الشارع المغاربي-كوثر زنطور: ألمح رئيس الجمهورية قيس سعيد في اجتماع مجلس الأمن القومي المنعقد يوم الاثنين في معرض حديثه عن تعبئة الموارد لميزانية الدولة الى نهاية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. تلميح لا يبدو مفاجئا في ضوء عدة مؤشرات وتطورات عرفتها الساحة الوطنية منذ التوقيع على الاتفاق المبدئي على مستوى الخبراء في شهر أكتوبر من العام الماضي حول قرض بـ 1.9 مليار دولار.
طرحُ ملف تعبئة الموارد لميزانية الدولة ضمن جدول أعمال اجتماع مجلس الامن القومي يكاد يكون سابقة في تاريخ اجتماعاته. هذا الملف هو بلا شك في قلب الامن القومي لاسيما مع التداعيات الوخيمة ومخاطر ما يسمى بالسيناريو الأسوأ الذي يتمثل أساسا في التخلّف عن الالتزام بسداد القروض الخارجية. تخلّف كانت وزيرة المالية سهام نمصية قد شدّدت خلال جلسة في بداية اشغال البرلمان الحالي على انه يعني إعلان إفلاس للدولة. ونمصية الحاضرة في اجتماع يوم امس وجّه لها الرئيس سعيد الحديث في شكل توجهات للفترة القادمة بخصوص تعبئة الميزانية التي قال انها ستكون بالتعويل على الذات “دون التنازل ابدا عن ذرة واحدة من السيادة” .
نهاية الاتفاق ؟
لم يعد خافيا على أحد الصعوبات التي تمرّ بها المالية العمومية منذ أعوام وهي صعوبات أصبحت مؤخّرا جلية في تفاصيل الحياة اليومية للتونسيين وتحديدا في نُدرة مختلف المواد التي تدعمها الدولة. عدة قراءات تذهب في اتجاه ان مرد ذلك قرار بتوجه نحو سداد القروض الخارجية على حساب بقية النفقات وان السلطات القائمة تمكّنت بفضل ذلك من سداد 74 في المئة من الأقساط المستوجب خلاصها والتي بلغت قيمتها منذ بداية العام حتى يوم 10 سبتمبر الجاري 6653.1 مليون دينار.
قُدّمت هذه النسبة أولا كنجاح في تأمين أحد أبرز تحديات هذا العام وهي سداد الديون لا سيما انها كانت من ضمن المهام شبه المستحيلة في ظل تواصل تعطّل ابرام اتفاق مع صندوق النقد وثانيا تفنيدها حسب داعمي الرئيس “معشر الخبراء” الذين كان رئيس الجمهورية قد انتقدهم بشدة خلال زيارتيه الأخيرتين إلى مقري البنك الوطني الفلاحي والبنك المركزي وسط تأييد مختلف من التقاهم الذين اتفقوا معه في التهم التي وجهها الى من اسماهم بـ “مجموعة المليون ونصف خبير” ودعاهم الى التزام الصمت واتهمهم بـ “نشر الاحباط وبالكذب والعمل على ارباك الدولة والتشكيك في قدراتها”.
ليس بجديد على الرئيس توجيه مثل هذه الاتهامات والانتقادات وان كانت اكثر حدة خلال الأيام القليلة الماضية. وليس بجديد أيضا تأكيده على عدم التفريط في السيادة الوطنية رغم تناقضات بعض المواقف مع هذا المبدأ العام الذي يمثّل احد ثوابت الخطاب الرئاسي الرسمي. بيد أن طرح ذلك في اجتماع مجلس الامن القومي بالقول ان كلامه موجه للعالم في خضم عودة النقاشات بقوة في عواصم أوروبية حول اتفاق صندوق النقد لمواجهة انفجار اجتماعي بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية والمالية قد يكون هو الأهم على الاطلاق ان أخذنا بعين الاعتبار التعديلات التي يرنو سعيد إلى إدخالها على القانون الأساسي للبنك المركزي.
فخلال زيارته الى مقره اين التقى نائب المحافظ ثم المحافظ مروان العباسي، أشار سعيد بوضوح الى الفصل 25 الشهير من القانون الأساسي للبنك المركزي الذي تمت المصادقة عليه سنة 2016 وأصبحت بمقتضاه الدولة تقترض عبر البنوك. ساد جدل في البرلمان خلال نقاشات تعديل القانون المذكور وعلت الأصوات آنذاك مندّدة بتدخل وصف بالسافر من صندوق النقد الذي يتّهم باشتراط فرض استقلالية البنك المركزي ضمن “املاءات” بخصوص أضخم قرض تحصلت عليه تونس في تاريخها 2.9) مليار دولار) .
عاد الجدل حول هذا الفصل اكثر من مرة وتعدّدت المطالب لتعديله كلما فُتحت النقاشات حول وضعية المالية العمومية ومشاكل الاقتراض التي تعترض الدولة او كلما صدرت المرابيح القياسية التي تحقّقها البنوك. ومن المهم التذكير بسرعة نفي السلطات اعتزامها تعديل هذا الفصل عندما أشار الى ذلك رياض جعيدان النائب وعضو مكتب المجلس المكلف بالاصلاحات الذي اعلن ان البرلمان ينتظر إحالة الحكومة مشاريع قوانين منها مشروع قانون يتعلق باستقلالية البنك.
