الشارع المغاربي: في آخر لقاء له بالصحافة العالمية، صرّح الرئيس بوتين بأن العالم مقبل على عشرية صعبة ستكون شديدة على الشعوب والدول لأنها مرحلة تحوّل جذري لمعمار الأمن الدولي والعلاقات بين الأمم.
في نفس الأسبوع، كانت الطبول تقرع على مشارف مدينة خيرسون التي يريدها الرئيس بايدن مسرحا لأم المعارك في اوكرانيا ومدخلا للرد على الطيف الواسع في أمريكا الذي يعادي هذه الحرب ويعتبرها كارثة حلت بالاقتصاد.
فهل اتفقت القوى الكبرى المهيمنة على ادخال العالم، رغما عنه، في أتون مرحلة من السنوات العجاف بعد ان انهار حلم الشعوب في بناء نظام دولي أعدل وأكثر ادماجا وتوزيعا لما بعد جائحة كوفيد؟
ان القدرات المالية التي تكدست لدى موسكو والتحالفات الصلبة التي شيّدها الكرملين طوال العقدين الماضيين مكنت الرئيس بوتين من التعامل مع الحرب في اوكرانيا كمسار طويل ومتحرك وغير خاضع للزمنية الجيوستراتيجية الغربية وديناميكياتها المجالية. في المقابل وبتناسق مع الرؤية الجيوسياسية المعتمدة منذ كتابات اللواء نيكولاس سپايكمان حول الأرض-الحلقة واستراتيجيات الحصار والإحتواء، يسعى البنتاغون والبعض من حلفائه الأطلسيين الى كسر التمدد الروسي نحو الغرب وسواحل البحر الأسود ولو أدى ذلك الى ترك المبادرة لبعض الفصائل الاوكرانية من النازيين الجدد لتنفيذ اعتداءات بأسلحة ومتفجرات “قذرة” يمكنها استحداث ثغرات في الجبهة الروسية وتسويق الحدث كهزيمة مذلة لبوتين ولجيشه ولو اعلاميا.
لكن داخل كل حرب، حروب صامتة تدور رحاها في الظل او بالإنكار. في حالتنا هذه، تمثل المواقف المستجدة الألمانية أهم مؤشر لانشقاقات المعسكر الغربي. فقد مثلت الزيارة الخاطفة للمستشار شولتز الى بكين ولقاؤه بالزعيم شي جينپينغ بمفرده ودون تنسيق مع الشركاء الأوروبيين وهو أول من يطأ ارض امبراطورية الوسط من قيادات الغرب بعد الجائحة، إيذانا بتفرد ألمانيا سياسيا ورفضها إملاءات الامريكان وعلى رأسها قطع الدفق الطاقي من روسيا الى اوروبا والاقتصار حصرا على امدادات واشنطن من الغاز والغاز الصخري بأسعار مرتفعة جدا مما ينبئ بانهيار الصناعات المعملية والاقتصاد فضلا عن اجبار العائلات على تقنين قاس للتدفئة.
هذا الموقف الالماني لا يمثل فقط كسرا للروابط القوية التي وحّدت القارة العجوز والحامي الامريكي منذ الانتصار على النازية وتقسيم اوروبا الى معسكرين وانما هو اعادة صياغة جذرية للتموقع الجيوسياسي لبرلين التي رفضت ان تنساق الى مشروع اضعاف الاقتصادات داخل اوروبا كجزء من التنفيس على الآلة الانتاجية الامريكية المأزومة. هنا تكمن أهمية تصريح الرئيس بوتين الذي يعلم جيدا ان النخب الحاكمة في معظم عواصم اوروبا منحازة، بل متواطئة مع أمريكا وفي الكثير من الحالات، ضد مصالح دولها وشعوبها. لذا، لن يكون التغيير وإعادة التموضع شيئا هيّنا او طريقا سالكة. فقد تجتاح القارة العجوز وجوارها المغاربي والشرق أوسطي وحتى العمق الافريقي انتفاضات متواترة وحادة تطالب بوضع حد للانهيارات الاقتصادية والتفقير الواسع والتهميش دون اي أفق للحل او تجسيد لمشاريع بديلة تقطع مع التبعية. فالدول اليوم تقف عاجزة امام تغيرات لم تستشرفها ولم تتمكن من ادراك مآلاتها كارتفاع أسعار المواد الخام والطاقة وكلفة العمل والنقل الدولي والتداين المفرط الذي عمّقته أزمة كورونا وقرارات الغلق وتعطيل الانتاج والاعتماد على القروض.
ان انعدام الحل هو المؤذّن بالأزمة العميقة والدائمة والهيكلية التي سيدخلها جل دول العالم ولن تنفع سحب الدخان المتصاعد من ركام الحرب في اوكرانيا في حجبها.
