الشارع المغاربي: في كلّ الأزمنة ومع كلّ أزمة تكون الفئات الهشّة هي أوّل من يدفع الثّمن وغالبا ما تكون أيضا آخر من يجني ولو نزرا قليلا من ثمار رفاه ساهمت في صنعه.
هذا يسري طبعا على الفئات الاجتماعيّة ولكنّه ينطبق على النّساء على اختلاف انتماءاتهنّ الاجتماعيّة.
من منّا لم يسمع مثلا بتعرّض نساء للعنف رغم مراكزهنّ الاجتماعية المرموقة؟ وحتّى نكون أوفياء للواقع، هذا العنف المسلّط على النّساء ليس حكرا على بلادنا اذ هو ظاهرة تعرفها جلّ المجتمعات والاختلاف يكمن فقط في كيفيّة مكافحة هذه الآفة بدءًا بالوقاية والتّربية والتوعية بالحقوق وصولا لطرق مواجهة وردع أصحابها على أساس النّوع الاجتماعي.
تزايد مخيف
في تونس ومنذ سنوات النّصف الأول من تسعينات القرن الماضي رفعت النّساء أصواتهنّ عاليا وطالبن بتجريم العنف المسلّط عليهن وكان من الطبيعي أن تشهد السّاحتان الاجتماعيّة والسّياسيّة بعد 14 جانفي 2011 تصاعد نسق التّحرّكات والمطالبة بقانون في الغرض وبملازمة اليقظة ازاء ما يمكن أن يتسرّب لنصّ الدّستور. وفعلا شهدت السّاحة الوطنيّة والنّسويّة تحرّكات واحتجاجات حاشدة على ما جاء في “دستور النّهضة اي دستور 1 جوان” وفعلا أُسقطت تلك النّسخة وتمّ التخلّي عن مقولة “المرأة مُكمِّلة” إلى غير ذلك… وبعد المصادقة على دستور جانفي2014 تحرّكت منظمات المجتمع المدني والحركة النّسويّة في اتّجاه إيجاد مزيد من الآليّات القانونيّة لحماية النّساء وحقوقهنّ والقضاء على جميع أنواع العنف المسلّط عليهنّ وفي هذا السّياق يتنزّل القانون 58/17 .
ورغم تواصل النّضالات النّسويّة شهدت بلادنا للأسف تصاعدا في عدد جرائم العنف ضدّ النّساء ليناهز عدد القتيلات العشرين منذ بداية العام الجاري!
إزاء هذا الوضع انقسم الرّأي العام كالعادة بين مترحّم ومطالب بالعقاب أو مترحّم ومطالب بعقاب يأخذ بعين الاعتبار “حيثيّات” وقوع الجريمة وعادة ما تتلخص هذه الحيثيّات في الدّور “الاستفزازي” الذي لعبته الضّحيّة! وهناك من ينتهز الفرصة للمطالبة مباشرة بإنزال عقوبة الإعدام بالجاني…
يعني أنه مع حدوث كلّ جريمة كانت ضحيّتها امرأة تكشف جحافل لا يستهان بها من مواطنينا وحتّى مواطناتنا عن وجوه قد تكون أحيانا وفي “الوسع” متخفّية تحت أقنعة تجميليّة! ويكفي أن نشير هنا إلى أوّل ردّ فعل لمن يبلغه نبأ جريمة: “علاه قتلها؟ آش عملتلو؟” وهو سؤال وإن كان يبدو بسيطا وعفويّا فإنّه يشي بأنّ طارحه يستبطن فكرة وجود “تبرير ما” للقتل !
بين قوسين هذا البحث عن مبرّرات لا يقتصر على العامّة وانما يجد صداه حتّى في القوانين نفسها تحت مسميات ظروف التّخفيف مثلما هي الحال بالنسبة لجرائم الشّرف وما شابهها وفي تونس كان علينا أن ننتظر أواسط التّسعينات للحدّ من اعتبار القتل بدافع عاطفي أو عائلي ظرفا من ظروف التّخفيف !
قد يقول قائل: كلّ هذا نتاج لمستوى الوعي الشّعبي وتغيير واقع الحال قد يستغرق أجيالا وأجيال! لكن وفي رأيي المتواضع هذا تفسير ينمّ عن إرادة لنزع وزر المسؤوليّة عن الدّولة وأجهزتها مُجتمعة في حماية كل المواطنات والمواطنين وإلقائه على كاهل الأفراد والعائلات تماما كما هو الشّأن في المجتمعات القبليّة !
فالدّولة التّونسيّة ورغم ما تحتكم عليه من ترسانة قانونيّة لم تؤدّ واجباتها تجاه مواطنات قُتلنَ لأنّهنّ نساء وفي أحيان كثيرة لم تستجب أجهزة الدّولة لنداءات استغاثاتهنّ ! ولعلّ حالة المرحومة القتيلة رفقة الشّارني تختزل كامل أوجه المأساة! فالضحيّة كانت بدايةً ضحيّة عنف من قبل المتّهم زوجها وبعد أن كان تعامل العائلة يتلخّص في “اصبر عليه وهنّي على روحك” توجّهت للسلطة (الأمن الذي من المفروض وفق أحكام قانون القضاء على العنف المسلّط على النّساء المعروف ب58/17) فكان التعامل أقرب لتجاهل الشّكوى باعتبار أن الجاني زميل لهم… إلى أن وصل الإحساس لديه بأنّه عصيّ على المحاسبة فأفرغ فيها سلاحه النّظامي! ودون الخوض في تفاصيل أخرى ها إنّ المدة التي استغرقها التحليل البالستي تشارف على العام !
قضيّة المرحومة رفقة الشّارني هي واحدة من قضايا قتل النّساء التي تحرص مختلف الفعاليّات النّسويّة على متابعتها وعدم تركها تدخل طيّ النّسيان لأنّها كما أسلفت تشي بعدم تحمّل الدّولة مسؤوليّتها وهنا طبعا لا أقصد التدخّل لإنزال أشدّ العقاب بمقترف الجريمة بل المقصود هو انفاذ القوانين، كلّ القوانين قبل وبعد الجريمة دون النّظر لهويّة الجاني.
باتت أعداد القتيلات في تزايد مخيف والثابت أنّ ذلك متأتٍّ من الإحساس بالإفلات من العقاب إضافة لتزايد أعداد النّساء اللّواتي يعشن هشاشة متعدّدة الأبعاد منها بطبيعة الحال تزايد البطالة في صفوفهنّ قياسا بأعداد العاطلين عن العمل بنفس التكوين في صفوف الرّجال لكن هذا التّفسير (الظّروف الاقتصاديّة) لا يجب أن يصبح هو العنوان الوحيد لتناول قضايا النّساء في تونس ولعلّ الجميع يذكر رفض رئيس الدّولة الخوض في مسألة المساواة في الميراث بمبرّر ديني بحت وتركيزه في كلّ مناسبة على تقسيم التّونسيّات إلى “كادحات” وأخريات من مرتادات الصّالونات وكأنّهن لسن تونسيّات بنفس المقدار أو لكأنّ الدّولة لا يهمّها سوى “ضمان رغيف خبز وشربة ماء”. أمّا الحقوق والحريّات والواجبات المحمولة على كاهل الدّولة في تطبيق القوانين الموجودة وتعزيزها إن اقتضى الأمر فهي مسائل ثانويّة تتحدّث فيها نساء الصّالونات!
مسؤولية الدولة
الدّولة واجهزتها مسؤولة عن حماية حياة كلّ مواطناتها ومواطنيها. كما أنه محمول عليها وضع الآليات الكفيلة بحسن إنفاذ القوانين. فلو أخذنا كمثال قانون “القضاء على كلّ أشكال العنف المسلّط على النّساء” والذي يبدو أنّ هناك توجّها ما لتنقيحه (أيّا كانت المسوّغات) لاكتشفنا انه ظلّ منذ التّصديق عليه ورقة في درج والحال أنّه لو تبع صدوره تنفيذ ما جاء فيه بخصوص إدراج مسألة تجريم العنف على النّساء في البرامج التّعليميّة لكنّا الآن على أبواب سنة دراسيّة تحمل البرامج المقرّرة لها محتويات هي لبّ مفهوم التّربية. فالعبرة ليست بتعلّم أبجديات الكتابة والقراءة فقط…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 18 جويلية 2023