الشارع المغاربي- معز زيود: يُفترض أن يحتفي فتحي العيوني رئيس المجلس البلدي بالكرم، اليوم الثلاثاء 19 ماي 2020، بتدشين أوّل صندوق زكاة في الجمهوريّة التونسيّة. وبذلك سيحقّ له الانتفاخ قدر ما يشاء احتفاءً بنجاحه، ولو رمزيّا، في تحقيق ما عجزت عنه حركة النهضة وحلفاؤها في البرلمان في ديسمبر 2019. حادثة لن تنشقّ لها الأرض، لكنّ صاحبها «أفلح» مجدّدًا في تصعيد الانقسامات بين التونسيّين وضرب دولة القانون في مقتل…
من يُتابع المسار السياسي المتلوّن لفتحي العيوني لن يستغرب مطلقًا إقدامه على إنشاء صندوق زكاة، ضاربًا بذلك عرض الحائط بقرار السلطة التشريعيّة التي رفضت خلال جلسة عامّة لمجلس نوّاب الشعب، يوم 10 ديسمبر 2019 تزامنًا مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان، المصادقة على مشروع القانون ذي الصلة. وللتذكير فإنّ العيوني كان قد أعلن، للمرّة الأولى، عن «قراره» غير المسبوق في بداية شهر نوفمبر 2019. عندها كانت النخب السياسيّة والحقوقيّة منشغلة بمتابعة مناورات تشكيل الحكومة الأولى لما بعد الانتخابات الأخيرة، حتّى جاء هذا اليوم لتتصارخ حول ضرب الأسس المدنيّة للدولة…
البحث عن موطأ قدم!
لم يكن قرار العيوني إذن غريبًا عنه بالنظر إلى تعوّده، بين الفترة والأخرى، على إثارة الضجّة من حوله بأيّ شكل من الأشكال. فهو يؤمن إيمانًا قاطعًا بمنهاج «الغلَبة» وبسياسة التدافع الاجتماعي أسوةً بسلوك سياسيّ ما فتئ رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي يُدافع عنه. أليس الغنوشي من عيّنه في ربيع 2018 على رأس قائمة الحركة في الانتخابات البلديّة السابقة؟!، وألم يُمّهد العيوني لهذه المكافأة برفع ما طاب له من قضايا عدليّة ضدّ منتقدي حركة النهضة وحكومة الترويكا؟!. وكيف لرئيس حركة النهضة ألّا يسنده وهو الذي قال فيه «ما لم يقله مالك في الخمر»، وإن كان المعنى عكسيّا، مادحًا إيّاه ومناشدًا خلال اجتماع شعبي بسيدي بوسعيد (يوم 24 جانفي 2013) بقوله «نقول للأستاذ الجليل، العالم، الشيخ راشد الغنوشي مرحبا بيك وعلى رُوسنا… ديارنا وقلوبنا وأيدينا محلولة ليك… الشيخ راشد الغنوشي عالم جليل ويُعتبر من دُرَر الأمّة في الوقت الحاضر».
علينا أن ننبش في التاريخ حتى نتبيّن أنّ العيوني لم يُعرف عنه، قبل الثورة على خلاف ما يُروّج، أدنى موقفٍ منتقدٍ للنظام السابق، بدليل أنّه كان يعتلي أسبوعيّا المنبر الرياضي لقناة «حنبعل» التي كانت تعدّ آنذاك البوق الأكثر ولاء ودعاية لنظام بن علي. ومن ثمّة لم يُتح له، خلال السنوات الأولى ما بعد الثورة، الفوز بأيّ منصب قيادي، سياسيًّا أو إداريًّا. ومع ذلك فإنّه حقّق شهرته الجديدة بفضل تسجيل رقم قياسي وطنيًّا في رفع الشكاوى القضائيّة أو التهديد بها ضدّ المناوئين لحركة النهضة أو بعض منتقدي سياستها. ويكفي أن نذكر أنّ من جملة من استهدفهم قضائيًّا، في أكتوبر 2012، النائبين الشهيد محمد البراهمي وأحمد الخصخوصي بسبب شنّهما إضرابًا عن الطعام للمطالبة بالإفراج عن الموقوفين في أحداث منزل بوزيان التابعة لولاية سيدي بوزيد. وفي ديسمبر من العام نفسه رفع قضيّة ضدّ عشرة نوّاب من المجلس التأسيسي للمطالبة بعزلهم جرّاء انضمامهم لحزب نداء تونس، بدعوى أنّهم لم يلتزموا بأهداف الثورة. وقد سبق له أن دعا أوت 2012 إلى محاكمة وزير المالية المستقيل حسين الديماسي لأنّه اتّهم حركة النهضة بالسعي إلى الاستئثار بأموال التعويضات لمنظوريها، معتبرًا أنّ الديماسي أدخل البلاد بذلك في فوضى بهدف إثارة البلبلة والضغط على حكومة الترويكا. كما أعلن عن مقاضاة هيئة الانتخابات، ممثلة آنذاك في كمال الجندوبي، لاتّهامها بتبديد المال العام.
