الشارع المغاربي: في أواخر سنة 2010 انتفض هذا الشعب على النظام الفاسد السابق، ونادى المصلحون بان يعملوا في سبيل انقاذ البلاد من المظالم، وان يفتحوا بابا للحرية وللعدل والكرامة؛ أما وقد دخلنا اليوم العام العاشر بعد ذلك، فلنتساءل: هل أنجزت تلك الاهداف ولو جزيئا؛ مٌرّ الجواب يقول، لا فقط لم ينجز أي من تلك الوعود، بل وإن البلاد أغرقت في غيابات ازمة اقتصادية واجتماعية لم تَعرف لها مثيلا في تاريخها المعاصر؛ فأصبح السؤال، لا ‘كيف تحسين الوضع’؟، وانما ‘هل من منقذ للبلاد’؟ – لنستثني فتات الأحزاب ونوباتها غير المجدية، ولنوجه انظارنا الى أكبر التشكيلات على اقصى اليسار وعلى اقصى اليمين، ولننادي بدورنا ‘هل هناك شيء يؤمل من الذي ينادي بـ «الشعب يريد” او ذلك الآخر الذي ينادي بأن “الله يريد”؟؛
-I-
قد يكون من السهل المستسهل جدا ان يصدح أي كان بالشعار: “الشعب يريد”؛ فالتاريخ يزخر بمثل هذه العبارات المثيرة الرنانة، وكثيرا ما تغترّ لها الشعوب وترتمي في أحضان الدعاة المنادين بها من دون ان يتبيّنوا من مضمونها الدقيق ومن مصداقية أصحابها؛ والحال ان هذا الشعار يثير في تلك العبارتين العديد من التساؤلات والتخوفات.
1 – فما معنى عبارة “الشعب” والى أي كيان بشري يشير؟ – إذا فٌهمت عبارة “الشعب” في المعنى المادي فيشير الى مجموعة مكونة من عدد كبير من الأشخاص، فلنا ان نتساءل ما هي الوسيلة التي بفضلها سيعبّر هذا الجمع فردا فردا عن اجماعه على شيء ما ليكون التزاما وتعهدا صارمين يتقيّد بهما؟ – ومن الناحية العملية، فإن التاريخ يشهد من بداية من أقدم الحضارات الى احدثها ومرورا “بقرن الأنوار” الغربي، ان هذا المفهوم ليست له اية حقيقة سياسية ملموسة يٌؤتمن بها، بل وانه تسبب في أبشع الأنظمة السياسية بمروره من “الشعبوية الاعتباطية” (“الديماغوجية” عند قدماء اليونان) الى أكره الدكتاتوريات المعاصرة؛ وما التجارب العديدة في المجتمعات الحالية الا دليل واضح على ذلك الفشل؛ أما إذا أخذ هذا المفهوم في المعنى الرمزي، فإن ذلك الذي ينطق بتلك العبارة يعني في الحقيقة اختزال مجموع ذلك “الشعب” في شخصه فيصبح بذلك “الناطق الرسمي” باسمه وقائده وراعيه والقائم الأمثل على مصالحه والصانع القدير لمستقبله؛
2 – أما العبارة الثانية “الإرادة”، فإذا نظرت فيها مليّا، فإنه سيتضح لك انها لا تقل ابهاما وغموضا من العبارة السابقة: فمضمون “الإرادة” رهين الظرف الزماني والظرف المكاني، يتقلّب بتقلبهما؛ وفي اغلب الحالات، فإن هذا المضمون “الإرادي” لا ينتج عن قرار منطقي ومتناسق ويسوق بكل امانة ما كان “الشعب” يتراءاه حقا؛
وإذا جمعنا العبارتين “الشعب” و”الارادة”، فإن ذلك يعني بلا جدال ان من نطق بهما إنما كان في الحقيقة يعني انه هو بالذات ذلك الذي يجسم في آن واحد ذلك “الشعب” وتلك “الإرادة”…؛ وبذلك تنغلق تلك “الدائرة المفرغة” التي تجرّ الى انخرام الحكم والى “الدكتاتوريات”؛
