الشارع المغاربي: في عشر سنوات تم تدمير أغلب ما أنجزته دولة الاستقلال من مكاسب في الصحة والتعليم والديبلوماسية والاقتصاد عشر سنوات كانت كافية ليخرج دلك المارد البربري الذي تحدث عنه بورقيبة ممزوجا هذه المرة بأيديولوجية دينية اسلاموية ليعيث فسادا في دولة بدأت عليها علامات الوهن منذ خطأ بورقيبة التاريخي في الرئاسية مدى الحياة في استعادة ل” المرض الجينى” العربي القديم الإمارة ولو على حجارة كانت احدى علامات الوهن التي ستتفاقم وتؤدي بالدولة الي المهالك هي عماها التاريخي طوال سبعين سنة– وقد شرعت في اصلاح كل شيء- عن مسالة واحدة مصيرية ستحدد مصير كل إنجازاتها وهى علاقتها بالدين الذي سبب لها كل هذه المتاعب الدورية
والحقيقة أن ثلاثة عقود من الزمان أو أكثر لم تغير من قناعتنى أن تونس – ربما كغيرها من بعض البلاد العربية ستعرف -وعرفت فعلا – أزمات دورية بسبب عدم الانتباه إلى ضرورة حلّ المشكلة الدينية ” بطريقة راديكالية” وكنت أظن منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي مع أفول الحكم البورقيبي أنه بالإمكان أن نمنع الطوفان الذي كانوا يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً وحين أنظر اليوم إلى ما كان جزءا من تأملاتي في موضوع الدين والنظام الجمهوري أرى أن كل توقعاتى الكارثية قد حدثت وأن الاتي أعظم ما لم يثهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً بالرغم من أنيّ لم أكن يوما رائيا ولا كاهنا ولا ممن كانوا للرؤيا يعبرون ولا زلت أعتقد أن الإصلاح الذي لا يأتي في وقته قد لا يأتي أبداً وإن أتي بكلفة غالية كان من الممكن تجنيب البلاد والعباد أثارها وما اكتبه على صفحات الشارع المغاربي هو شهادة للتاريخ على قصر نظر السياسيين المهتمين بالآني والمباشر يجعلون أصابعهم في أذانهم حذر الاستماع لمن جاؤوا لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. هؤلاء السياسيين الذين إذا نظروا آنذاك الي جنتهم قالوا ما نظن أن تبيد هذه أبداً وظنوا أنهم قادرون عليها حتى إذا فار التنور صارت حصيدا كأن لم تغن بالأمس.
لقد كانت دولة الاستقلال متشبعة في قرارة نفسها – فيما أقدّر – بقيم الجمهورية على النمط الفرنسي ولا شك عندي أن دولة الاستقلال وبورقيبة تحديدا كانت توّد لو أنها استطاعت تحويل النظام الجمهوري الوليد إلى نظام لائكي ولكن براغماتيتها السياسية وحذر بورقيبة من تجربة الغازي مصطفى كمال ورغبة الجمهورية الوليدة في عدم مزيد إثارة جزء من الرأي العام المحافظ أصلا قعدت بها عن تحويل مشروعها من القوة إلى الفعل وإن كانت على كل حال قد وضعت الأسس التي من الممكن أن تؤدي إلى النتائج المنطقية لاختياراتها الأصلية ونعني جمهورية لائكية وهذا الخيار يظل في نظري مفهوما بل قد يظل إلى اليوم مطلبا مشروعا لا أدري أن كان له مكان في ذهن الرئيس الحالي وبطانته وهل توجد القوي الاجتماعية القادرة على تبنيه والدفاع عنه ولكن الثابت أنه أمر لم تفلح دولة الاستقلال في القيام به على وجهه ولا المساعدة عليه لأسباب مختلفة لا في العهد البورقيبي ولا في عهد من جاء بعده بل صار أمرا عسير المنال بعد اشتداد عود الإسلام السياسي منذ الثمانينات من القرن الماضي وقد زاد دستور الجمهورية الثانية الأمر تعقيدا بان صاغ في عبارات فضفاضة قابلة لكل التأويلات الممكنة ما كان يبدو واضحا بعض الوضوح في دستور الجمهورية الأولى وهي صياغة عكست في الحقيقة التوازنات السياسية التي وضعته فجاء أشبه بحقل الغام في بنوده المتعلقة بالدين
إنني لا أدعو الرئيس الحالي بعد الفراغ من المهام الاقتصادية والأمنية المستعجلة الي الدفاع عن جمهورية لائكية معادية للدّين فهو أمر يبدو أنه ليس من مناصريه بل بالعكس فالأفضل حاليا وفي الأفق المنظور هو بقاء الجمهورية التونسية نظاما محافظا على هذه” الوديعة التاريخية ونرى ضرورة بقاء الإسلام دينا للدولة تعترف به وتمده بضمانها فلا تتحول الي لائكية لا مبالية بمصير الدّين معتبرة إياه مسألة خاصة لأن ذلك سيخلق فراغا مرعبا وخطيرا على توازن المجتمع في غياب أي هيكل مواز للدولة قادر على تحمل هذه المسؤولية مسؤولية التعليم الديني وتأويل الدين والتكلم باسمه
وتحن إذ نوكل هذه المهمة للدولة التونسية فإني ادعو القائم على شؤون الدولة اليوم أن لا يجعلها فوق الدّين ولا تحته بل أدعوه إلى الدفاع عن إشاعة روح من لائكية العقول والنفوس والتفكير دون أن تكون الدولة نفسها لائكية أي أنى أريد باختصار من هذه الجمهورية في فرصتها الاخيرة وبعد الفراعغ من المهام العاجلة أن تشرع في إشاعة روح من اللائكية غير المعادية للدّين وللإسلام بل لائكية مناصرة للحرية ولهذا أيضا أؤكد على أن واجب هذه الجمهورية وقد اعتبرت الدّين شأنا من شؤونها أن تسعى إلى إصلاحه كما تسعى إلى إصلاح أي من مقومات وجودها الاقتصادية والاجتماعية ولكن هذا الإصلاح يجب أن لا يتم على حساب الدّين بل بواسطته وفيه وباستقلالية عنه أيضا .
