الشارع المغاربي-خالد نجاج : أصبحت طفرة السينما التونسية في السنوات الأخيرة تسمح بالحديث عن موسم سينمائي، وقد افتتح بفيلم ”وحلة” للمخرج نادر الرحموني في انتظار ان يتعزز بأعمال أخرى ستثري المشهد السينمائي الوطني الذي تخطى قرنا من الزمن على ميلاده وستكون المائوية محل احتفاء واحتفال في الدورة المقبلة لأيام قرطاج السينمائية.
مراجعات بعد اختبار أيام قرطاج السينمائية
فيلم ”وحلة” هو أول شريط روائي طويل لنادر الرحموني وقد اجتاز اختبار المسابقة الرسمية لأيام قرطاج السينمائية في دورتها الماضية دون ان يحصل على تتويج. ويبدو أن المخرج قام بمراجعة الفيلم قبل عرضه في القاعات ودخوله اختبار الجمهور العريض. وقد يكون ادخل بعض التعديلات على النسخة الأولى، وهذا متداول ومشروع بل هو محبذ لما يستوعب المخرج ردود الفعل من النقاد والمختصين او يدرك ان منجزه الأول يفتقد لعنصر او عدد من العناصر المطلوب توفرها في الفيلم الروائي وخاصة من حيث تسلسل الأحداث وتناسقها ونسقها.
وبعد قرابة السنة من امتحان ايام قرطاج السينمائية خرج فيلم وحلة إلى جمهور السينما في عدد من قاعات البلاد في العاصمة وفي الداخل وقد ضم مجموعة من الاسماء القديمة والحديثة التي مرت بتجارب في الدراما التلفزية تناولت قضايا وظواهر مجتمعية من بينها المخدرات والجريمة والخيانة الزوجية والتفكك العائلي ومنها على وجه الخصوص ريم الرياحي التي تكاد اعمالها التلفزية الاخيرة تحصرها في بؤرة المشاكل الأسرية الناجمة عن اخلالات في سلوكيات فردية وجماعية تتمرد على القانون والأخلاق باسم الدين وباسم الحرية في ثنائية تجسد تناقضات داخل المجتمع التونسي طفت على السطح بعد الثورة وجسدتها بعض الاعمال الدرامية في السينما والتلفزة بطرق شتى.
شخوص متناقضة تحت وقع الصدمات النفسية.
يروي فيلم “وحلة” قصة عائلة ميسورة الحال يمارس فيها الاب مهذب الرميلي على الام ريم الرياحي تعسفا كبيرا يضعها في زاوية الزوجة الخاضعة لعنف زوجها وسلطته المطلقة على العائلة وتحكمه في تصرفات ابنيه، احدهما وهو محمد مراد يدرس الطب، والثاني فارس عبد الدائم تلميذ في الباكالوريا، وعمهما نادر الرحموني طبيب نفساني فقد زوجته وظل وفيا لذكراها، يزور قبرها باستمرار ويحمل لها الورود تعبيرا عن عشقه الابدي لامرأة احتلت مكانة كبيرة في حياته، وأعلى منزلتها احتراما وتبجيلا.
وقدم المخرج شخصية العم في صفات وخصال مغايرة كليا لشقيقه الاب المتسلط الذي يحتقر المرأة ويفرض عليها الطاعة ويحدد دورها في مجالات شؤون البيت دون سواها. وركز الفيلم في تسلسل احداثه على سلطة الاب وغياب الحوار داخل العائلة ليخلص إلى تداعيات تلك الاجواء على سلوكيات الإبنين خارج البيت وهي مختلفة بينهما اختلافا كبيرا. فتلميذ الباكالوريا منفتح على ملذات الحياة في الشارع رفقة اصدقائه حيث يشعر انه متحرر من قيود الأب ورقابته، في حين يعيش شقيقه الطالب منزويا على نفسه مهوسا بالدراسة في قطيعة تامة مع مباهج الحياة ومتعها بل هو يرفضها تماما رغم ما تسببه له من كبت عاطفي بالخصوص.
ويلعب الطبيب النفسي دورا مهما في تغير سلوكيات شخصيات الفيلم من افراد العائلة واثر فيها تاثيرا كبيرا وباشكال مختلفة إلا الأب الذي ظل متمسكا بطباعه العنيفة . فالزوجة تمعنت في قراءة كتاب ألفه الطبيب تحت عنوان «لا»، وهو ردة فعل على ممارسات تضع المراة في الدرك الاسفل من تركيبة المجتمع وتقطع التواصل داخل الأسرة وما يشكله ذلك من خطر على المجتمع. أما الطالب فأصبح اكثر قربا من عمه الطبيب يطلب منه النصح كلما أصابته صدمة نفسية، وخاصة علاقته التي تطورت بزميلة له في الكلية تفاجا بكونها مخطوبة لغيره، وكانت تعاني هي الاخرى من ازمة نفسية جعلتها مضطربة المشاعر والعواطف.