3 – من جهة أخرى، وإذا استثنينا الأنبياء، وهم يتلقون الكلام الكامل المتكامل من العُلاء، فإن سائر المنظرين والمفكرين في الميدان السياسي خاصة، عليهم ان يستخلصوا العبرة من تجارب اسلافهم، الذين تركوا بصماتهم وسمة عبقريتهم في ذات المجال؛ فهؤلاء المفكرون الكبار ادركوا ان، في مجال الانسانيات والسياسيات، عامل الزمن له أهمية قصوى ولا يمكن اختزاله؛ لنذَكر انه عندما تبنّى المفكر الفرنسي ‘روسو’ الفكرة الديمقراطية، فإنه نسّبها بقوة فأقرّ ان حظها في التطبيق الفعلي ضئيل جدا لكونها لا تتجانس الا مع أناس من “جنس الملائكة”…؛ وحتى إذا اعتبرنا ان الديمقراطية التمثيلية كشفت الكثير من عيوبها وهناتها، فإن الفكرة “الشعوبية” المنافسة لها والتي تدّعي تطهير تلك المنظومة من كل فساد باعتبار انها سترجع القرار السياسي كاملا الى مستحقه الحقيقي، أي الى “الشعب”، فإن المناورة في سبيل ادراجها في حلقة المبادئ السياسية المعترف بها واقحامها في الواقع السياسي الملموس تمثل مجازفة كبيرة الخطورة لكون هذا المفهوم في حد ذاته، لا يحتوي اي مبادئ دقيقة وموضوعية ومتفق عليها وان المجتمع البشري المدعو لتلقيه ولتطبيقه، ليس بالضرورة مؤهلا لذلك او قابلا لذلك، وان الظروف الموضوعية قد تكون غير ملائمة او مستعدة للاندفاع في تلك المغامرة؛ وبصورة اعم، لنقل إن المنظومات السياسية والفلسفية قليلا ما يكون من حظها ان لا ترى النور زمن حياة صانعيها…؛ ففي أغلب الحالات، لن يكتب لها ان تضع خاتمها وطابعها على الواقع المعاش الا بعد ان تٌدرَس في العديد من البحوث والاطروحات والمقالات والمناظرات واللقاءات العلمية، ما يتطلب الزمن الطويل وجهود الأجيال العديدة من الباحثين والمفكرين….؛
-II-
1 – إذا كان حظ تونس في النجاة من الازمة الراهنة على يد من أعلن قدرته على انجاز المعجزات لا يكون الا مجرد هراء وهذيان لا يصدقه الا اليائسون والمغفلون، فهل سيكون الامل في أنقاض البلاد أوفر لا إذا حصل ذاك على يد الذين نادوا لا (“الشعب يريد”)، وإنما على ايدي الذين نادوا “الله يريد” وأكدوا انهم قادرين على معرفة تلك “الإرادة” الإلهية وعلى الكلام باسم الله والكتاب والسنّة وتعهدوا بفرض احكامها على كل الناس، في “دينهم ودنياهم”؟؛
الحقيقة ان هذا بالذات هو مربط الفرس؛ فالسؤال المطروح هنا هو: من نصّب هؤلاء الناس وكلاء على هذا البلد الأمين، بالخصوص والحال أن الكتاب العزيز أنذر الرسول (صل) ان ” ما ارسلناك عليهم وكيلا” (17، الإسراء، 54) و” إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا” (17، الإسراء، 64)؟ – فواضح أن معنى هذا هو أن في الإسلام، وخلافا لأديان أخرى ومنها الأديان السماوية، لا سلطان لمسلم على أخيه المسلم؛ فمن البداية، لا شرعية لأي عمل بشري او لسلطة او لحكم حاكم باسم الإسلام، فالحكم والسلطة شأن السياسة وأهل السياسة، وبذلك فلا مكان للدين في السياسة كما إنه لا مكان للسياسة في الدين أو، إذا اختزلها الكلام، فإنه لا مكان “للإسلام السياسي” في هذه الربوع؛
2 – ثم لنذكر ان السؤال “كيف الخروج من الأزمة الحالية؟” يثير السؤال: ما هو دور ‘الإسلام السياسي’، وهل حقا جاء هذا الأخير بحلول تفوق ما هو معروض من طرف الحركات ‘الحداثية’ أو حتى من طرف الحركات “الشعوبية” المذكورة أعلاه؟ – في نظرنا، إن الجواب على السؤال هو بالنفي باعتبار ان ما قدّمه الحزب الإسلامي في بداية ‘الثورة’ كان عملا خياليا الى حد انه لم يأخذه أحد على محمل الجد وأنه سرعان ما أودع في رفوف النسيان فكان منذ ذلك الزمن، ‘نسيا منسيا’؛ وإن الإهمال للمسائل الحيوية والمصيرية للبلاد من طرف قادة الحركة الإسلامية وعدم اكتراثهم بها بقيا على حالهما الى حد اليوم؛ فسواء نظرت الى الحملات التي قادتها هذه الحركة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة او الى المفاوضات الحالية حول تركيب الحكومة الجديدة، فإنك لن تجد في خطابها ولا في مواقفها أثرا يذكر للاهتمامات الاقتصادية والاجتماعية، التي هي، بلا منازع، جوهر الآزمة الحالية؛ بل إن اهتمامها الاكبر ينحصر في التحصيل على “الغنيمة” وأكبرها وعلى الكراسي ومواقع السلطة والحكم السياسي؛ وهذا يكوّن مؤشرا هاما على اهداف الحركة الإسلامية في بلادنا وعلامة قوية لحقيقة موقف هذه الحركة الاسلامية إزاء الإسلام؛ فكما سنثبّته باختصار في ما يلي، لم يكن الإسلام الا ستارا تتستر وراءه هذه الحركة، كمثلها في البلاد الإسلامية، لتخفي أهدافها الحقيقية ولتخدم مصالحها المادية والسياسية الخاصة؛
3 – والحقيقة هي ان الحزب الإسلامي، إن كان ظاهريا متمسكا بالمبادئ الإسلامية، فإنه، في الواقع الملموس، قلَب المعادلة “اسلام/سياسة” رأسا على عقب، فأصبحت تلك المعادلة “سياسة/اسلام”، أي إنه يعطي الأولوية لأهدافه السياسية ويستعمل الورقة الإسلامية كأداة ضغط ومساومة في تعامله مع الأطراف السياسية؛ والدليل على هذا التلاعب مع الاحكام القرآنية مسألتا احكام ‘الميراث’ (4، النساء، 11)، من جهة، و’المثلية’، من جهة أخرى؛ ففي المسألة الاولى، تشبث الإسلاميون بالتأويل الضيق لآية قرآنية “توصي” بعدم المساواة بين الذكر والانثى، لا لشيء الا لكسب رضاء العديد من المواطنين الذين يجدون في تلك الآية القرآنية حجة لاحتكار الذكور للإرث على حساب الإناث؛ وفي المسألة الثانية، نجد المثال المعاكس، الذي فيه صريح تحريم ‘المثلية’ (في آياته الكريمة ‘الأعراف’، الآية 7، النمل، الآية 55، والعنكبوت، الآية 29)، والذي في شأنه زعم الإسلاميون ان لا دخل للمشرع في تعاطي الناس لهذه الممارسات وذلك بدعوى انها ترجع الى الاختيارات والحريات الشخصية التي لا دخل للمجتمع ولا للمشرع فيها؛ وما هذا الانقلاب على الاحكام القرآنية الا آلة لكسب أصوات تلك الفئة من الناخبين ولو كان ذلك على حساب أوضح الأحكام الواردة في الكتاب العزيز؛
وإذا كانت علاقة الحركة الإسلامية بعهد الإسلام كما وصفنا، فما هي الأهداف التي ترمي اليها في الواقع الملموس؟ – الإجابة الصريحة هي بدون جدال: الاستيلاء على السلطة بأية وسيلة كانت واستغلال تلك السلطة بمختلف فروعها ومظاهرها لخدمة مصالح فردية وفئوية خاصة تختلط فيها الوسائل المفيوزية بكل أنواعها وتخلو من كل اهتمام بالشأن العام وحرص على خدمة المصالح العليا للبلاد؛
-III-
خلاصة كلامنا حول هذه الازمة العميقة التي تعيشها البلاد ومواقف أهم الأطراف السياسية منها تتمثل في ما يلي: من جهة أولى، نلاحظ بكل اسف أن قسما يفوق النصف من المجتمع السياسي التونسي، التزم قطيعة شبه كاملة مع الساحة السياسية ومع العمل السياسي وكأنهم تخلّوا عن مواطنتهم وعن الحقوق المتعلقة بها وكأنهم تخلّوا عن حقهم في تحديد مصير البلاد ومستقبلها، وتركوه للذئاب والضباع الجائعة؛ والقسم الآخر، والذي هو اقل من النصف، يتنازعه مغامرون شعبويون لا علم لهم في السياسة ولا تجربة فيها، وعودهم سراب وعهودهم هباء، من جهة، ومن جهة أخرى، جماعة قليلة تحصنوا بأقدس الكتب وتقنّعوا بآياته مغالطة وخداعا وانتصبوا حماة لأحكامه ورعاة لشريعته، وتحت ذلك الكساء المصطنع، هبوا لتجميع “الغنائم” وتوزيع الثروات حلالها وحرامها، ولاحتكار الأموال والمناصب والكراسي، فجروا البلاد الى الهاوية والى الإفلاس وما هم بذلك واعٌون…
فأين المفر…، وهل من مستقر؟
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في العدد الصادر يوم الثلاثاء 11 فيفري 2020