أن أكبر نقيصة بدت في دولة الاستقلال استمرت حتى اليوم هي مماهاتها بين الدّين والزيتونة التي اعتبرتها مرجعيتها الوحيدة الممكنة لإعادة بناء علاقتها السياسية بالدين متناسية أن هذه المؤسسة الجديدة ظاهريا قد أضاعت كل التقاليد العلمية الكلاسيكية النبيلة التي قضت هذه البلاد مئات السنين في صنعها عبر مختلف الحقب و السلالات الحاكمة وهو ما لم تفلح تونس إلى اليوم في تعويضه
وهكذا فشلت هذه الدولة في تقدير أهمية الدّين في النهضة الاجتماعية وفي تحقيق مشروعها بالذات وتركت الزيتونة تتخبط في عجزها المضاعف: عجز في تحديد وظيفتها وعجز عن إدراك الوسائل التي بها تخرج من عزلتها والحاصل اليوم اننا نعيش فراغا كبيرا في مستوى المعرفة الدينية تدفع البلاد ثمنه من امنها واقتصادها وتوازنها كل عشرين سنة تقريبا
والواقع أن الخطأ الأكبر يعود بالأساس – في نظري – إلى الجمهورية والى النظام الجمهوري الذي لم يفعل شيئا لخلق مؤسسات دينية هي مؤسسات الجمهورية الدينية فمنذ قيام الجمهورية لم يفعل شيء لإنشاء مؤسسات دينية أكاديمية تكون سنداً له ومعبرةً عن قيم هذا النمط من التنظيم السياسي الذي يبدو أن التونسيين قد ارتضوه والي غير رجعة وحدث أن الدولة أخذت على عاتقها حق ” تدريس الدين للناشئة” بعد افتكاك هذه الوظيفة من مشيخة الجامع الأعظم ولكن المشكلة أن الجمهورية الأولى وقد اضعفت هذا الجامع وقلّصت نفوذه الاجتماعي والسياسي والتربوي – وكانت على حق في ذلك و تفطن الزواتنة انفسهم الي تأخرهم التاريخي – استعانت في الحقيقة لتحقيق أهدافها بنفس المؤسسة التي كان عليها أن تبنى على انقاضها او الي جوارها على الأقل مؤسسات جديدة إنّ النظام الجمهوري سيضل دوما في خطر وستظل قيم الجمهورية دوما هشة ما لم تسع الجمهورية ال خلق مؤسساتها الدينية المتشبعة بقيم الجمهورية وعليها أن لا تتأخر في بناء مؤسساتها الخاصة فالمسألة الدينية لا تهم الزواتنة فقط أو من توهموا انهم ورثتها بل تهم أيضا فئة أخرى لا يجمعها بمن سبق إلاّ اعتبار الدّين ظاهرة جديرة بالدراسة حقّاً وفق مبدا الرعاية لحقوق المعرفة أوّلا وأخيرا فهم وإن لم يلتزموا عقائديا وفكريا بأي دين إلاّ أنهم يلتزمون علميا بالظاهرة الدّينية ولهؤلاء الحق في أن يكتبوا ويعيشوا ويفكروا وينشروا حتى وإن كان الإسلام هو دين الجمهوريّة ولهؤلاء يجب أن تخلق الجمهوريّة المؤسسات التي تسمح لهم بالتأليف والتفكير والنشر من خلال إنشاء مركز للدراسات الدّينية خارج إطار الجامعة التونسيّة مثلا أو تأسيس كليّة خاصة داخل الجامعة التونسية باسم كليّة الأديان تكون مجمعا لتعدد الاختصاص في مقاربة الأديان وينتسب إليها أساتذة من القانونيين واللغويين وعلماء الاجتماع والفلسفة لتكون منهم نخبة تنفر لترعى حق المعرفة ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم
أن قيام هذا المعلم من شأنه أن يساعد على خلق الشروط الاجتماعيّة والفكرية لمناخ من لائكية العقول والمجتمع ويساعد على التحرر من سلطة “اللامفكر فيه ” واي لا مفكر فيه أعظم من الدّين عندنا وهو سبب عظتنا سابقا وشقائنا اليوم فما زال للدّين عندنا سطوة وهيبة في النفوس تقعد بنا عن النظر إليه بعين النقد العلمي والبحث الموضوعي والدراسة الوصفية الخالية من آليتي الجدل Polémique والانتصار Apologie ولعل هذا النّمط من الدراسة أن يساعد أيضا على ولادة الحسّ التاريخيّ بان يحررنا من إسار نظام المعرفة الوسيط المتحجّر في بعض لحظاته ويفتح أمام علمائنا ومجتمعنا زمنا جديدا زمن تعلم أشياء جديدة وقيام فضول جديد مع تنظيم مغاير لمعارفنا ونمط توزيعها وانتاجها
أن نقطة الاختلاف بين هذا الصرح العلمي والزيتونية في شكلها الذي ندعو إليه يتمثل في أن الأول هو عبارة عن ” كليّة ” للدراسات الدّينية لائكية الروح بمعني أنّها تتبني شروط التعليم العالي المعاصر وتفسح المجال للنقد التاريخيّ ولعله من المفيد في هذا السياق أن نشدد مرة أخرى على أن ما سبق لا يعني البتة أن النظام الجمهوري يُشجع على قيام تعليم معاد للدّين فهذا المركز أو الكلية وإن كان متشبّعا بقيم الجمهوريّة فانه لا يصدر في تعليمه ومناهجه عن أي نزعة معادية للدّين بل لعلّ أغلب من قد يشكّلون نواة مدرسيه وطلبته إنما هم ممن يعتقدون في قرارة أنفسهم أن الدّين هو من أعظم ما أنتج الوعي البشري ولكنهم ليسوا مستعدين للتضحية بحقوق المعرفة لأجل الرعاية لحقوق الله فقط بحسب عبارة الحارث المحاسبي.
أن الجمهوريّة بتبنّيها هذه الاختيارات الاستراتيجية تتبني خيار الحرية: حرية التفكير وتقف موقفا حكيما ينظّم صلتها بالدّين فلا يحرّكها مجرد استغلال الدّين استغلالا يؤدي في النهاية إلى وضعها هي نفسها موضع التساؤل -وقد وضعت اليوم في هذا الموضع –فعليها إذن أن تضمن الحريات الدّينية للمتديّنين ولغير المتديّنين وتعمل على الحفاظ على هذه التعدّدية ذلك أن هذه التعدّدية في دولة دينها الإسلام ليس أمرا مستحبّا ومقبولا فحسب بل ضروري.
ليس هذا الذي ذكرناه قطعة من نصيحة الملوك التي دأب عليها أجدادنا ولكنه دعوة الي القائمين على الدولة اليوم في فرصتها الاخيرة قبل أن يتداركها الإسلام السياسي فيجعلها هشيما كأن لم تغن بالأمس الى أن لا تتأخر في القيام في القيام بأهم اصلاح وما به يتم ينجح كل اصلاح للدولة في اقتصادها وتعليمها وصحتها وأمنها وهو اصلاح الدين حتى وان اعترضت القائمين عليه كل أصناف المعارضات ولتتذكر هذه الطبقة السياسية ما كان يردده بورقيبة دوما من لامية ابن الوردي وفيها
ليس يَخْلو المرء من ضِدّ ولو حاول العَزْل في رأس جبل
أن نِصف الناس أعْداء لمَنْ وُلِّيَ الحُكْم هذا أن عَدَلْ
فالإصلاحات الكبيرة تحتاج نفوسا كبيرة وحسبي أنى أقدم هذا البلاغ أسوقه الي عزيز تونس هذه الأيام ورئيسة حكومته وكلاهما من رجال التعليم ليهتما بهذا الذي لم يهتم به أحد منذ سبعين سنة وكلفنا اهماله خرابا معمما حتى لا يقال عنها لا يفلح قوم ولوا امرهم امرأة ولا يقال في من اختارها” الصيف ضيعت اللبن”
كتب هذا ومثله منذ عشرين سنة ولا أزال أستصرخ النخبة السياسية ولكن هل مازال عندنا متسع من الوقت لتجاهل هذا الخطر الداهم بل الذي داهم وانتهى ؟ خوفي أن تكون دعوة أخرى كَسَرَابٍ بِقِيعَة يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْـَٔانُ مَآءً حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْـًٔا .
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 23 نوفمبر 2021