الشارع المغاربي: وأنا أتابع السياسة التي ينتهجها قيس سعيّد خصوصا منذ 25 جويلية 2021 بعد أن أصبح الحاكم الوحيد للبلاد وجدتُ أنه يشترك مع زين العابدين بن علي في جملة من المواقف التي تظهر من خلال التطابق في تناولهما بعض القضايا التي تعرض على أي حاكم كالتعامل مع معارضيهما ونوعية مساعديهما والشروط التي يحبّذان توفرها فيهم ومدى التزامهما بتعهداتهما وأي نوع من الإعلام يرضيهما، وهو ما سنأتي على ذكره فيما يلي:
1) لمّا استفاق الشعب صبيحة السابع من نوفمبر 1987 واستمع إلى البيان التاريخي الذي أنهى حكم الزعيم بورقيبة خرج الناس في مظاهرات شعبيّة عفويّة عبّرت عن مساندتهم ما ورد في البيان وما تعهّد به بن علي كإيجاد نظام ديمقراطي يُمكَّن فيه الشعب من حقه في الحرية. في 25 جويلية 2021 خرج الشعب فرحا بعد أن فعّل الرئيس قيس سعيد الفصل 80 من الدستور السابق بتجميد البرلمان منهيا بذلك مرحلة سوداء تحكّمت فيها حركة النهضة في البلاد وأوصلتها إلى الإفلاس المادي والسياسي والأخلاقي. يومها انزاحت غمّة واعتقد الشعب أن الخطوات التي ستلي إغلاق البرلمان ستكون أساسا محاربة الفساد والإرهاب وإنهاء حكم العشريّة السوداء. إلا أننا في الحالتين أُصبنا بخيبة أمل. ففي فترة بن علي وبعد عشر سنوات من الحكم تبخّرت كل الآمال وعُدنا إلى حكم الرجل الواحد. وفي فترة قيس سعيد وبعد مرور سنة واحدة تأكّدنا من أن إنهاء وجود البرلمان لم يكن بقصد إصلاح ما أفسد الغنوشي وجماعته وإنما لسبب واحد هو التمهيد لبناء نظام آخر مُضمر لدى الرئيس لم يقع التصريح به ولكنه ينفّذ بتؤدة وتخفّ وهو ما تفطّنت إليه النخب وهي بصدد مواجهته.
2) بعد السابع من نوفمبر عرف الحزب الاشتراكي الدستوري انخراط أفواج من المعارضين السابقين فيه ممّا أدى إلى تغيير اسمه ليصبح “التجمع” وأذكر أنه في بدايات تلك المرحلة كانت هناك مجلة 7 نوفمبر التي فتحت صفحاتها لمختلف الأقلام. كل ذلك ساهم في بعث حيوية فكرية وسياسية في التجمع، لكن بمرور الزمن تآكل الحزب لعاملين اثنين: أوّلهما تحوّله إلى هيكل ملحق برئاسة الجمهورية بحيث تُعيّن وتُعزل قياداته بمجرد بلاغ فانتفت عنه صفة الحزب الذي يؤطّر ويعدّ الكوادر للمواقع القياديّة في الدولة ويتمّ تصعيدها بالطرق المتعارف عليها. ثاني العوامل نتج عن تحوّل الحزب إلى مؤسسة لا هي بالإدارة التي تخضع للكفاءات ولا هي بالحزب الذي يخضع للتكوين السياسي بل أصبح مؤسّسة تقوم أساسا على الولاءات الشخصية التي لا ينظمها ناظم فغصّ بالانتهازيين وأصحاب المصالح والمندسّين حتى من خصومه لنجد في نهاية الأمر أن الأمين العام للتجمع يحتفل باليوم الذي سقط فيه حزبه مع المحتفلين بما سمّوه ثورة ويقبل أن يصبح مستشارا لدى من خاصم حزبه منذ سبعينات القرن الماضي. أي أن بن علي لم يكن خلال العشرية الأخيرة من حكمه يعتمد على الحزب وأن عُمدته أساسا كانت أجهزة الدولة رغم أن الأحزاب تمثل صمام الأمان لأي نظام تحفظ به جماهريتها ووجودها في ثنايا المجتمع. ولهذا السبب لم يستطع التجمع بعد أن فقد مقوّمات أي تنظيم سياسي الدفاع عن حكمه واقتصر الأمر على طواف سيارات اكتراها وجالت ببعض الشوارع والأنهج ردّا على المظاهرات التي اكتسحت البلاد أيامها. أما الرئيس قيس سعيد فإن حاله لا يختلف عن حال بن علي خلال العشرية الأخيرة من حكمه بحيث يفتقر إلى حزب مهيكل ومنظم. هذا الفراغ حوله جمع شتاتا من الأسماء لا ينظمها ناظم منها القومي ومنها النهضوي ومنها اليساري ومنها الانتهازي ومنها السلفي ومنها الذي لا دين له ولا ملة. إنها نِحَلٌ لا يمكن أن تمثّل عامل استقرار لأي نظام فلا جامع يجمعها سوى السعي للحصول على المنافع التي يمكن أن تضمنها السلطة القائمة.
