الشارع المغاربي – راضية "الفلسطينية" في عيد ميلادها السبعين/بقلم: حمة الهمامي

راضية “الفلسطينية” في عيد ميلادها السبعين/بقلم: حمة الهمامي

قسم الأخبار

23 نوفمبر، 2023

الشارع المغاربي: يوم الواحد والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بلغت راضية سن السبعين…وتشاء الظروف أن تحيي راضية عيد ميلادها هذه السنة، وهي صامدة في وجه المرض المتأتّي من أتعاب مقاومة الدكتاتورية الممتدة على عقود، في خضم معركة المصير، معركة “طوفان الأقصى”، التي تخوضها المقاومة الفلسطينية الباسلة والتي أحدثت المنعرج في الوقت الذي ظن فيه الصهيوني والامبريالي والمطبّع العميل أن القضية “انتهت” وأن الوقت حان لجني “الأرباح” على جماجم الشهيدات والشهداء…

ولكَمْ حَلُمت راضية بمثل هذه المعركة التي أعادت وضع الأمور في نصابها: إن القضية الفلسطينية هي قضية الشعب الفلسطيني أوّلا، الشعب الفلسطيني الذي سيحرّر نفسه بنفسه متعلّما من تجاربه التي تشقّها الانتصارات والانتكاسات حتّى اللحظة الحاسمة التي تجتمع فيها شروط الانتصار النهائي على الصهيوني الغاصب. إن هذه اللحظة آتية لا ريب فيها… إنّه قانون التاريخ… والمسألة مسألة وقت ليس إلّا…المهمّ الثبات، الثبات وعدم الخوف من التضحيات إذ لا كرامة دون ألم… وتاريخ فيتنام والجزائر وجنوب إفريقيا وغيرها من البلدان يشهد على ذلك.

راضية “عاشقة فلسطين”… وهي طالبة في الجامعة…ثم محامية وحقوقية اعتلت غالبية المنابر الإقليمية والدولية للدفاع عن فلسطين وعن حرّيتها من النّهر إلى البحر وعن كل القضايا العادلة في العالم دون ميز بسبب الدين أو القومية أو الثقافة أو العرق أو اللون أو الجنس… راضية تجلس اليوم، رغم شدّة المرض، أمام شاشة التلفاز لتتابع أخبار المعركة…تحمرّ أحيانا عيناها ألمًا ولكنها تمسك دمعتها وتكتفي بإطلاق زفرة طويلة وكأنّها تلعن المرض الذي أقعدها…ولكم كانت شديدة التأثر حين حضرت يوم تضامن المحامين مع غزة/فلسطين أمام قصر العدالة بتونس ويوم نزلت إلى شارع الثورة بخطاها المتثاقلة لتشارك شابات تونس وشبابها استنكار مذبحة “المعمداني” والمطالبة بطرد سفيري الولايات المتحدة وفرنسا اللتين تشارك حكومتاهما في العدوان وتحرّضان على حرب الإبادة…

راضية التي تراقب اليوم ما يجري في غزة الصمود والإباء تحمل في جبينها “جرح فلسطين…” الذي لا يندمل. ففي يوم 4 مارس/آذار من عام 2005 أُعْلِنَ أن مجرم الحرب الدموي “أرييل شارون”، رئيس حكومة الكيان النّازي، ستطأ قدماه، بدعوة من بن علي، أرض تونس ليشارك في “القمة العالمية للمعلومات”… لم تتجاسر يومها إلا قلّة قليلة من المناضلات والمناضلين من مختلف الأعمار على النزول إلى الشارع للاستنكار والاحتجاج. كان الخوف يسكن في النفوس ويمنع الناس من التعبير عمّا يشعرون به سواء بالكلمة أو بالحركة…وكالعادة كانت راضية النصراوي في طليعة المحتجّين… لم نكن يومها أكثر من سبعة أو ثمانية أنفار محاصرين في جهة ساحة الجمهورية قرب حديقة “الباساج” بالعاصمة… كان عدد أعوان البوليس الذين يطوّقوننا ويمنعوننا من الالتحاق ببقية المجموعات الصغيرة التي تحاول التسلل إلى شارع بورقيبة من مختلف المنافذ يفوق عددنا بعشرات المرات…

