. حيث نلاحظ نفس السيناريوهات و الإملاءات : مزيد من الضغط الجبائي خاصة على الطبقات الضعيفة و المتوسطة مثل الزيادة في الأداء على القيمة المضافة في السنة الفارطة، و الزيادة في أسعار المواد الأساسية كمواد التغذية و الطاقة و المحروقات و الدعوة لرفع الدعم عم على هذه المواد.
زيادة على الضغط على الأجور و معاش المتقاعدين، و إعلان تعليق الانتدابات في القطاع العام رغم الشغورات الكبرى و ارتفاع نسبة البطالة خاصة بين أصحاب الشهادات العليا و رغم أن تونس لديها من أقل نسب الوظائف العمومية في العالم مقارنة بعدد السكان. كل هذه الإجراءات ترمي إلى الضغط على عجز الميزانية (في حدود 3 بالمائة كأقصى تقدير). وهو الهاجس الكبير لصندوق النقد الدولي حتى يوفر الإمكانيات المالية الضرورية لخلاص خدمة الدين السنوية و حتى يتمكن من تكبيل الدولة و جعلها تتجرع سنويا أقساط الديون حسب كل خطوة تنفذها الحكومة.
منذ رسالة النوايا التي وجهها كلا من محافظ البنك المركزي السابق الشاذلي العياري و وزير المالية السابق المرحوم سليم شاكر بتاريخ الثاني من ماي 2016 و التي التزمت بمقتضاها الدولة التونسية بتطبيق كل ما جاء بتفاصيلها. نذكر من أهمها الالتزام بالتخفيض المستمر في قيمة الدينار و الترفيع المستمر في النسبة الرئيسية للفائدة و مراقبة الوضع المالي لأهم الشركات العمومية كما تعهدت الدولة التونسية بفسح المجال لصندوق النقد الدولي لمتابعة تطبيق الالتزامات الخاصة بهذا البرنامج بطريقة متواترة كل ستة أشهر و بالقيام بالتعديلات التي يمكن أن يطالب بها الصندوق أثناء كل لقاء.
و قد جاء في رسالة النوايا هذه أن تونس اعتمدت المذكرة الاقتصادية و المالية التي بينت بالتفصيل برنامج ما اعتبر “الإصلاحات الهيكلية” المصاحب لرسالة النوايا و الذي اعتبر وثيقة رسمية التزمت بتطبيقها الحكومة التونسية و البنك المركزي التونسي للمدة 2016-2019 . و جاء في رسالة النوايا حرفيا على لسان الطرفين التونسيين الموقعين عليها “نحن عازمون على تطبيق هذا البرنامج بكل صرامة خاصة و نحن واعون بالمشاكل المتعلقة بالوضع الداخلي و الإقليمي و العالمي “.
إذا كانت هذه إملاءات صندوق النقد الدولي و التي يدفع إليها بكل قوة كلا من الاتحاد الأوروبي و البنك الدولي و إذا كانت الحكومات التونسية المتعاقبة قد التزمت بتطبيقها منذ سنة 2013 و إلى اليوم فما هي نتائج هذه الإملاءات و كيف تجلت على أهم المؤشرات الاقتصادية و الاجتماعية للبلاد.
للجواب على هذا السؤال الهام و حتى نبين بكل وضوح المغالطات التي تجري في البلاد نقدم هذا الجدول التالي لأهم المؤشرات و التي يرجع مصدرها إلى كلا من إحصائيات البنك الدولي و البنك المركزي التونسي و المعهد الوطني للإحصاء:
يبدو جليا من خلال هذا الجدول أن كل المؤشرات الاقتصادية و الاجتماعية عرفت تطور سلبيا و خطيرا منذ بداية تدخل التحاد الأوروبي و البنك الدولي عبر إملاءات صندوق النقد الدولي. من ذلك عرفت نسبة البطالة ارتفاعا من 14,8 بالمائة في سنة 2014 إلى 15,5 بالمائة في سنة 2017 وهو يراوح في نفس المستوى في سنة 2018. كما أن قيمة الدينار التونسي مقارنة باليورو انهارت بنسبة جملية ب42 بالمائة بين سنة 2014 و سنة 2018 و بنسبة 59 بالمائة مقارنة بالدولار الأمريكي وهي مؤشرات كارثية على مستوى المديونية و كذلك على مستوى التضخم المستورد حيث أن “تونس تستهلك بالتوريد” حسب تعبير تقرير صندوق النقد الدولي و الحال أنه يمنع البلاد من تطبيق قانون الحماية المصادق عليها من طرف منظمة التجارة العالمية لترشيد التوريد. كما أن نسبة الفائدة الرئيسية ارتفعت كثيرا في هذه المدة من 4,88 في سنة 2014 إلى 7,29 اليوم اثر آخر ارتفاع قرره البنك المركزي في صمت كامل (ارتفع مؤخرا من 7,25 إلى 7,29).
