الشارع المغاربي:
-1 أدبيات “الحوار” عموما
إن السؤال الذي سنتطرق اليه في هذه الورقة هو: هل نشهد حقا في المجتمع السياسي الحالي لبلادنا شيئا يمكن ان نسميه ”حوارا” بالمعنى الدقيق، أي التداول والتشاور البناء والذي يؤدي الى اتفاق حقيقي حول الموضوع المتناول، ام هل نحن بعيدون كل البعد عن ذلك؟
لنذكّر بان ”الثورة المرتجلة” عرفت تجربة ثرية في مجال الحوارات التي، في الحقيقية، لم يكن الكثير منها ذا منفعة حازمة، والكل يذكُر ما آلت اليه لقاءات قرطاج الأولى وقرطاج الثانية في زمن المرحوم الباجي قائد السبسي من نتائج سلبية وعوائق وخيمة تسببت في تعميق الازمة الوطنية.
*-ذلك ان “الحوار “هو بالأساس عمل جدي يهدف الى حل مشكلة ما على أساس المصلحة الاكبر والاقتداء بما يملي العقل فللحوار الجدي “ادبيات ” وقواعد منهجية يحسن التذكير باهمها في ما يلي:
-* ان ”الحوار” الجدّي يفترض ان يقبل المشاركون فيه مسبقا بأنهم متساوون بالنسبة للمهمة التي سيقومون بإنجازها. فالحوار ليس صراعات بين الأطراف او بين مصالح متضاربة، وانما هو عبارة عن اجتهاد جماعي هدفه حلّ مشكلة ما بالطريقة الاصلح والأفضل، وتنتهي دورة الحوار ”بلا غالب ولا مغلوب”.
* -إن ”الحوار” المُجدي هو الذي تقبل فيه كل الأطراف المصادقة المسبقة على ”ميثاق تأسيسي ” يتضمن المبادئ التي ستطبق في اطاره
-*إن هذا “الحوار” لن يكون مفيدا الا عندما وبشرط ان يفضي الى برامج دقيقة وشاملة وقابلة للإنجاز على ارض الواقع.
*-إن ”الحوار الوطني” في معناه الصحيح، هو عالم المنطق والتفاعل الايجابي والبنّاء بين الأفكار والتصورات والخضوع لقواعد التناسق والتلاؤم بينها. وهو لذلك يختلف تماما عن المحادثات والنقاشات التي تدور على أساس التوازنات بين القوى السياسية، ففي تلك الحال، سرعان ما ينقلب ”الحوار” الى ”مفاوضات” وصراعات تسود فيها نسب القوى المتواجهة، لا غير. بعبارة أخرى، نحن أًمام عالمين مختلفين جذريا: العالم الأول هو عالم الاقتداء بمبادئ المنطق واحكامه وحدوده سعيا للتوصل الى نتائج أكثر مصداقية وفاعلية وديمومة. والعالم الثاني هو عالم المناورات والمساومات والسعي بأي ثمن وراء ”أربَح نتيجة” وان كانت ظرفية وسريعة الزوال.
2 – أين نحن من كل هذا اليوم؟
-* لا جدال في ان الوضع العام الحالي للبلاد لا يدفع على الابتهاج. لكن وفي الآن نفسه ورغم حالة الاحتقان المشهودة، فإن المؤسسات العمومية والخاصة منها عجزت فرادى كانت او جماعات،عن ابتكار منظومة او مخطط يُدخل الامل على النفوس، سببه الأساسي هو تغلّب دافع الغرور وعبادة الذات لدى القادة السياسيين الذين قلّما يقبلون التحاور مع الآخر على أساس المبادئ المذكورة أعلاه. وهذا العجز سنشاهده على مختلف المستويات كما سنبين ذلك في ما يلي:
* -الأطراف في ”الحوار الوطني” وشروط مشاركتها:
انه من المؤسف ان أكثر الأطراف المعنية توخّت مواقف سلبية ومتشددة في هذا المجال. فهناك من أعلن مقاطعته للحوار او قدم شروطا تعجيزية لمشاركته فيه. وهناك من لزموا الصمت الكامل. وآخرون اشترطوا ان يلعبوا في الحوار دورا شبه قيادي. وهناك طرف رئيسي يدّعي احتكار مبادرة ”الحوار” من ألفها الى يائها، فلا يكون ”الحوار” عنده الا خطابا احاديا، يتفرّد ببعثه وبقيادته وباختتامه.