كنا نحاول اختراق الطوق الأمني الذي يحاصرنا بالقوة وكانت راضية في مقدمتنا… كانت تصرخ في وجه زبانية الدكتاتور الذين يمنعوننا من الاحتجاج على مجيء المجرم شارون وتهتف بحياة فلسطين…وفجأة خرج من وسط الأعوان أحد ضباط البوليس السياسي المعروفين ومعه عون بالزي يحمل هراوة وطلب منه أن يهوي بها على جبين راضية النصراوي من مسافة لا تتجاوز المتر…انفلق جبينها وتدفق دمها ليلطّخ وجهها ويتناثر في الأرض… ارتمينا على المعتدي وانهلنا عليه ضربا وكان بيننا الأستاذ مهدي مبروك، القيادي وقتها في الحزب الديمقراطي التقدمي، الذي تلقّى بدوره ضربة خطيرة على رأسه كلّفته 7 أو 8 غرز… ثمّ “التقطنا” راضية من الأرض وأخذناها بسرعة إلى مصحة بشارع مدريد لكنّ إطارها الطبي رفض علاج راضية خوفا وجبنا فأوقفنا سيارة مارة يقودها شابونقلنا بسرعة جنونية، وجبين راضية ينزف، إلى مصحة التوفيق حيث تم علاجها ومن حسن الحظ أنها نجتْ من كسر في الجمجمة…

لازلت أذكر كيف كانت راضية ملقاة على سرير في القسم الاستعجالي بالمصحّة والأطباء يراقبون تطور حالتها ونحن نحيط بها حين اتصل بها هاتفيّا مقدّم النشرة المسائية بقناة الجزيرة القطريّة وسألها عن حالتها وعن ظروف الاعتداء عليها فردّت بصرامة: “لا…لن تطأ قدما شارون أرض تونس… لن تطأ قدما شارون أرض تونس…”. وبالفعل لم تطأ قدما شارون المجرم أرض تونس وأرسل شخصا آخر لينوبه في تلك القمة العالمية خوفا من ردود الفعل الشعبية… لقد كسبت راضية التحدّي كما كسبت غيره من التحدّيات الكثيرة بفضل عزيمتها وعزيمة رفيقاتها ورفاقها من الحركة اليسارية والتقدّمية التونسيّة الذين لا يكلّون ولا يتردّدون ولا يتراجعون ولا يخافون ولا يتخلّفون عن المعركة مهما كان الثمنلأنّقناعتهم بالنضال وبالنصر تتجاوز كلّ الحدود… “الخوف لا يمنع من الموت ولكنّه يمنع من الحياة…” هكذا قال، سيّد الروائيّين العرب، نجيب محفوظ…

ظلّ جبين راضية يحمل من سنة 2005 “جرح فلسطين…” وهي سعيدة به… وها هي تحمله إلى اليوم وهي تحتفل بعيد ميلادها السبعين… والمقاومة تصمد في وجه الرياح العاتية وتحقّق خطوة، خطوة ما حلمت به وما تزال… إن فلسطين ستتحرر من النهر إلى البحر بفضل “من قال “لا” في وجه من قالوا “نعم” وأخذ سلاحه حاملا روحه فوق كفّه…بطول العمر يا راضية… يا منارة أزليّة لا تطفئها ريحٌ ولا يهزّها موجٌ…أراك تنشدين منتصبة القامة، متحدّية نازيّ القرن الواحد والعشرين الذي يحاول تركيع شعب الجبابرة: “عبثا تحاول… لا فناء لثائر…هُوَ كالقيامة ذات يوم آتِ”… أراكِ تنشدين مع أمل دنقل، وهو يستذكر “كلمات سبارتاكوس الأخيرة”: “المجد للشّيطان…معبود الرياحْ…منْ قال “لا” في وجه من قالوا “نعمْ”…من علّم الإنسان تمزيق العدمْ…من قال “لا”…فلم يمتْ…وظلّ روحا أبديّةَ الألمْ…”ْ

أنتِ أيضا لن تَمُوتِي وَستَظَلِّين رُوحا أبديّةَ الألم… يا قاهرة أعداء الحرية…

“أراكِ فتحلو لديَّ الحياةْ

ويمْلأُ نفْسِي صَبَاحُ الأملْ”

تونس في 21 نوفمبر 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING