الشارع المغاربي: الثورات الحقيقية تنتصر بعد 48 ساعة على قيامها في اقصى تقدير بإزالة كل رموز النظام القديم ورؤوسه ومؤسساته وهياكله العميقة. أما ”الثورات ” التي يطول بها المخاض إلى عشر سنوات وأكثر فلا يمكن أن تنجب إلا مسخا ….. وهنا استحضر ما كتب طلال سلمان رئيس تحرير “السفير” في طائرة العودة بالخميني من منفاه في باريس وكان جالسا إلى جانب آية الله حسين منتظري في ما أتذكر فسأله الأخير: ما هو أكبر خطآ ارتكبه الرسول يا ترى؟ فبهت طلال سلمان كيف يصدر مثل هذا السؤال عن آية الله فأجاب بأجوبة مختلفة وفي كل مرة كان منتظري يخطئه حتى أجاب هو بنفسه أخيرا قائلا : “لو أن الرسول عرف كيف يتعامل مع معارضيه يوم فتح مكة ….. لاستقام الأمر إلى علي …..” وصمت طلال سلمان لأنه فهم كل شيء.. فللثورة منطق واحد أما البقية فسمه إصلاحا او مصالحة او عفا الله عما سلف او بوس خوك … سمه ما تشاء !!
بعد حوالي عشر سنوات من الأداء السياسي الفاشل لأكبر حركة سياسية بزعامة من زعموه شيخا وليس بشيخ كما يقول القدامى تبين بما لا يدع مجالا للشك أن راشد تكتيكي بارع وأن الغنوشي في المقابل كان استراتيجيا فاشلا وهذا هو البيان:
1— ما أن حطت الطائرة من بلاد الضباب حتى استُقبل استقبال النبي في يثرب التونسية بأهازيج “اقبل البدر علينا” من قبل أنصاره بالأساس وبرضى مشوب بالحذر ولكنه غير معاد من غالبية التونسيين لأن 23 سنة من حكم بن علي الخانق جعلت جزءا من التونسيين غير المنتمين للنهضة يتعاطفون معها بمعنى انه نزل من الطائرة ليحتل جيزا هاما من المشهد السياسي الجديد الذي لم يكن له أي نصيب في إنجازه فلا هو ولا حركته كانا السبب في إزاحة بن علي عن الحكم وهذا أمر يعرفه النهضويون قبل غيرهم وإنما هي لعبة جيوستراتيجية اكبر منهم بكثير.
2—- جاء إلى البلاد صدفة ليستثمر رأس مال جاهز قضت الحركة سنوات طوال قي بنائه بيد انه قامر به طيلة عشر سنوات ولأنه سياسي فاشل فقد بدد هذا الرأسمال في معارك دونكيشوتية وأطلق العنان لمن كانوا يذكرونه بشبابه ويذكرونا بعجزه عن الزعامة السياسية في أن يكون رجل دولة والنتيجة هي انه بعد عشر سنوات خسر حلفاءه الموضوعيين من السلفيين بعد أن أراد أن يتدارك أمره تحت وطأة الضغط الأمريكي ووطأة نساء تونس ورجالها ومجتمعها المدني الذي لجم عودة المكبوت لديه كما خسر ذلك الجزء من التونسيين غير المنتمين له حزبيا ولكن من تعاطفوا مع منفاه وحركته لسنين.
3— حاول بعد ذلك أن يتقرب لليمين الدستوري السبعفري تذاكيا منه أن ذلك هو الحل لإنقاذ حركته ولبقائه في المشهد السياسي ….وانتهى به هذا التذاكي إلى الكشف عن سوأته باعتباره حركة يمينية انتهازية لا ترى مانعا في الارتباط بالمال الفاسد وبالدستوريين الانتهازيين وما انجذب اليهم من فلول اليسار الآبق من يساره والطامع في فتات السلطة القائمة او المنتظرة… والنتيجة أن هذا الغنوشي زاد فخسر كل تعاطف ممكن من الشريحة المترددة والتي كانت ترى في فشل النهضة أثرا ” لحطان العصا في العجلة ” الذي قوبلت به واكتشفوا أنها صارت هي نفسها بتحالفها مع الدساترة والمال الفاسد وطعنها للثورة من الخلف “العصا” غير أن الأخطر في أداء الغنوشي هو أنه بعد خسارة جناحه اليميني السلفي الإرهابي وخسارته جزء من الطبقة الوسطى غير المناهضة له في الأصل بصدد خسارة جزء كبير من أبناء النهضة انفسهم الذين يراقبون أداءه الانتهازي الذي استطاع به تأمين الفئة المحيطة به من جهة الثروة والسلطة ورميهم هم بالذات إلى النسيان التدريجي وهذا ما سيؤدي عاجلا او آجلا إلى تفكك هذه الحركة وانقسامها في حياته وقد أدى فعلا إلى ذلك وهو ما نشهده في قائمة المستقيلين من حركة جثم عليها الى حد الاختناق.