ما هو ملفت للانتباه أن كل هذه الإجراءات خاصة منها المتعلقة بتعويم قيمة الدينار و بالزيادة المُشطّة في نسبة الفائدة الرئيسية للبنك المركزي هي عوامل تؤدي حتما لارتفاع نسبة التضخم مباشرة وذلك باتفاق جل المختصين و الخبراء في العالم إلا أن صندوق النقد الدولي ومن يطبق في إملاءاته في الحكومات التونسية يعلل هذه الإجراءات المدمرة بأنها سوف تقلص من نسبة التضخم. و الحقيقة تتبين من واقع ارتفاع نسبة التضخم من 4,9 بالمائة في سنة 2015 إلى 7,6 بالمائة حاليا هذا مع احترازنا الشديد على طريقة احتساب نسبة التضخم في بلادنا و التي تعتمد وسيلة لا تعبر عن هيكلة الاستهلاك و المعيشة في الوقت الحاضر للمواطن التونسي و هذا موضوع آخر.
على القوى الحية الوطنية أن تستنهض لنصرة الوطن
في الحقيقة ما يجري هو استهتار بالمصالح العليا للبلاد حيث ثبت من كل التجارب العالمية أن كلما تدخل صندوق النقد الدولي في بلد ما إلا و دمر اقتصادها و لنا في تجربة إندونيسيا و تايلنديا في أواخر التسعينات مثال هام على ذلك. كذلك الشأن لمثال الأرجنتين و البرازيل و كذلك في البلدان الإفريقية خاصة. نذكر من ذلك غانا حيث فرض صندوق النقد الدولي دفع رسوم على دخول الأطفال للمدارس فكانت النتيجة كارثية حيث انخفض عدد الملتحقين بالمدارس بالثلثين منذ السنة الأولى لتطبيق هذا الإملاء الجائر. في زمبيا كذلك أمر صندوق النقد الدولي بالتخفيض من ميزانية الصحة العمومية ،و هو ما يفرضه حاليا في تونس بالمناسبة عبر الضغط على الميزانية و عدم سد الشغور في سلك الأطباء الذين لاذوا بالهجرة نتيجة ضعف الموارد العمومية، فكانت النتيجة كارثية أيضا حيث تضاعفت وفيات الأطفال. و في كينيا أيضا نفس الشيء حيث فرض الصندوق على المواطنين الفقراء دفع أجرة زيارة الطبيب للمناطق البعيدة فكانت النتيجة أن ازداد عدد المصابين بالفيروسات بنسبة 65 بالمائة لقلة ذات.
كذلك لدينا أمثلة لبعض البلدان الذي نجت من هذا الأخطبوط نذكر من بينها ماليزيا التي رفضت إملاءات صندوق النقد الدولي الذي طالب بفتح السوق الماليزية لرؤوس الأموال الخارجية في الوقت الذي كان فيه “جورج سوروس” السمسار الكبير في بورصات العالم الثالث يدمر اقتصاد إندونيسيا و تايلنديا عبر التلاعب بالبورصات المحلية. كذلك نذكر مثال البرازيل الذي تدارك أمره بعدما فوت في الكثير من ثرواته الكبيرة للشركات الأمريكية العملاقة و ذلك اثر انتخاب لولا داسيلفا الذي عمل على تشجيع الإنتاج الفلاحي و الصناعي المحلي و الذي ادخل بلاده في مجموعة البريكس (البرازيل – روسيا- الهند – الصين و جنوب إفريقيا) سعيا للنأي به من غطرسة المؤسسات المالية العالمية التي تحركها الشركات العالمية الغربية.
كل ذلك يجري في إطار وضع سياسي خطير فاقد لكل روح المسؤولية من كل الأطراف الحاكمة حالية. كل ذلك يجري أيضا في وضع أصبحت فيه البلاد مخترقة من الخارج بكل وضوح حيث يضغط الاتحاد الأوروبي لفرض هيمنته النهائية على البلاد عبر الدفع نحو التوقيع على مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق كما يدفع بكل قوة لدفع الحكومة إلى التفويت في المؤسسات الإستراتيجية للبلاد.
كل ذلك يجري أيضا في وضع تتعمد فيه غالبية الصحافة التونسية و خاصة منها الصحافة العمومية المرئية طمس الحقائق و التسويق لسياسة الحكومة المدمرة للاقتصاد الوطني. لذلك يجب علينا أن نطلق صيحة فزع كبرى و نطالب من كل القوى الوطنية أن نستنهض لنصرة الوطن في هذه المحنة العظمى قبل فوات الأوان.