نفي اكثر من مفهوم بالنظر الى ان المس بهذا الفصل سيزيد في تعطيل مسار المفاوضات مع النقد الدولي المتعثرة أصلا. لذلك اعتُبر طرح التوجه نحو تعديل الفصل 25 من القانون الاساسي للبنك المركزي بمثابة مؤشّر على غلق الرئاسة ملف التداين من صندوق النقد الذي طالب وزير الخارجية نبيل عمار بإصلاحه وذلك من نيويورك خلال كلمته باسم المجموعة الافريقية في الاجتماعات المنعقدة على هامش الجمعية العامة للامم المتحدة .
وقال عمار ان النظام المالي العالمي فشل في الاستجابة الى حاجات الدول النامية وفي توفير شبكة الأمان المالي لمساعدة هذه الدول على مواجهة تحديات ناجمة عن تتالي الازمات والصدمات مضيفا ان الأوان حان لإصلاح صندوق النقد وتوسيع نطاق الدول النامية في هياكله بما يتلاءم مع ما اسماها بالتغييرات الجوهرية التي شهدها العالم منذ تأسيس الصندوق عام 1944 حتى الوقت الراهن وحتى يصبح قادرا على حشد التمويلات الكافية والميسرة لمساندة الدول في مكافحة ازمة المناخ والقضاء على الفقر وتحقيق اهداف التنمية المستدامة .
واقعية ؟
يثير الاتفاق مع صندوق النقد ريبة السلطات القائمة أولا من حيث تداعياته على الوضع الاجتماعي باعتبار انه يتضمن إجراءات ستكون قطعا موجعة. سعيّد كان قد اكد انها تهدّد السلم الاجتماعي. وثانيا باعتبار انه سيتزامن مع عام انتخابي. أمر قد يضع على المحك كل مسار ما بعد 25 جويلية الذي انطلق بوعود توزيع عادل للثروات والقطع مع سياسات التفقير والتجويع والتهميش. لذلك سيكون من الصعب ان يقرّ الرئيس إجراءات لاشعبية.
يريد سعيد قرضا بلا شروط وله فلسفة في مراجعة الدعم كان قد قدّمها وتقوم على أن يُموَّل من المستفيدين به من غير وجه حق. لا جديد يذكر حول هذا الاقتراح ولا توضيحات قُدمت حتى الان بخصوص الشروط المرفوضة أو الاملاءات مثلما يقول سعيد خاصة ان ثلاثي وفد التفاوض مع الصندوق أي محافظ البنك المركزي ووزير الاقتصاد ووزيرة المالية اجمع على ان الاتفاق تونسي – تونسي وان 400 كفاءة تونسية أشرفت على اعداده.
بدل ذلك أعلن محافظ البنك المركزي مروان العباسي خلال شهر جوان المنقضي ان تونس تتفاوض مع الصندوق حول “برنامج اصلاح عادل ياخذ في الحسبان الفئات الأشد احتياجا”. وفي نفس الشهر كشف “مسؤول حكومي رفيع المستوى” لرويترز ان السلطات بصدد اعداد اقتراح بديل للاتفاق الموقّع على مستوى الخبراء مع الصندوق قال انها ستطرحه قريبا دون ان يذكر أي موعد للتقديم.
في الكواليس سعت مختلف الأطراف المتدخلة في السلطتين المالية والاقتصادية الى نفي اية علاقة بهذا “المسؤول الحكومي الرفيع” بما مثّل مؤشرا على وجود اختلافات بين الرئاسة والحكومة حول تقديم اقتراح اصلاحات. وبعدها بشهر أقيلت رئيسة الحكومة نجلاء بودن دون توضيحات رسمية وربط البعض الإقالة بملف المفاوضات مع الصندوق رغم ان الرئيس سعيّد ختم على مرسوم الميزانية وقانون المالية اللذين بنيا على فرضية الحصول على قرض من الصندوق.
تسود الضبابية المفاوضات مع الصندوق التي يُنظر اليها على انها سيف مسلّط من الدول المتحكّمة في قراره والتي لها انتقادات لاذعة لسياسات الرئيس. لا أحد يمكنه الجزم بأن سعيّد أغلق قوس الاقتراض من الصندوق ليس بسبب شرط الحصول على تمويلات لتعبئة الميزانية من بقية المانحين وإنما أيضا نتيجة عدم واقعية البدائل الرئاسية. فلا التعويل على الذات بأهميته وضرورته قادر على حل مشاكل اليوم ولا الصلح الجزائي في طريقه إلى النجاح لتجميع الـ13 مليار دينار ولا ملف استرجاع الأموال المنهوبة بتعثراته وفشله سيمثل الحل لتحدي تعبئة الموارد.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 26 سبتمبر 2023