وفي نطاق مساندته لما سُمّي باعتصام «إعلام العام» الذي شنّه أنصار حركة النهضة ضدّ مؤسّسة التلفزة، أودع العيوني شكاية لدى وكيل الجمهوريّة بالمحكمة الابتدائيّة بتونس ضدّ «القناة الوطنيّة الأولى» لأنّها استضافت عبير موسي، بوصفها محامية حزب التجمّع المنحلّ، بل واعتبر أنّ ذلك ينطوي على نزعة إجراميّة خطيرة تصل عقوبتها إلى الإعدام لأنّ المقصود بالاعتداء المزعوم تبديل هيئة الدولة أو حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضًا بالسلاح وإثارة الهرج والقتل والسلب بالتراب التونسي!!!. والمثير للدهشة الساخرة أنّ سيل القضايا العيونيّة لم يسلم منه حتّى بعض الفنّانين مثل حياة جبنون التي قال عنها إنّها «بضاعة لا أكثر ولا أقلّ»، وكذلك لطفي العبدلي الذي ردّ على تهديده بأنّه «سيأتي يوم يقاضي فيه المحامي فتحي العيوني نفسه»!…
انتهازيّة سياسيّة لا حدّ لها!
أيمكن إذن، بعد كلّ هذه الإنجازات الفرجويّة، أن نستغرب شيئًا من العيوني وقد قبض ثمن خدماته رفيعًا، رغم أنّه يفتقد لأيّ شرعيّة من شرعيّات النضال المصنّفة نهضويًا، باستثناء البذل المستجدّ؟!
كلّا، وحتّى تتّضح صور الانتهازيّة السياسيّة بشكل أفضل، يبدو من الأهميّة الإتيان على بعض نضالاته بعد انتخابات 2014. فقد أعلن العيوني، في ندوة صحفية في شهر أوت 2018، عن إعطاء تعليماته لمصالح البلدية التي يرأسها بألّا تُسجّل أيّ رسم للصداق بين امرأة تونسية وشخص غير مسلم. والأكثر من ذلك أنّه دعا مجلس نوّاب الشعب إلى تفعيل الفصل 88 من الدستور القاضي بعزل رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، معتبرًا أنّه «خالف شرع الله في مبادرته المتعلّقة بالمساواة في الميراث». لم يقتصر الأمر إذن على الاستقواء على الدولة ودعوة موظفي إحدى مؤسّساتها العموميّة إلى العصيان والتمرّد ورفض تطبيق القانون، بل بلغ به الخطب حدّ تكفير رئيس الجمهوريّة الراحل زمن أداء مهامه. وطبعًا فإنّ الدولة المكبّلة كانت عاجزة، ولو قضائيًّا، عن التصدّي لممارسات العصيان المعلنة في ظلّ الحماية التي توفّرها له حركة النهضة، وإن كانت قد اضطرّت تحت وطأة الإحراج السياسي إلى إصدار بيان تستنكر فيه تلك التصريحات الانقلابيّة.
