الشارع المغاربي: تصريحات عبير موسي، خلال الأيّام الأخيرة، بدت مغايرة تمامًا للخطاب السائد المُملّ الصادر سواء عن جماعة شعار «ضدّ الانقلاب» أو «جماعة كلّنا قيس». لم تتراجع عن مهاجمة خصومها التاريخيّين، لكنّها قرّرت أيضا استهداف النهج السياسي لرئيس الدولة في عقر داره. ما الحكاية؟
من ينصت للتصريحات الأخيرة لرئيسة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي، لا بدّ أن ينتبه إلى أنّها قد حدّدت أجندتها السياسيّة للفترة المقبلة، وقرّرت التركيز أساسا على تفكيك خطاب رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد والتزام اليقظة التّامّة حيال التحرّكات التي يقوم بها أنصاره أو المحسوبون عليه أو من يقتاتون من شعاراته لتحقيق مكاسب للحساب الخاص. وإذا اختزلنا خطاب عبير موسي اليوم فإنّنا سنجد أنّه يُركّز على تفكيك المقولتين الأساسيّتين لقيس سعيّد المتمثّلتين أوّلا: في مكافحة الفساد بلا هوادة، وثانيا: في إيلاء الأولويّة المطلقة للاستجابة مطالب «الشعب الذي يريد» المتمثّل اختصارا في الشباب، دون سواه.
صوب رأس الحربة
في تصريح مطوّل لإذاعة «IFM»، وجّهت موسي كلامها إلى رئيس الدولة، قائلةً: إنّ «مكافحة الفساد ليست شعارا ولا يمكن أن تكون على المقاس ومسيّسة لأننا كلّما اشتممنا رائحة تصفية حسابات سياسيّة في ملفّات مكافحة الفساد إلّا وتفقد هذه الحملات مصداقيتها… أوّل فساد هو أن أعيش ببلادي في منظومة لا أعرف إلى أين ستحملني… إذا كنت تريد أن تكافح الفساد، فإنّه ينبغي أن تكافح الأسباب والمقوّمات والمنظومة التي أرسته وليس أن نستخرج ملفات من الدرج حسب رغبتنا لملء المشهد السياسي وتأثيثه. نحن بحاجة إلى أن تطلعنا على التسقيف الزمني لما أنت بصدد القيام به، إلى متى هذا الانفراد السلطة المطلقة وإلى متى عمليّة التعويم للفساد؟»…
هكذا إذن كيّفت عبير موسي سياسة رئيس الجمهوريّة بشأن مكافحة الفساد وغياب خارطة طريق وسقف زمني للإجراءات الاستثنائيّة على أنّها عين الفساد، معتبرةً أنّ «هناك اليوم فسادا سياسيّا مستشريا لا يقلّ قتامة ورداءة وخطورة عمّا كنّا نعيشه». وفي هذا السياق هاجمت موسي مشروع النظام السياسي للرئيس قيس سعيّد المروّج له يمينا ويسارا على نطاق واسع، متحدّثةً عن وجود «انتصاب فوضوي في مجال السياسة، هناك من كوّن أحزابا كرتونيّة غير قانونيّة وغير معلنة، خلعت القبّعة الحزبيّة وانتصبت تروي أنّنا لم نعد نرغب في الأحزاب وسمّت نفسها حراكا ويكوّنون تنسيقيّات ولقاءات خارج القانون وتراخيص اجتماعات لا نعلم عنها شيئا». وفي هذا الصدد، اعتبرت أنّ هناك اليوم «محاولة تحيّل على الشباب… ماذا فعلتم من أجل الشباب؟ أين التشغيل؟ وحلّ مشاكل الشباب وإصلاح المنظومة التربويّة والجامعيّة؟ اليوم لم تُفتح أيّة آفاق للشباب، بل إنّ الجميع سيوظّفه كروقة انتخابيّة وكذريعة ووسيلة للمرور إلى مشروع سياسي لطرف معيّن».
والأكثر من ذلك أنّ رئيسة الحزب الدستوري الحرّ ربطت أيضا بين ملف مكافحة الفساد وملف استقطاب الشباب للمشروع السياسي لرئيس الدولة، مشيرةً إلى أنّ «مسألة المنصّات (الرقميّة) التي ستُنجز بالمال العام من أجل حوار مع الأنصار (تقصد أنصار قيس سعيّد) ومن أجل حوار على المقاس لتنفيذ مشروع شخصي تُعتبر إهدارا للمال العام وتدخل تحت طائلة الفصل 96» من المجلّة الجزائيّة. كما ذهبت إلى أنّ «صندوق قطر للتنمية يصول ويجول اليوم في الجامعات التونسيّة مع الطلبة التونسيّين عبر جمعيّة تسمّى جمعيّة «إنجاز» الداخلة في شراكة مع «تونيفيزيون» و»حركة قرطاج الجديدة» وهو ما يُشكّل تداخلا بين العمل السياسي والجمعيّاتي». ولم تكتف موسي بالإشارة إلى حركة الإعلامي نزار الشعري تلك، بل أيضا إلى جمعيّة أخرى تعمل على الشاكلة نفسها، ويُعدّ نوفل سعيّد شقيق رئيس الدولة من قياداتها، على حدّ قولها. ومن ثمّة، خاطبت موسي الرئيس قائلة: «إذا تريد مكافحة الفساد، عليك بمكافحته حتّى على المقرّبين منك، وأيضا مكافحة الانتصاب الفوضوي وخرق القوانين وتفعيل المراسيم الموجودة الخاصّة بالأحزاب والجمعيّات في انتظار تغيير المنظومة التشريعيّة. وطلبنا أن تكون هذه الملفات على طاولة المجلس الوزاري القادم نظرا لشدّة التأكّد بأنّ عمليّة التحيّل بلغت أقصاها في هذه الآونة».
