الشارع المغاربي: قد تكون مشاكلنا الداخلية التونسية المتداخلة والمتواترة والمتوترة ، تحجب عن العديد منا ما يمر به العالم من حولنا من أزمة اقتصادية كبيرة .
فالحرب بين روسيا وأوكرانيا والتضخم وأزمة الغذاء والطاقة وأزمة الديون في البلدان النامية والآثار التي خلفتها جائحة كورونا، كلها عناصر أخطر أزمة على الإطلاق يواجهها العالم لأسباب ليس أقلها أن “البنوك المركزية لا تستطيع طباعة القمح والغاز والبنزين.”
إنخفضت توقعات النمو العالمي إلى 4,4٪ لعام 2022 ويمكن أن يشهد العالم مزيدا من التخفيض سنة 2023 مما سيتسبب في خفض التوقعات لـ 143 إقتصادا أي ما يمثل 86% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. وتشمل الإقتصادات التي تواجه تخفيضات كل البلدان المستوردة للغذاء والوقود في إفريقيا والشرق الأوسط واوروبا ومنها بلادنا . في نفس الوقت تواجه هذه البلدان زيادة في نسبة التضخم مما يشكل ضغطا على الدخل الحقيقي للأسر وينذر بمزيد الجوع والفقر والقلاقل الاجتماعية. فبلغة الإقتصاد انخفض النمو وارتفع التضخم وبلغة الناس إنخفض دخل العائلات فيما ارتفعت المشقة التي يتحملونها ..
ففي عالم اليوم أصبح قيام حرب في أوروبا يؤدي إلى الجوع بإفريقيا والشرق الأوسط ..
وفي خضم هذه الأزمة الخطيرة ليس هناك في العالم من يقود السفينة إلى بر الأمان.. فمجموعة السبع ومجموعة العشرين يفتقران إلى سلطة اتخاذ القرار. و بدت جهود التعاون الدولي مهترئة بحكم بروز أقطاب مصالحها متضاربة وكذلك صعود بلدان غنية بما يكفي لممارسة النفوذ وفرض مصالحها.. إن تشتت الحوكمة العالمية بفعل هذه الظواهر الجيو الاقتصادية يعتبر أكبر تحد أمام القواعد التي حكمت العلاقات الدولية لأكثر من 75عاما.
وامام هذه الازمات السياسية والاقتصادية، لا تواجه بلدان العالم تداعياتها بنفس القوة فإذا كان اللاعبان الأساسيان وأعني الولايات المتحدة الأمريكية والصين في شبه مأمن من “الانعكاسات الخطيرة” فإن بقية البلدان والتجمعات تمر بفترة عصيبة قد تأتي حتى على وحدتها. فقد باتت أسعار الغاز تشكل “اكبر تهديد” لوحدة أوروبا.. وباتت مجموعة شنغهاي تتوسع لتضم تركيا البلد المحوري في الحلف الاطلسي. وبدأ العالم يشهد من جديد جراء الحرب الروسية الأوكرانية تقسيمات ما قبل الحرب الباردة: الحلفاء الديمقراطيين من جهة ومحور الأنظمة “المستبدة” في المقابل وفي ما بينهما بروز قطب لبلدان عدم الانحياز في نسخة جديدة وذلك ما بيّنه التصويت الاخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص العقوبات على روسيا.
عالم اليوم يعيش لحظة تاريخية أعادت قضايا إنسانية إلى السطح ، مثل السؤال الذي توجه به رئيس الحكومة الإيطالية ماريو دراغي إلى شعبه :«هل تفضلون السلام أم مكيفات الهواء؟» وهو ما يعري إستنفاد المحرمات الغربية إزاء هذه الأزمة ويؤكد غلبة السياسة على الاقتصاد في عالم يتشكل من جديد حول أقطاب عديدة وفي ظل سباق محموم من أجل النفاذ إلى ما تبقى من بترول وغاز وتأمين إمدادات الطاقة في شتاء مقبل سيكون باردا في المنازل وحارا جدا في أروقة الحكم.
أزمة الطاقة ستتأجج وستكون لها تبعات سياسية كبرى بدأ العديد من الرؤساء خاصة في أوروبا في التنبيه إليها ودعوة مواطنيهم إلى التقشف في استهلاك الطاقة والتكيف مع غلاء أسعار غاز التدفئة في ظل تعثر الانتقال الطاقي وكبح التغير المناخي. كما أن بلدانا أخرى شهدت صعود تيارات يمينية لا لسبب سوى أنها وعدت بحل الأزمة الاقتصادية في إطار “السيادة الوطنية” بعيدا عن التجمعات التقليدية “الفاشلة”.
يعيش عالمنا قطيعة بين نوعين من العولمة: الاولى مفتوحة مضت وانقضت والثانية في عالم تتقاسمه الأقطاب والأحلاف لا احد فيه يملك القوة وحده..
هذا العالم المتحول الذي يبدو أن قادته نسوا الحكمة القديمة التي تقول ان الرخاء كالسلام لا يقبل القسمة يعجز فيه كبار علماء الاقتصاد عن الإجابة على السؤال التالي: كيف يمكن كبح التضخم والدين المرتفع مع الحفاظ على الإنفاق الضروري في الاقتصادات الفقيرة والمتوسطة؟ في نفس هذا العالم لا زلنا نسمع هنا وهناك مسؤولين سياسين يخرجون علينا من جديد بخطابات الخمسينات والستينات الموغلة في دغمائيتها والمجانبة لأبسط قواعد الحوكمة الاقتصادية ولازلنا كذلك نرى الحلول الشعبوية التي لن تنقذ من الانفجار بل تؤجله…
إن الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعيشها بلادنا تستوجب حلولا مستجدة وخطابا شفافا ومصارحة التونسيين حتى يعلموا مثل الشعوب القريبة منا ما ينتظرهم من تحديات وصعاب وحتى يتخلصوا نهائيا من “عقدة الآخر” ويتحمل الجميع مسؤوليتهم. لذلك وجب تنظيم مجلس قومي للأزمة الاقتصادية ووجب أيضا تغيير جذري في الخطاب السياسي ليخاطب عقولنا ويحثنا على التفكير واستلهام الحلول التشاركية.
افتتاحية أسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 اكتوبر 2022