السؤال الذي يتبادر الى الأذهان في منطقتنا هو: “ما مصيرنا ونحن من البلدان التي راكمت الأزمات مثلما تُطوى الصفحات على نصوص لم تُقرأ او دروس لم تُستوعب؟” والجواب قد يكون معقدا ومفصلا بالشروط. فبعض دول المنطقة قد تستفيد من طاقاتها الانتاجية للنفط والغاز والمواد الخام لتلعب دورا محوريا في مشروع اعادة توزيع السوق العالمية خاصة باتجاه أوروبا على غرار الجارة الجزائر. كما انه يمكن لدول ذات وزن استراتيجي مثل مصر ان تثمن موقعها وقدراتها العسكرية وموضعها على خارطة الصراعات الاقليمية لاستقطاب الدعم المتعدد الأطراف والاشكال ضمن تصور امن جماعي لمنطقة تشقها حروب ونزاعات ومواجهات بين كتل وازنة.
اما تونس، فالعشر العجاف تطل برأسها بعد سنوات التيه والفوضى وفقدان نبراس البناء ومراكمة التجربة. لم تنتبه النخب الحاكمة الى ضرورات التخطيط الاستراتيجي فتلاعبت بالمخزونات وأتقنت العيش على الحافة والتصرف الأعمى في مدخرات الغد. لقد وضعت الدولة منذ سنوات كثيرة بين أيادي من لا يفقه نواميس منطق التسيير والحكم وتواصل المؤسسات ونحن اليوم نجني العصف المأكول الذي لا يذهب الحاجة.
في المقابل، لتونس أوراق قوة يعلمها الخارج ويراهن عليها لكنه اعجز من ان يساعد على نشرها للعلن. فبلادنا تزخر بسبع مليارات من أطنان الفسفاط الذي ارتفع ثمنه في ظرف سنتين بثلاث أضعاف مع تصاعد حاد للطلب في السوق العالمية. الا ان الملف يراوح مكانه داخل اسيجة من المشاكل الصغرى التي تعجز دولة الارادة المحدودة عن حلها.
ومن ضمن نقاط القوة التي تحولت الى قنبلة اجتماعية قد تمس شظاياها استقرار البلاد والجوار، ملف الهجرة واستقرار المجاميع القادمة من بلدان الساحل والصحراء في تونس. لقد مثّلت طرق التعامل مع مفاعيل الملف من طرف الحكومات المتعاقبة تجسيدا لفقدان اي حس استراتيجي وانصياعا مخجلا لأوامر وسياسات الدول الاوروبية التي لا ترى في بلادنا الا ارض توطين للموجات البشرية الآتية من افريقيا الساحل والصحراء وفي دولتنا، حارس حدود بحرية لقمع تطلّع الشباب والعائلات للانتقال الى أفق جديدة.
ان العديد من الدول وعلى اختلاف انظمتها السياسية تمكنت من تثمين ملف الهجرة على اراضيها واجبار القوى المتسببة في الكوارث البيئية والأمنية والجيوسياسية والغذائية على دفع التعويضات الضخمة للدولة المستضيفة والعمل على حل معضلة التنقل بين ضفاف البحر او عبر الحدود ومنع اي شكل من اشكال الاستيطان وبعث بؤر للأقليات الوافدة.
اما آخر الورقات التي يمكن لبلادنا طرحها ضمن اعادة صياغة المعادلات الدولية والاقليمية، فهي بلا شك تنويع الشراكات الاقتصادية والاستراتيجية في ظل الضعف والوهن اللذين سيصيبان حتما الدول الاوروبية التي تمثل الطرف الأبرز والمهيمن في العلاقات التي تربط بلادنا بالخارج. فالعشر العجاف قدر محتمل لأوروبا بسبب انحياز نخبها الأعمى لأمريكا وليست مفروضة علينا كأفق مستقبلي. ان تجربة اكثر من ستين عاما من التبعية لمنظومة اوروبا لم تمكن البلاد من الاقلاع الحقيقي، بل تحولت الى عائق هيكلي لا فقط سياسيا واقتصاديا، بل ايضا أمنيا. ان المرحلة القادمة بتحدياتها لا يجب ان تحجب عنا تغير الرياح عالميا وتفرض على نخبنا الماسكة بالسلطة الوعي بأنه لا يمكن لمقولات الماضي وپاراديغماته بكل ما تقدم من رفاهية، او كسل فكري ان تجيب على تساؤلات المستقبل المتقلب والمعقد.
لا مجال ان تبقى تونس تلك الدولة التي تسعى الى استجلاب الاعانات والاستثمارات ذات المردودية المحدودة وهي البوابة الجغرافية والجيوسياسية للعمق الافريقي والقلب الاقتصادي لاوروبا وحارسة الممر المائي الذي تعبره اكثر من 35٪ من التجارة البحرية العالمية وخطوط المد اللوجستي لأكبر مشروع للتبادل المعولم، عقد اللؤلؤ الصيني الذي غير جذريا مناطق ارتكازه من مضيق مالاغا الى ميناء پيروس.
في السنوات العجاف، لا تكتب النجاة الا للأمم التي خططت وكتبت معادلة القيامة بكل حروفها.
افتتاحية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 8 نوفمبر 2022