4 —أن هذا المتذاكي استطاع مرات عديدة أن يحافظ علي حركته وموقعه ونفوذه المالي مؤقتا وينحني للعاصفة في كل مرة وآخرها بعد 25 جويلية على استحياء وهو الذي عرف ما معنى عدم الانحناء لها في الماضي ولكنه وهو ينحني للعاصفة أضاع معطفه وممطرته وأضاع ملابسه كلها ولم يترك شئيا للمستقبل يستثمره أبناء الحركة بعد أن جردها من كل رأسمالها وقدرتها الرمزية والفعلية علي أن تكون حركة سياسية قابلة للحياة ….ولكن هل كان بمقدور من كان في مثل بؤس ثقافته وتكوينه أن يعطي لحركته ولتونس سوى التردد والتذاكي الغبي والمتاعب التي لا حصر لها ؟
ولأن الشيخ لا يستوعب الدروس لم يفهم أن النهضة كحركة سياسية قد انتهت وان الإسلام السياسي كما تدثر به طوال أربعين سنة إلى زوال. وقد بدأت ملامح ذلك علي يد من استضعفته في البداية و أعنى الرئيس وشاركت هي نفسها في دعمه للوصول إلى سدة الحكم ولكن من ساندته قال لها في لحظة فارقة ما قال الخضر لموسى” هذا فراق بيني وبينك” واستطاع أن يحشرها في الزاوية مذكرا إياها ببعض وجوه فشلها. فقد نجح سياسيا في ما فشلت فيه. فهو بنظافة يده حتى الآن يذكرها بفسادها المالي وتحالفاتها مع المال الحرام. وهو بمواظبته على الشعائر يذكرها بانها لا تستطيع أن تزايد عليه بإسلامها وهو بعربيته وحرصه على الفصحى قدر المستطاع يسحب منها بساط الهوية والعروبة وهو بانتصاره إلى القضية الفلسطينية يسحب منها البساط في أعين الناس وهي التي اتخذت مواقف مشبوهة في منظمة “ايباك” وفي المواقف من تجريم التطبيع .
والرئيس بتعيينه امرأة على رأس الحكومة يدفع بأحد أوجه المشروع البورقيبي زعيم تونس العظيم إلى مداه المنطقي والطبيعي وإن ظل محافظا في مواضيع أخرى وسحب بذلك من النهضة إمكانية الطعن فيه بالخروج عن الثوابت الشرعية موجها صفعة سياسية لمن ظل يعتبر المرأة وعاء جنسيا في نص سيظل عارا على جبين من زعموه شيخا وليس هو بشيخ.
لقد عيب على هذه المرأة القادمة من غير المنبت السياسي الموبوء أنها خلو من الماضي السياسي إذ لم يؤثر عنها مشاركة سابقة في الحياة السياسية وهذا عين ما يعيبونه علي الرئيس نفسه. وقد يكون هذا عيبا في سياق ما ولكنه قد يكون أمرا محمودا أيضا يجنب البلاد ما فعل أهل السياسة من أصحاب السوابق السياسية الذين قادوا البلاد طوال هذه العشرية المقيتة وأوردوها المهالك الاقتصادية والسياسية التي ثار الناس عليها في 25 جويلية وعلى كل فالأمور بخواتيمها مثلما يقال.
لقد تم تعيين هذه المرأة في سياق سياسي مضطرب وتعيينها يعتبر من الوجهة الرمزية نتيجة طبيعية ومنتظرة لحركة الإصلاح التونسية الممتدة لأكثر من قرنين بل ولحركة الإصلاح العربية التي فشلت في المشرق لأسباب معقدة. وبذلك تواصل تونس السير حثيثا في الاتجاه الصحيح متزعمة هذا العالم العربي الذي يجد صعوبة مزدوجة في التعامل مع المرأة بسبب ضغط التحديث من ناحية والفرامل الدينية والشرعية في أحيان كثيرة. وقد بينت التجربة أن تولي المرأة المناصب القيادية كثيرا ما يحقق نتائج جيدة وهو المؤمل من تعيين هذه السيدة شرط أن تتحقق بعض الضوابط التي لا يمكن التغافل عنها وأولها ألا تكون مجرد عون تنفيذ لسياسيات لا دخل لها فيها وهو ما يبدو من سياق التعيين الذي تم والا يتحول تعيينها الى مجرد شعار يخفي استثمارا لقضية المرأة أكثر من تعبير فعلي عن إيمان بضرورة التقدم في مسار حركة الإصلاح التونسية العريقة خطوة أخرى ودفعا لشبهة أن يكون تكليفها تمكينا للرئيس بالأساس من خلال استثمار هذا الرغبة في الدفع بقضية المرأة التي استبطنها الوعي الجمعي للتونسيين ونخبه منذ أكثر من قرنين.
