الشارع المغاربي: 1
“الحوار”… “الحوار”…: هذا بلاء التونسيين اليوم، فهم يحاورون صباحا مسا ء وكلهم يحاورون الى حد الهذيان عملا بما قال الأعشى ( مع بعض التحريف) ..” فكلنا مغرم يهذي بحواره، ناء ودان، ومخبول ومختبل. “
وللتونسيين، خاصة بعد اعتناقهم ديانة ‘الديمقراطية” ،عهد وثيق بـ”الحوار” يحق لهم التباهي بنتائجه الباهرة وبمردوده الإيجابي على إدارة شؤون الأمة. أفلم يكن الأمر كذلك منذ “حوار” نزل “بريستول” الباريسي الذي تمخضت عنه مقولة: ” الحوار هو الوفاق “؟ – وكما يعلم الجميع، فإن بلادنا ذاقت الأمرين في ظل تلك المقولة التي هي “حجرة الفلاسفة” في “كوكب السياسيين” عندنا؛ وحتى إذا طرأ على “الحوار” بعض الخلل، فلا علاج له الا بـ”الحوار”: أفلم يكن ذلك كذلك عند العثرة الأولى التي عولجت بـ” حوار قرطاج 1″؟ – وحتى عند حدوث العثرة الثانية، فإن علاجها ما كان الا عبر “الحوار”، “حوار قرطاج 2″، الذي بدوره تعهدوا خلاله بمعالجة تعثره بنفس الترياق الناجع، أي “الحوار”. صحيح ان من بادر ببعث هذ الفكرة من عدمها، كلّ ويئِس من جودة محصولها، لكن هذا لم يثن عزم من ثبت على العهد فواصل “الحوار” بوحده ولوحده ولو أصبح هذا من نوع “المونولوغ” المسرحي: أفلم يكن ذلك كذلك ذات يوم من شهر جويلية الماضي عندما نادى مناد فأوحى بتجديد “الحوار” بما يناسب ذوق الهواة، أي “الشباب”؟
ورغم كل ما حصل من خيبات واخفاقات جراء التداوي بما ثبت من فساد في العقار المستعمل، فإن “الحوار” فرض نفسه ثانية فانتشر استعماله برواج اكبر مما كان عليه، فترى البعض منهم ينادي بواجب قبول “حوار” مشروط وبالالتزام بـ”الخطوط الحمراء” التي سطرها مسبقا؛ وجاء غيرهم بأن “الحوار” إنما هو الجلوس للطاولة والتباحث والتجادل، حتى وإن طال ذلك الى مطلع الفجر… وجاء ثالثهم بابتكار طريف يتمثل في لزوم قلب منهجية “الحوار” رأسا على عقب، أي ألا تأخذ صياغة القوانين والتشريعات والتدابير اتجاها تنازليا كما هي الحال منذ القدم والى حد اليوم، وإنما نسقا تصاعديا ابتداء من القاعدة وصعودا الى القمة حيث ستتناسق المبادرات والابتكارات بصورة متلائمة مع ما “الشعب يريد”…وجاء رابعهم بأن لا سياسة الا في كنف العقيدة وبرعايتها وبأن لا جدال حول هذا الركن الأساسي للسياسة.
2
كفانا ضحكا على الذقون، فكل ما سبق من “الحوارات” بكامل أنواعها، إنما هو مهزلة غير لائقة بعظيم الأمور المتداولة وبضخامة الرهانات المطروحة. فالأمر ليس أقل من الحكم على مصير شعب كامل له تاريخه الطويل وحضارته العريقة ومصالحه الحيوية وطموحاته وتطلعاته، وله الحق في السهر على تحقيق العيش الكريم والآمن والعدل، وله الحق في وضع النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الجدير بتحقيق حسن تدبير شؤونه: وفي هذا المجال، لا جدال في ان حصيلة السنين العشر الماضية كانت ابشع الانجازات وأسوء النتائج، تفرض المراجعة والمحاسبة والمساءلة الدقيقة والصارمة في النتائج وكذلك في الوسائل والآليات، وذلك بدءا بطرق إدارة الشؤون العامة والسهر على مصالح العباد. وأول ما يتحتم إعادة النظر فيه هو “الحوار” بالذات. فليعلم السياسيون انه لا علاقة لـ “الحوار” الذي كانوا يمارسونه بالمفهوم الصحيح للعبارة وأنه لم يكن سوى مسرحية سخيفة وسيئة الإخراج.