-* إنه من الواضح انه طالما ستبقى الحال على هذه التركيبة المختلة، فإن تنظيم ”الحوار الوطني” المنشود وبالمعنى المبين أعلاه سيكون صعبا للغاية مثلما سنبرزه من خلال النظر على سبيل المثال، في موقف الطرفين الأهم في هذه المسرحية، أي رئيس الجمهورية، من جهة، والاتحاد العام التونسي للشغل. من جهة اخرى. فرئيس الدولة وضع شروطا اقصائية صارمة ولم يقبل أي تنازل في هذا الصدد الا لفائدة القلة التي قبلت ”الاصطفاف” المطلق خلف مواقفه وتوجهاته. وفي العموم، فإنه يبدو وكأنه غير معني بالحوار من عدمه . اما الطرف الثاني – أي الطرف العمالي -، فإنه يبدو معنيا بقيادة الحوار قبل كل شيء. وفي ما يخص موقفه من رئيس الجمهورية في نفس المجال، فإنه لا يقبل لرئيس الجمهورية الا بدور شرفي وحضور رمزي وشبه ”بروتوكولي .” وهذا هو الذي لن يقبله هذا الأخير الا اذا اصبحت الشمس تدور حول الأرض.
… -* في رأينا، يسود هاذين الموقفين التشدد واللامبالاة، ولا يمهدان السبيل لحوار إيجابي وبناء بل هما انحدرا الى مستوى العمل ”السياسوي” وغير المسؤول. لهذه الاسباب، فإنا نتوقع ان المبادرة الحوارية لن تؤول في أحسن الأحوال، الا الى نتيجة غير مجدية على غرار ما عهدنا في العديد من الاجتماعات غير المجدية والمخيبة للآمال…
*- محاور «الحوار الوطني» المعروضة:
الى جانب الاختلافات السلبية بين الأطراف السياسية المذكورة آنفا، دعنا نتعرض في ما يلي الى ما يتعلق بمحاور الحوار موضوع تلك الاختلافات. هنا ليس من المستبعد ان تنشب النزاعات بين الأطراف السياسية الى حد انها قد تؤدي الى سد باب الحوار بينها من عدمه. وهذه الوضعية المأساوية قد تؤدي في يوم ما الى انفجار سياسي. وحتى نبين خطورة الوضع الناتج عن ذلك الاحتقان، لننظر في ما يلي في اهم تلك الإشكاليات.
-* معضلة ”الدستور” الحالي:
لقد ثبت ان ما سمّي في ” 2014 أحسن دستور في العالم” هو في الحقيقة أسوأ دستور عرفته البلاد، وتبيّن انه من الضروري الإسراع في إلغائه وتعويضه بطرق ديمقراطية بما هو أفضل. الا ان ما حصل كان عكس ذلك باعتبار انه تم وضعه بطريقة انفرادية ومفاجئة وان عرضه على ”الاستفتاء” لم يكن سوى مجرد “مهزلة سيئة الإخراج .” أمام هذه الحال، يبدو انه لا مكان لأي ”حوار” بالمعنى المبيّن أعلاه في إطار الدستور الحالي وان الأمر المطروح الآن هو مراجعة النص الدستوري بأكمله.