والأكثر غرابة أنّ العيوني كان قد دفع المجلس البلدي بالكرم، بعد أقلّ من عام، إلى تسمية المركّب الرياضي بالكرم باسم من كفّره ودعا إلى عزله محمد الباجي قايد السبسي. وهو ما جرى يوم 23 جويلية 2019 أي قبل يومين من وفاة الرئيس السابق، حتّى أنّ الخلاف بهذا الشأن مع بعض حلفائه القدامى في منطقة الكرم جعله يرفع آنذاك قضيّة على عماد دغيج احد أعضاء حزب ائتلاف الكرامة متّهمًا إيّاه بتهديده بالقتل.
إنّها، ببساطة، حالة من التلوّن الحربائي الممهور بانتهازيّة سياسيّة، يُستعصى استيعابها على ذوي الفهم، ولا لأحد وإن كان محاميًا القدرة على تشخيصها، ولو كان بطلا في رياضة القفز السياسي العالي.
اليوم تُكرم الدولة أو تُهان!
في المحصّلة، لم يعد العيوني اليوم يكتفي بمجرّد إيداع شكاوى قضائيّة أو ترويج مواقف لإثارة الضجّة لتحصيل مكاسب سياسيّة للحساب الخاص، بل انتقل إلى السرعة التالية عبر محاولة توجيه ضربة قاصمة للدولة. فقد أقدم بذلك على تقسيم التونسيّين في فترة دقيقة تمرّ بها البلاد، بدليل الكمّ الهائل من تبادل السباب والشتم بين المعلّقين في صفحات الميديا الاجتماعيّة على خطوته تلك. والحال أنّه هو نفسه قال حرفيًّا إنّ «رئيس الجمهوريّة مصدر تفرقة لا مصدر توحيد»، حين دعا إلى عزله وقبل أن يُبادر بعد أقلّ من عام إلى اتخاذ قرار بلدي بتكريمه.
إنّها عمليّة احتيال موصوفة وتطويع مبتذل للقانون أقدم عليها العيوني للمضيّ في إحداث صندوق الزكاة المزعوم. فقد استنجد بأحد فصول القانون الأساسي عدد 29 لسنة 2018 المتعلّق بمجلّة الجماعات المحليّة الذي يُتيح للمجالس البلديّة إحداث صناديق خاصّة. والحال أنّه ليس من مشمولات السلطة المحليّة مجرّد الخوض، ولو لمامًا، في تحديد الواجبات الدينيّة للمواطنين بأيّ حال من الأحوال. ومن ثمّة بدا وكأنّه يعيش في دولة قروسطيّة يحكمها المحتسبون و»المطوّعون» وحرّاس الإيمان الذين يجوبون الشوارع والأسواق لاستبيان الحرام من الحلال ومحاكمة النوايا والتمييز بين المواطنين والتدخّل في قناعاتهم الشخصيّة، متربّصًا بالدولة للإجهاز على سلطتها تمامًا.
ومن باب المغالطات ادّعى العيوني أنّ مداخيل هذا الصندوق ستُخصّص لإسداء الخدمات المقدّمة من بلديّة الكرم لمتساكني المنطقة وتحسينها، مستشهدًا بفتاوى للحساب السياسي الخاصّ. والحال أنّ أبواب تحصيل المداخيل البلديّة المهدورة مشرعة أمامها في الطريق العام والأرصفة وواجهات المحلّات المتهرّبة من خلاص ما عليها، بشهادة كبار خبراء وزارة الماليّة. ومع ذلك فإنّ الأكثر خطرًا ما ورد في تصريح إذاعي له عند الإعلان لأوّل مرّة عن إحداث ذلك الصندوق بتأكيده أنّ «مساهمات المتساكنين ستكون اختياريّة في الوقت الحاضر». فهل يعني أنّها ستكون إجباريّة عندما يحلّ مستقبلا زمن «التمكين»؟!، وكأنّه يُنذر بفصل جديد من «حروب الردّة» وفرض حدودها التقتيل ضدّ رافضي دفع الزكاة. فاليوم إذن تُكرمُ الدولة أو تُطعن علنًا وتُهان!…
صدر بالعدد الالكتروني من “الشارع المغاربي” pdf بتاريخ 19 ماي 2020