تمرد على سلطة الأب
وركز المخرج على دور الطبيب ونظريات التحليل النفسي التي خلّصت الطالب من الخوف والرهبة واكسبته القوة والشجاعة ليتمرد على والده دفاعا عن امه التي لم يتضح في الفيلم انها تشبعت بمضمون كتاب العلاج النفسي، حيث ظلت الى آخر عشرتها مع زوجها خاضعة راضية بما يمارسه ضدها من عنف ولو انها هجرته بالطلاق في النهاية، ولكن ذلك القرار لم يكن لتتخذه لولا ثورة الابن على سلطة ابيه ومن وراءها على المجتمع الابوي بشكل عام. فانطلق نحو افق أخرى واستعاد شغفة بالموسيقى وتغيرت ملامحه واصبح محبا للحياة مقبلا على مباهجها، في تحول فاجا الجميع.
أما الاب فيبدو انه لم يقدر على التخلص من اوهام التجبر فاصابته علة نفسية تتطلب علاجا بالمهدئات العصبية. ولم يعد له بالتالي اي دور في الاسرة وقد تعمد المخرج تقديم الاب في تلك الصورة الختامية ليجسد هزيمة التسلط الإجتماعي والأسري ولكنه يبقى رغم ذلك رمزا للرباط العائلي يكن له الابنان تقديرا واحتراما في تلميح للتسامح والمصالحة وهما شرطان ضروريان لتماسك المجتمع.
شكّل فيلم وحلة إدانة واضحة للمجتمع الأبوي الذي يمارس سلطانه على الأسرة ويضبط لها حدود ممارساتها وتصرفاتها. وكان عملا دراميا اعتمد بدرجة كبيرة على التحليل النفسي للظواهر المجتمعية التي تناولها والتي انتهت بكسر حاجز الخوف. ولهذا فهو يدرج دون تردد في دائرة افلام الدراما النفسية او ما يعبر عنه بالبسيكودراما. وقد نجح الفيلم من هذه الناحية في اختيار النماذج والحالات ولو انها ليست غريبة عن المشاهد التونسي الذي تعود في السنوات الأخيرة على مشاهدة مسلسلات تونسية تتناول ولو بطرق عشوائية أحيانا بعض القضايا المجتمعية، واردفت إليها المسألة الدينية لتبرير عدد من الممارسات والتصرفات التي تقيد حرية المجتمع. ولو ان الفيلم قد تجنب تماما الخوض في الناحية الدينية بوضوح او تلميحا وقدم شخوصه في معزل عنها. بل هي شخصيات متحررة من اي ضغوط عقائدية.
التحليل النفسي تحت مجهر السينما
لقد كان الفيلم بمثابة تحليل نفسي استند إلى»وحلة» أهم شخوصه في وضعيات معينة سببت لها أزمات نفسية وبحثت بإرادتها أو دونها عن حلول وعلاجات لها. وقد تطلب هذا الطرح نمطا معينا في الفيلم وخاصة الإطالة في اغلب الحوارات ولكن نتج عن ذلك نسق بطيء في تواتر الأحداث والتي استوجبت بدورها نشر ظلمة في جل المشاهد وهذا ما قد يسبب للمشاهد بعض الملل. ولقد كان بمستطاع المخرج أن يجسد الفكرة ويبلغ الرسالة في وقت اقل مما استغرقه الفيلم وبنسق أسرع ، كالاستغناء عن بعض المشاهد والحوارات مثل تكرار مشهد قفص الطيور في حديقة بيت الاب المتسلط ولو انه عنصر اعتبره المخرج مهما في الفيلم ليؤكد نزوع الاب نحو خنق الحرية بحبس الطيور وفرض إحكام غلق ابواب القفص حتى لا تهرب وتتمتع بحريتها الطبيعية وتستغل اجنحتها لبلوغ الافق الرحب. ولكن ثورة الابن على الأب منحت الحرية للعصافير.
هذه قراءات للفيلم قد تجد من يتفق معها ومن يعارضها ولكن اعتقادي انها الاساس في مجمل شريط «وحلة» الذي اشتغل على التحليل النفسي لظاهرة التسلط الابوي وتطلب ذلك من الممثلين القيام بأدوار مركبة لتجسيد التحولات في الشخصيات. وقد تميز من هذه الناحية الممثل محمد مراد الذي ظهر في الفيلم بشكل مغاير تماما عن أدواره السابقة في التلفزة والسينما كما تالّق المخرج نادر الحمروني في دور الطبيب النفساني وكانت الممثلة سلمى المحجوبي مستوعبة أيضا للشخصية التي أدتها في حين لم يتجاوز أداء مهذب الرميلي وريم الرياحي درجة تميزهما المعروف تلفزيا وسينمائيا.
البسيكودراما ظاهرة دارجة في السينماءات التي تتميز بوفرة صناعتها وقد يكون مجال السينما التونسية يضيق عنها حاليا لفائدة مواضيع أخرى أكثر ارتباطا بواقع المجتمع وهمومه ولو أن فيلم وحلة ينقل واقعا ويمكن لكل مشاهد ان يجد فيه صورته أو قصته. وقد يكون المخرج أراد أن يدلو بدلوه في مجال يخطو في تونس خطوات محتشمة وهو مجال العلاج النفسي بالسينما وهذا سعي مشروع وقد يفتح امام السينما التونسية أفقا إبداعية جديدة .ولكن كيف سيتعود عليها الجمهور؟ هذا الجمهور الذي حان الوقت لسبر اتجاهاته حتى تدرك السينما التونسية بوصلتها.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي”الصادرة بتاريخ الثلاثاء 19 سبتمبر 2023