*- معضلة 25” جويلية 2021″:
هو يوم تاريخي بامتياز لأنه كان يوم الفصل بين ما قبله وما بعده. وهنا، تبرز الاختلافات بين مؤيدي ذلك الرمز وبين مناهضيه، ولقد تفاقم الاختلاف بينهما الى حد ان التقارب بين الشقّين أصبح صعبا للغاية : فمن جهة أولى، يَعتبر صانع 25” جويلية” ان الثورة التي قام بها هي أهم من الأولى (2010-2011 ) باعتبار انها تحمل في طياتها وعودا ومشاريع ضخمة وان الشعب – وربما، الإلهام الرباني – كلّفه دون غيره بإنجاز الرسالة كاملة ومكّنه من الصلاحيات اللازمة لذلك وعصمه من كل مسؤولية عمّا يقوم به من اعمال. لكن ومن جهة أخرى، يدّعي الشق الثاني انه هو المسؤول الأول عن رعاية حقوق الشعب ومصالحه وأنه يتمتع بالمشروعية الشعبية والصلاحيات الكافية للقيام بتك المهمة العليا. وادّعى كل من الطرفين انه هو صاحب المبادرة وان له الاسبقية في تبنّيها وفي الإعلان عنها، فنتج عن ذلك سد باب النقاش بينهما.وبذلك اصبح ”الحوار”غير ذي معنى بحكم انه بصدد التحول الى مواجهة ومنازلة بين القوتين.
*- معضلة تحديد اهداف الثورة:
إن ”ثورة” 2010 – 2011 كانت بالأساس انتفاضة شعبية تلقائية على الفقر والظلم، لكنها تطورت بسرعة الى غير ذلك: فبعد ”معركة الهوية” التي ما زال الإسلاميون يحنّون اليها ويأملون في الرجوع اليها، تحولت الثورة الى اتجاه شعبَوي فوجئ الجميع باندلاعه وبانتصاره في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 وبتَبنّيه لمنظومة كليانية لا مثيل لها في العالم ولا سابقة بل وتَدّعي انها قادرة على ان تأتي بما لم يأت به الأوائل.
-* ليس من حظ هذا البلد ان يتحمل في فترة قصيرة محنة تحويل ثورته الى مأساة عقائدية مصطنعة آلت به الى الخراب والى الانشقاق الاجتماعي والسياسي،تليها محنة الهروب الى الامام او القفز في الفراغ والمجهول. فوضعية هذا البلد لم تتحسن خلال هذه الفترة فحسب وانما ازدادت سوءا باعتبار انه لم يهتد الى ابتكار الحل المفصلي والحاسم الذي قامت ثورته من اجله. ومن المؤسف للغاية ان هذا البلد لم يتمكن بعد مرور اكثر من عشر سنوات على اندلاع الثورة من ابتكار منوال تنموي جديد يوفر أسباب العيش الكريم للجميع ويحقق العدالة والاستقرار السياسي والاجتماعي المرغوب. فالمخطط ”التنموي” الحكومي لا يفي بالحاجة من ناحية الأهداف ومن ناحية فترة الإنجاز(2023-2025). أما “المخطط التنموي” للاتحاد العام التونسي للشغل، فإنه لم يُكشف للعموم الى حد الآن ولم يعرض على مراكز القرار الحكومية او الخاصة الى حد اليوم.
*****////**** *-
إن كل ما سبق يعني ان ”الثورة” التونسية لم تكلل بالنجاح لأسباب عدة نوجزها في انّها لم تخلق المناخ الملائم لإنجاز العمل الاصلاحي المرغوب ولم تفكر في وضع منهجية واضحة تمكنها من إتمام أهدافها. وفي رأينا، هذا هو ”مربط الفرس :”ففي رأينا، إن المؤسسات العمومية والخاصة الحالية غير قادرة لأسباب عدة، على القيام بهذه المهمة الحيوية. لهذا، وتفاديا لاضاعة المزيد من الوقت واعتبارا لتدني الوضعية العامة في البلد ولضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لإنقاذه، واهتداء بالعديد من التجارب الناجحة في مثل هذا الوضع بالخارج، وفي حالة تمسك رئيس الجمهورية بالصمت والامتناع عن التفاعل الإيجابي مع مبادرات مختلف مؤسسات المجتمع المدني، نرى انه من الصالح والعملي اعتماد مخطط “الرباعي” كقاعدة للتحرك السياسي ولإحداث ديناميكية جدّية لوضع برنامج واقعي للخروج بالبلاد من هذه الازمة العميقة التي طالت اكثر بكثير مما يطاق….
*نُشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 جانفي 2023