يجب دعم هذه الخطوة الرمزية القوية في ذات الوقت الذي يجب ألا ننتظر منها الكثير لأنها تتولى منصبها بأمر رئاسي في ظل أحكام استثنائية تحصر دورها في تنفيذ سياسات الرئيس واختياراته وهي مسؤولة أمامه فقط وليس أمام الشعب.. فهذا الشعب المنهك بعد عشر سنوات عجاف والذي صفق لما حدث يوم 25 جويلية يحتاج إلى أن توضح له خارطة الطريق المستقبلية في إطار احترام القوانين والدفع بالديمقراطية ومقاومة الفساد حتى تخرج تونس شيئا فشيئا من “لعنة العرب ” الساكنة في جيناتهم لعنة “الإمارة ولو على حجارة “.
وعلى من كان له شرف اتخاذ هذه الخطوة الرمزية والسياسية أن يستوعب تاريخ تونس جيدا وتاريخ حركتها الإصلاحية وجوهر مشروع بورقيبة التحديثي الذي اتخذ من جهاز الدولة قاطرة للتحديث وان يعلم أن هذا المشروع لم يكتمل لأسباب عديدة أولها الاستمرار في الحكم طويلا حتى التعرض لحكم البيولوجيا من الوهن والعجز والانحراف نحو التسلط والحكم الفردي الذي تزينه الحاشية والمتملقون. وقد كان بورقيبة من قبل مدركا لهذه الآفات منذ البداية ولكن شهوة السلطة ذهبت به بعيدا جدا رغم ذلك وكان كثيرا ما يستدعي مِن حفظه لامية ابن الوردي المعروفة مرددا ما فيها من قوله :
أن نصف الناس أعداء لمن ولى الأمر، هذا إن عدل
لا ينبغي على النخب الحداثية أن تغتر بما حدث يوم 25 جويلية فليس ذلك إلا مرحلة في صراع طويل يتجاوز الدستور والنظام السياسي. فلئن تضعضعت النهضة واندحر الإرهاب إلى حين فإن الأصولية لا تزال قوية وهذه معركة طويلة ليست معركة الرئيس والأجهزة الأمنية والعسكرية بل معركة الجامعة والنخب وهي معركة طويلة جدا لا أرى أن من يرتعون اليوم في السياسة يقدّرونها حق قدرها. فتونس ستعرف مستقبلا كما عرفت في الماضي أزمات دورية تقضي على أية مكتسبات اقتصادية بسبب عدم الانتباه إلى ضرورة حلّ المشكلة الدينية سياسيا وتعليميا وثقافيا “بطريقة راديكالية”. وكنت ممن كان يظن منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي مع أفول الحكم البورقيبي أنه بالإمكان أن نمنع الطوفان الذي كانوا يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً وحين أنظر اليوم إلى ما كان جزءا من تأملاتي في الموضوع أدرك أن كل توقعاتي الكارثية قد حدثت وأن الآتي أعظم “ما لم يتهَيِّأ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً” بالرغم من أنيّ لم أكن يوما رائيا ولا كاهنا ولا ممن كانوا للرؤيا يعبرون ولا زلت أعتقد أن الإصلاح الديني والتربوي بالأساس الذي لا يأتي في وقته قد لا يأتي أبداً وإن أتى فبكلفة غالية كان من الممكن تجنيب البلاد والعباد أثارها بسبب قصر نظر السياسيين المهتمين بالآني والمباشر ممن “يجعلون أصابعهم في أذانهم حذر الاستماع لمن جاؤوا لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون”. وأقصد هؤلاء السياسيين الذين إذا نظروا آنذاك إلى جنتهم قالوا ما نظن أن تبيد هذه أبداً وظنوا أنهم قادرون عليها حتى إذا فار التنّور صارت حصيدا كأن لم تغن بالأمس.
ولكي يتحقق ما أسميه بالجلاء الثاني فإن تونس المحروسة لا تحتاج قطعا إلى أن تسلم أمرها إلى أي “سامري ” ليُضِلّها ويخرج لها عجلا جسدا له خوار. فتونس تحتاج لاستئناف السير من حيث توقف مشروع بورقيبة العظيم ولاستعادة “وثبته الخلاقة” المختزلة لكل تراث حركة الإصلاح بعد أن فُتن قومه من بعده وأضلّهم السامِريّ.