في ترك التحيّل والحيل!
يبدو واضحا طبعا أنّ عبير موسي لم تختر هذا التوقيت بالذات لمهاجمة الرئيس قيس سعيّد واتّهامه بالفساد رأسًا من فراغ. فعملا بالمثل الشعبي التونسي: «ما ثمّاش قطّوس يصطاد لربّي». فالقطّ لا يتمسّح على رِجلي صاحبه إلّا من أجل الفوز بعطفه وكرمه، لكنّ موسي تختلف عن القطّة في أنّها لا تستجدي العطف بل تعرف كيف تغتنم الفرص وكذلك مِن أين تؤكل الكتف، ومن المؤكّد أنّها تدرس تصريحاتها جيّدا وتُنظّم أفكارها قبل الإدلاء بها. وفي هذا المضمار، نبّهت إلى مسألة في منتهى الخطورة، وتتمثّل في أنّ خصمها السياسي الأقوى اليوم المتمثّل في رئيس الجمهوريّة نفسه بصدد إعادة إنتاج ممارسات التحيّل والاحتيال السياسي التي اعتملها نبيل القروي عبر المتاجرة بأوجاع الفقراء والمحرومين من خلال جمعيّة بانتخابات رئاسة الجمهوريّة، مع الفارق بأنّ سعيّد يُركّز على قضيّتي الفساد والشباب.
وهنا لا بدّ من التذكير بأنّ عبير موسي أسهمت بقسط وافر في إسقاط البرلمان ومنظومة حكم حركة النهضة المرتبطة به، هذا لا جدال فيه. ومع ذلك فإنّ قيس سعيّد هو الذي قطف ثمار إنهاك حركة النهضة ولوحده. وبعيدًا عن الكلام الفضفاض، يبدو أنّ رئيس الدولة يواجه صعوبة كبرى في اغتنام هذه الفرصة وهضم ثمارها. ووفق مَنْ ساند قرارات 25 جويلية في البداية ثمّ ارتدّ ضدّها ومن بينهم عبير موسي وهم كُثر، يعود هذا «التخبّط السياسي» بالأساس إلى أنّ سعيّد لا يقبل إطلاقا أن يشاركه أو حتّى ينافسه أيّ كان، بل ويتمسّك بإعطاء نفسه صلاحيّات مطلقة لم يجرؤ على احتكارها حتّى بن علي بُعيد انقلابه على الرئيس الحبيب بورقيبة.
لا يخفى أيضا، عن أيّ متابع لبيب، أنّ عبير موسي وقيس سعيّد كانا يتحاشيان الصدام قبل إعلان قرارات 25 جويليّة الماضي لاعتبارات سياسويّة معلومة تتعلّق بحسابات الربح والخسارة السياسيّة ولتصويب السلاح صوب هدفهما الأوحد آنذاك. أمّا اليوم، وقد حدث ما حدث، فإنّه لم يعد أمام رئيسة الحزب الحرّ الدستوري إلّا الدفاع ولو بأظافرها عن المكانة التي صنعتها لنفسها ولحزبها في وجه من يسعى إلى اكتساح جميع المواقع وإنهاء وجود كلّ من ينافس مشروعه وفي ظلّ ما يُكابده حزبها، حسب ما تروّجه، من «تضييقات جسيمة» على أنشطته…
لا ننسى أيضا أنّه، حسب مختلف استطلاعات الرأي، يتصدّر حزب موسي منذ أشهر وبلا تراجع نوايا التصويت في أيّة انتخابات تشريعيّة مقبلة. وفي الأثناء يستشعر الجميع استعداد رئيس الدولة لفرض مشروع نظام سياسي لم يعد له وجود تقريبا في العالم بأسره، باستثناء بعض الدول التي لا يمكن محاكاة تجربتها أصلا نظرا إلى رسوخ قيم المواطنة والمساواة والعدالة لديها، على خلاف ما هو سائد المجتمع التونسي.
وفي المحصّلة، تبدو عبير موسي متشبّثة بشعارها الضمني «فايقة بيكم». فقد ذهبت إلى الأهمّ، واستشرفت مخاطر المستقبل الآتي، كما أثبتت أنّها أذكى تخطيطا ومناورة من أحزاب وشخصيّات معروفة أخرى غرقت في أكل الجيفة ولا تُفكّر إلّا على بعد أمتار من أنوفها. فعلى الأرجح أنّها اكتسبت مثل هذه القدرة على المناورة السياسيّة من رحم تجربتها في ماكينة حزب التجمّع المنحل. ومع أنّها تخلّت هذه الآونة عن ارتداء تلك الخوذة الفولكلوريّة، كما في البرلمان، فإنّها لا تختلف كثيرا عن خصومها الإسلاميّين. فلا نذكر أنّها اعتذرت يومًا لشقّ واسع من التونسيّين عن انخراطها التّام في دعم نظام بن علي الاستبدادي. كما لم نسمع أنّها قامت يومًا بالمراجعات والنقد الذاتي لمواقفها السابقة المنتقدة لثورةٍ منحتها ما كانت تفتقده من حقّ التفكير والتعبير…
نقولها ونمضي: فات أوان اكتشاف النار واختراع العجلة والمسمار، وكلّ ما نخشاه أن تضيع الفرصة تلو الأخرى، جرّاء عجز عصا الحكم وألسنة خصومه عن الاعتبار وقراءة ما فات من عبر.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 2 نوفمبر 2021