الشارع المغاربي: لا يمكن لأي طرف أن ينكر أن الأسباب المباشرة لاندلاع الثورة التونسية كانت بالأساس أسبابا اقتصادية واجتماعية في علاقة بانعدام وجود مخطط تنموي وطني مما أدى إلى ارتفاع نسبة البطالة والفقر وتدهور المرافق العمومية.
هذا الوضع المتفجر كان نتيجة حتمية للسياسة التي انخرطت فيها البلاد منذ أواخر الثمانينات تحت عنوان العولمة واتفاقيات التبادل الحر في إطار شراكات غير متكافئة والخوصصة التي استفادت منها أقليات محلية وقوى إقليمية عمقت التفاوت بين الفئات الشعبية وبين الجهات ودمرت العقد الاجتماعي.
من هذا المنطلق يمكن التأكيد أن الحراك الشعبي الذي نتج عن الثورة التونسية مثّل فرصة ذهبية لإنقاذ البلاد من تغلغل النظام الليبرالي الذي أدى إلى تفكيك الدولة الوطنية وجعل البلاد تعتمد على الاستثمار الخارجي في إطار المناولة التي أكد البنك المركزي في تقاريره حول التجارة الخارجية أنها «لا توفر القيمة المضافة المطلوبة للاقتصاد الوطني كما أنها لا تعزز رصيد الدولة من العملة الأجنبية بما انها لا تسترجع مداخيل التصدير». كيف تم إهدار فرصة سنة 2011؟
غير أن هذه الفرصة التاريخية الأولى أهدرت تماما بطريقة ممنهجة تم التخطيط لها في قمة «دوفيل» للدول السبع برئاسة فرنسا في شهر ماي 2011 وبحضور رئيس الحكومة التونسية آنذاك الراحل الباجي قائد السبسي. لقد التزم الطرف التونسي كتابيا في هذه القمة بعدم تغيير المنوال التنموي المبني أساسا على المناولة في إطار الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. كما تم التعهد بتعميقها عبر مشروع التبادل الحر الشامل والمُعمّق «أليكا». فيما تعهدت مجموعة الدول السبعة كتابيا أيضا بالعمل على استرداد الأموال المنهوبة والمهربة من تونس في عهد النظام السابق والتي لا تقل عن 40 مليار دولار أمريكي آنذاك. كما تعهدت هذه الدول بصرف مبلغ 25 مليار دولار أمريكي بالتناصف بين تونس ومصر على مدى ثلاثة سنوات 2011 و2012 و2013.
لكن تبين بوضوح ان الطرف التونسي التزم بكل تعهداته بينما تنكر الطرف الثاني لكل تعهداته نحو الدولة التونسية. كما تعمد اطلاق العنان لصندوق النقد الدولي للتدخل من جديد في تونس. وهو ما تم فعلا بداية من سنة 2012 بتفويض من حكومة الترويكا الذي تجسم من خلال أول رسالة نوايا موقعة من طرف إلياس الفخفاخ وزير المالية آنذاك ومحافظ البنك المركزي السابق الشاذلي العياري والتي التزما بمقتضاها نيابة عن الحكومة التونسية بتنفيذ كل الشروط التي فرضها في إطار التفويض والمتعلقة بالتفويت في ما تبقى من المؤسسات العمومية الإستراتيجية وخاصة منها البنوك العمومية وباعتماد سياسة تقشف للضغط على الأجور مع تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية. وهو المنهج الذي دأبت عليه البلاد منذ أول تدخل لصندوق النقد الدولي سنة 1986.