3) خلال العشر سنوات الثانية لم يعد نظام بن علي قادرا على تقديم ما يمكن أن يجمع به الناس حوله بعد أن نكص على بيان السابع من نوفمبر وعاد إلى سيرة سابقيه في الاستفراد بالحكم. هذا الفراغ جعل المحيطين به ممّن يساهمون في صنع القرار، وأتحفظ على ذكر الأسماء، يسعون إلى إيجاد أعداء وهميّين وافتراضيّين يشغلونه بهم من ناحية ويشعرونه بأنهم بالمعارك التي يفتعلون يحافظون على نظامه من السقوط. لذا تكاثر أعداء النظام في تلك الفترة خصوصا في العشرية الثانية من حكم الرجل. من ذلك رابطة حقوق الإنسان ومحمد الطالبي وبن بريك وغيرهم وحتى خميس كسيلة الذي دخل التجمع صُنِّف خصما وتشفّى منه النظام بشكل تأباه الأنفس السليمة وكذلك خميس الشماري الشخصية الحقوقية الذي كان من الممكن أن يحافظ عليه النظام صديقا ولكن الدائرة المضيّقة حول الرئيس فضّلت دفعه إلى الالتحاق بالمعارضة وكذا سي محمد الشرفي وغيرهم ممّن لم تكن لخصومتهم أي معنى سوى اختلاق العداوات الوهمية للإبقاء على بعض الأسماء في دائرة القرار بدعوى الدفاع عن النظام والحصول على منافع المنصب. وأذكر أن محمد بنور الذي كان يشتغل أيامها في دار سراس للنشر قدّم لي في أيامي الأخيرة بوزارة الداخلية مسودّة كتاب محمد الشرفي عن الإسلام والحرية وكان المرحوم أيامها قد انتقل إلى المعارضة فكتبت تقريرا للرئاسة أدعو فيه إلى السماح بترويج الكتاب وفي الأثناء أطردت من الداخلية. بعدها علمت أن الأمر صدر بمنع الكتاب ليعمّق من خصومة الشرفي للنظام دون موجب. كلّ ذلك أدى إلى تآكل مصداقية الحكم واجبار النخب التي عاضدته في البداية على الانكفاء على النفس ولم يجد وقت الشدة من يقف لمساندته. هذا الذي حصل أيامها نشاهده اليوم في حكم قيس سعيد بحيث نجده بقراراته يحرص على تجميع خصومه في نفس الوقت الذي يجتهد فيه لتشتيت مناصريه بالجهد والمعين الله، وإلا بماذا نفسر موقفه المعادي لاتحاد الشغل وللحزب الدستوري الحر؟ وما الفائدة من طرد النقابية الأوروبيّة؟ ولِم الحرص على حراسة بؤرة القرضاوي والتمكين لحزب التحرير والامتناع عن محاسبة حركة النهضة على الجرائم التي أتتها في حقّ البلاد والعباد كالتسفير واغتيال مواطنينا وأمنيينا وجنودنا والتنظيم السري وغير ذلك؟ والحصيلة ممّا ذُكر أن بن علي عانى من فراغ في الكفاءات ومن تجمّع من الانتهازيين في الفترة الأخيرة من حكمه وكذلك حال قيس سعيد ويكفي أن تتأملوا الأسماء التي تدّعي الدفاع عن سلطته من حيث أصولها وانتماءاتها لتستنتجوا أن الخيط الذي يجمع بينها هو نفس الخيط الذي جمع التجمعيّين في آخر عهد الرئيس بن علي.
4) أما عن الصحفيين فحدّث ولا حرج. ذلك أن حكمي بن علي وقيس سعيد استعانا بنفس الأسماء. فالذي كان يمتدح السابع من نوفمبر في وكالة الاتصال الخارجي أو في غيرها هو نفسه الذي يمتدح اليوم حكم 25 جويلية وبذات الأسلوب الذي لا مصداقيّة فيه وبذات الألفاظ التي لا يصدّقها حتى قائلها. ولكم أن تتأملوا في المشهد الإعلامي لتجدوا أن صحفيي السلطة هم أنفسهم صحفيو البارحة واليوم. وكما كانوا نذير شؤم لحكم المرحوم والبلاد في حالة مستقرّة هم اليوم كذلك نذير شؤم والبلاد في حالة إفلاس وهوان.
”ولله الأمر من قبل ومن بعد”.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 28 فيفري 2023