**- «الحوار» الحقيقي هو واحد من أهم اركان السياسة عامة، وهو أساس النظام الديمقراطي وجوهره، ولن يكون “حوارا” بأتم معنى الكلمة الا إذا توفرت فيه مواصفات دقيقة نستعرض في ما يلي أبرزها علّها تعود ببعض النفع على من يمارسون السياسية في بلادنا:
*- “الحوار” هو بالأساس العملية الجدلية التي ترمي بفضل التعمق في دراسة الأمور الى الوصول الى التفكير الصائب والى اثبات مدى صحته المنطقية وجدارته السياسية الملموسة.
*- “الحوار” هو عملية عقلانية تفترض استعمال آليات الاستدلال المنطقي والاقناع بكل أمانة وصدق.
فـ”الحوار” المبني على المجادلة غير المنطقية لا يعتبر “حوارا” حقا كما دللت على ذلك المجادلة بين اهل العقيدة واهل العقل: فبين “العقيدة” و”العقل” لا “حوار” ولا “جوار” بحكم غياب التناسق بين المنهجيتين في التفكير واستحالته اصلا.
*- “الحوار” يدور بالأساس حول برامج سياسية ولا غير: فهو ليس منازلة ولا مقارعة ولا مصارعة بين اشخاص او أحزاب او فئات، انما هو حصرا مناظرة بين منظومات ونظريات وبرامج سياسية بعيدة عن “الماورائيات” تُطرح أمام المواطنين الذين يؤيدون البعض منها بعملية الانتخاب.
*- “الحوار” المجدي مركّز منذ عشرات القرون على مبادئ اخلاقية وسياسية متفق عليها عالميا منها المبدأ الديمقراطي وما ينجر عنه من تطبيقات واستنتاجات مثل منظومة الحقوق والحريات ومبدأ سيادة الشعب وحقه في تحديد مصيره ومبدأ الانتخابات الحرة والسليمة ومبدأ التفريق بين السلطات ومبدأ “دولة القانون والمؤسسات” ومبدأ الدستور وعلوية احكامه ومبدأ استقلالية القضاء.
*- “الحوار” ليس ولن يكون موضوع تجارب طوباوية: إنه يُوجب استبعاد النظريات التي لم يقع التنظير لها ووضعها تحت محك النقد والتقدير العلمي. ذلك أن الشعب التونسي ليس موضوع تجارب “سريرية” او “كوباي”، يفعل به المفكرون السياسيون ما يريدون.
*- “الحوار” هو النشاط الفكري العائد بالفائدة والنفع على الناس في إدارة مختلف شؤونهم في الحياة الدنيا وفي كنف العدل والسلم والتضامن الاجتماعي. فما وراء ذلك لا يهم السياسة ولا السياسيين وهو متروك لمن له شغف خاص بما وراءه.
*- “الحوار” هو النشاط السياسي الذي يرمي الى وضع تصور سياسي متفق عليه من طرف اغلبية قوية ومستقرة مكونة من تيارات متجانسة ومتضامنة ومسؤولة تتعهد بتحقيقه تحت المراقبة الشعبية وتخضع لرصد معارضة ذات وزن سياسي مضمون قانونيا.
*- “الحوار” هو النشاط السياسي الذي يفضي الى الحوكمة الصالحة حصرا: هذا يعني ان كل من يمارس العمل السياسي يخضع الى المحاسبة والمساءلة وليس له ان يتفصّى منها بأي سبب.
*- “الحوار” يقع حصرا بين ممثلين اختارهم الشعب حسب نظام انتخابي دقيق وشفاف ومخلص. في هذا السياق، يتعين الإشارة الى الاقتراحات الصادرة في هذا الصدد عن الزملاء الصادق بلعيد وهيكل بن محفوظ وقيس سعيد في 2011 والى النظام الانتخابي الذي تقدم به الزملاء الصادق بلعيد وحسين الديماسي وأمين محفوظ في 2019، واللذين اثبتت الاحداث السياسية جدارتهما وملاءمتهما الكاملة مع المبادئ الديمقراطية المتعارف عليها عند الجميع.
تشر ياسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 2 نوفمبر 2021