النهضة والنداء عززا دور اللوبيات
هذا المسار المُوثّق لم يكن له أن يُنفّذ لو لم تكن له روافع داخلية سياسية واقتصادية متينة تمثلت في اللوبيات التي تمكنت من مفاصل الثروات والمؤسسات الوطنية منذ عهد النظام السابق والتي عززت مواقعها بعد الثورة. كما تمثلت في الدعم الذي قدمه كلا من حزب حركة النهضة وعلى رأسه راشد الغنوشي الذي يمثل مع المقربين منه الجناح الليبرالي بداخله وحزب نداء تونس الذي أسسه الراحل الباجي قائد السبسي بعد ما مهد الطريق لمسيرته على رأس البلاد منذ توليه رئاسة الحكومة في سنة 2011. وبقطع النظر عن المسرحية التي تمت بواسطتها إدارة الحملة الانتخابية التشريعية والرئاسية لسنة 2014 بين الحزبين والتي تمحورت حول موضوع الحداثة وموضوع التوجه الإسلامي فقد تبين أن الحزبين سرعان ما تقاربا اثر الانتخابات ليصبحا اهم كتلة نيابية في البرلمان. هذا السيناريو كان أيضا مرتبا له من الخارج كما تبين من مقال صدر في جريدة «البيان» الإماراتية في شهر أوت 2012 والذي أكد أن مصادر مقربة من السلطة الأمريكية طالبت الحزبين التونسيين بأن يتحالفا لحكم تونس بالتوافق بينهما. هذا التحالف مكن الطرفين من تفويض ثان لصندوق النقد الدولي بداية من سنة 2015 تحت عنوان فضفاض اتفاق تسهيل الصندوق «المُمدّد» الذي مكن الدولة التونسية من قرض جديد بمبلغ 2,8 مليار دولار امريكي يتم صرفه بالتقسيط سنويا على مدى أربعة سنوات 2016 – 2020.
حتى يتمكن القارئ من مقارنة موضوعية لقيمة هذا القرض الذي يعادل تقريبا 8 مليارات دينار على مدى أربع سنوات لم يُحصّل منها إلا 6 مليارات دينار فقط في نهاية المطاف رغم ما قدمت الدولة التونسية من تنازلات مهينة يجب التذكير بأن العجز التجاري السنوي في النظام العام المقيم المعتمد طبقا للمعايير الدولية كان في حدود 20 مليار دينار في سنة 2016 وارتفع إلى 25 مليار دينار في سنة 2017 ليصل إلى 29 مليار دينار في سنة 2018 ويستقر في مستوى 31 مليار دينار في سنة 2019؟ هذا علاوة على خدمة الدين السنوية التي كانت في حدود 9,3 مليار دينار في سنة 2019 وارتفعت إلى 11,7 مليار دينار في سنة 2020.
بمعنى واضح مقارنة لا تستقيم بأي حال خاصة إذا علمنا أن هذا القرض المشروط تجسد برسالة نوايا جديدة موقعة من طرف وزير المالية آنذاك الراحل سليم شاكر ومحافظ البنك المركزي السابق ومرفقة بـ«مذكرة السياسات الاقتصادية والمالية» التي التزمت الدولة التونسية بتنفيذها وتضمنت قائمة كل المؤسسات العمومية التي يجب التفويت فيها. كما تضمنت كل القوانين التي يجب تمريرها التي تتناسب مع كل مطالب اللوبيات المحلية المتمكنة والأطراف الخارجية في إطار مزيد من الخوصصة وفي إطار تمرير مبطن لكل بنود مشروع اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق «أليكا» نذكر من أهمها:
• تغيير القانون الأساسي للبنك المركزي التونسي في أفريل 2016 الذي منع هذه المؤسسة السيادية الرائدة من تقديم السيولة المالية لخزينة الدولة بطريقة مجانية وفرض على الدولة اللجوء للبنوك التجارية للاقتراض بنسب فائدة مُشطّة أثقلت المديونية العمومية ومكنت البنوك من مرابيح طائلة.
• تمرير قانون الشراكة بين القطاع العام والخاص الذي تخلت عنه عديد الدول من بينها فرنسا وبريطانيا.
• تمرير قانون جديد للاستثمار وسّع في الامتيازات للأطراف الخارجية بدون قيد أو شرط.
• قانون المصالحة الذي أثار جدلا كبيرا.
• قانون المواصفات الصحية والصحة النباتية طبقا للمواصفات الأوروبية الذي سوف يمنع بيع أي منتوج وطني في تونس غير مطابق لهذه المواصفات والحال أن تونس لا تملك التجهيزات الضرورية لتمكين الفلاح التونسي من مطابقة هذه المواصفات.
• قانون الاستثمار الأفقي الذي مكن المستثمر الخارجي مزيد من الامتيازات.
• كما تم في الأثناء إجبار كل المؤسسات العمومية على الاقتراض من البنوك الأجنبية وخاصة منها الأوروبية بالأورو مع تحميلها مخاطر انهيار قيمة الدينار وبضمانة الدولة التونسية. الشيء الذي أثقل كاهل مديونية هذه المؤسسات التي أصبحت تعاني من خسائر سنوية متراكمة سببها الأساسي ثقل كلفة الديون الخارجية التي جاوزت 18 مليار دينار حسب التقرير الأخير لوكالة «موديز» للتصنيف السيادي والتي بينت أن هناك تهديد من الدائنين الأجانب بتفعيل ضمانة الدولة في حالة عجز تسديد أقساط الدين. وهذا يعتبر استدراجا خطيرا نحو التفويت في مؤسساتنا العمومية. من ذلك نسرد هذا المثال المتعلق بالقائمات المالية للشركة التونسية للكهرباء والغاز في سنة 2016 التي تبين أن أعباء القروض (الفوائد) في سنة 2015 كانت في حدود 150 مليون دينار فقط ثم ارتفعت إلى 635 مليون دينار في ظرف سنة واحدة في علاقة بانهيار قيمة الدينار مما أدى إلى ارتفاع خسائر الشركة من 23,8 – مليون دينار إلى 635,4 – مليون دينار في سنة 2016. وبين أن التداين بالعملة الأجنبية هو السبب الأساسي في تدهور وضع المؤسسات العمومية.
امتيازات وتنازلات ونتائج كارثية
أمام هذا السيل من التنازلات كان من المفروض أن يترقب الشعب التونسي نتائج جد إيجابية ولكن واقع الامر يبين أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي ماض في التدهور من سنة لأخرى حيث نسجل:
• ارتفاعا في المديونية التي تفاقمت لتبلغ أكثر من 90 مليار دينار.
• ارتفاعا متزايدا وخطيرا في العجز التجاري الذي بلغ 31 مليار دينار تسدد بالعملة الأجنبية في سنة 2019 مقارنة بميزانية الدولة التي حدد في مستوى 41 مليار دينار.
• نسبة البطالة التي تتفاقم وتصل إلى حدود 30 بالمائة في بعض الجهات الداخلية
• ارتفاع نسبة الفقر إلى ٪15,3 والفقر المدقع إلى ٪2,3 حسب تقرير المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2015 بمعنى أن هناك قرابة مليونين تونسي يعيشون تحت خط الفقر وبالتأكيد أن هذا الرقم تفاقم منذ ذلك التاريخ.
هذه المؤشرات يتم طمسها بطريقة ترتقي إلى مستوى التدليس وتلامس الخيانة العظمى في حق البلاد.
عندما تتعمد كل الحكومات المتتالية التعرض إلى كتلة الأجور التي يتم شيطنتها باطلا وبهتانا باعتبارها السبب في عجز ميزانية الدولة والواقع يبين أن كتلة الأجور في سنة 2010 كانت تمثل ٪37 من ميزانية الدولة لنفس السنة وتمثل ٪40 فقط من ميزانية 2020 رغم الزيادة في عدد الموظفين من 470 ألف إلى أكثر من 630 ألف حاليا وبدون اعتبار لنسبة التضخم التي ارتفعت من ٪2,1 في سنة 2010 إلى ٪7 في السنوات الأخيرة. وبدون اعتبار انهيار قيمة الدينار التي أدت إلى انهيار القدرة الشرائية للمواطن.
كذلك ضم المبادلات التجارية في نظام الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا في احتساب العجز التجاري للتقليص من العجز التجاري الحقيقي من 31 مليار دينار مثلا في سنة 2019 إلى 19 مليار دينار فقط هو تدليس متعمد لا ريب فيه خاصة انه في علاقة مباشرة بميزان الدفوعات. زيادة على أنه يبين باطلا أن مبادلاتنا مع الاتحاد الأوروبي متوازية والحال أن وثائق المعهد الوطني للإحصاء تثبت أن العجز التجاري مع هذا الطرف ارتفع إلى 14 مليار دينار يليها العجز مع الصين بـ6 مليارات دينار ثم تركيا ب2,5 مليار؟ التحيز لصالح الاتحاد الأوروبي بهذه الطريقة يمثل خيانة في حق البلاد. وأخيرا الصمت على كل ما يجري من أموال منهوبة ومهربة تفوق 60 مليار دولار هو أيضا أمر مريب وخطير.
كورونا كشف مخاطر العولمة والليبرالية
رغم كل ما تبين من آثار جائحة كورونا التي كشفت مدى تدهور المرافق العمومية خاصة في الميدان الصحي وعلى مستوى ضرورة توفير الاكتفاء الذاتي الصحي والغذائي وذلك في كل بلدان العالم التي سارعت في مراجعات عميقة بينت الجائحة مدى خطورة السياسات الليبرالية ومحدودية العولمة التي أضرت باستقلال الدول وبسيادة القرار الوطني. من ذلك فقد سارع البنك المركزي الأمريكي في خطوة فريدة من نوعها إلى شراء كل الديون العمومية الأمريكية وصرفها بنسبة فائدة قريبة من الصفر. كما سارع البنك البريطاني الى التخلي عما سمي بـ«استقلالية البنك المركزي» حيث قرر تجميد هذا القانون وتقديم سيولة مالية مباشرة لخزينة الدولة ودون نسبة فائدة سعيا لتحصين اقتصاد البلاد. كما أقرت فرنسا على لسان وزير اقتصادها بأنها مستعدة لتأميم المؤسسات العمومية الاستراتيجية وبادرت بضخ 7 مليارات أورو (أكثر من 22 مليار دينار تقريبا نصف ميزانية تونس لسنة 2020) في راس مال الشركة الجوية الفرنسية لحمايتها من صناديق الاستثمار الأجنبية التي تتصيد مثل هذه الفرص. كما تعالت الأصوات من عدة جهات لمطالبة البلدان التي تعاني من ثقل المديونية بان تتقدم بطلب تأجيل تسديد الديون.
غير أن الحكومة التونسية الحالية تجاهلت كل هذا الحراك الدولي وتبدو مصرة على المضي في نفس سياسة التداين المدمرة. اذ رفضت طلب رفع تسديد الدين لهذه السنة الذي سوف يمكنها من مبلغ لا يقل عن 11,7 مليار دينار وتتوجه نحو توريط البلاد من جديد مع صندوق النقد الدولي بمبلغ لا يغني شيء وبشروط مجحفة ومهينة. كما رفضت تعليق العمل بقانون البنك المركزي لسنة 2016 والرجوع لقانون 1958 لتمكين الدولة من سيولة مالية دون فائدة ووضع حد لهيمنة البنوك الخاصة على مفاصل الدولة. كما رفضت أيضا التخفيض التام في نسبة الفائدة المشطة لتقترب من الصفر أسوة بما فعلت كل دول العالم لتتمكن من السيطرة على التضخم وتقديم تمويل ميسر للمؤسسات الاقتصادية الوطنية المنتجة العمومية منها والخاصة والخدماتية ورد الاعتبار للمنتوج الوطني عبر ترشيد التوريد بطريقة صارمة وجدية ويتمادى سيل التوريد المكثف والممول عن طريق المديونية كما يتبين من إحصائيات التوريد في الثلاثي الأول من هذه السنة اذ وصل العجز التجاري إلى أكثر من 6 مليارات دينار أي في نفس مستوى سنة 2018. هذا الانطباع يتجسم من خلال التباطؤ للاستجابة لمطالب كل المؤسسات الوطنية في الإحاطة بالتمويل الميسر والسريع والحماية الجدية عبر تطبيق القوانين ذات الشأن وفي كل الحالات لا يمكن التفريط في هذه الفرصة التاريخية لإنقاذ الاقتصاد الوطني من براثن السماسرة والفساد.